بعد 9-4-2003 مباشرة حدثت صدمة اهليّة متراكبة، وهي مزيج من النشوة الهائجة والرعب البليد والشعور العاجز بالمسؤولية. واذا كان بالامكان وضع الحوادث، التي كانت متجمّعة ونافرة معا، في تسلسل قصير، واعطاؤها معنىً من الانتقام الحبيس والانتهاز المباغت للفرص المتحشرجة، ومن صرف انتباه ابناء البلد عن الوجود الأجنبي الكاسح، فانّ السلسلة تبدأ بسقوط نظام البعث الثاني على نحو مؤكّد وبسرعة باهتة، وبحلّ الجيش ودوائر الامن والاجهاز على المعسكرات ومستودعات القوات المسلحة وفتح السجون، وتنتهي بانتشار كل شئ غير متوقع من الفوضى الداعرة في كلّ شئ تقريبا والتي لا تحسب حسابا لرقابة او عقاب من اي نوع كان. هنا سيكون من المناسب للقارئ ان يستعين بعدد من الروايات والمسرحيات من امثال كريولانس لشكسبير والطريق الى دمشق لسترنبرغ ومسيرة ابناء الهاوية في quot; العقب الحديدية quot; لجاك لندن... الخ...الخ...ذلك الادب الذي كان يصوّر الروح الانساني التعيس وهو ينتشر بعماء اللحظة و الامل الطائش من فقدان الاتجاه ولستُ هنا بصدد وصف المظاهر جميعا ولكنّي استطيع ذكر بعض الامثلة الرمزية ذات الدلالة المتحركة، وهي امثلة شاهدتُ انا بعضها وروي بعضها الاخر لي من قربٍ قريب، وقبل ان اشرع في سرد الامثلة الموجزة سأذكر ثلاث ملاحظات، اعتقد انها متلازمة، الملاحظة الاولى تتعلق بعدم اكتراث الجيش الاميركي وسماحه لكل ما حصل امامه من تخريب ونهب، فهذا هو جزء من نظام هذه الحرب السريعة ومن ديالكتيكها ايضاً، وسيكون للشبهات وتقديرها مكان في مستقبل المعلومات، والملاحظة الثانية: انّ الافراد في بغداد، وهم الذين اخذت الامثلة من محيطهم، كانوا قد نكصوا وحاولوا ان يلوذوا بموقف الدفاع الضيّق عن الذات، وهؤلاء الذين يمثلون النسبة العظمى من سكان العاصمة، والذين أُخِذوا على حين غرة - كانوا مع ذلك - الاضعف ازاء الفاعلية المتلاطمة لدى الفئات التي يسوقها الانفلات المعتوه. الملاحظة الاخرى الشبيهة بتعليق مطوّل: انّ ذلك الوضع الذي رافق الاسابيع الاولى من الاحتلال هو حالة يمكن ان تحدث في جميع المجتمعات اذا لحقها جزء مما لحق بالعراق، وبضمنها المجتمع الاميركي، لكنّ خيبة الامل التي اعلنها فيما بعد عدد من الساسة العراقيين الذين كانوا قريبين من المحتل تمثل شططا ما بعده شطط، فقد كانوا يظنون انّ الاحتلال هو بديل للثورة الداخلية (وهو اعتقاد جدير باعادة التركيب النقدي من الوجهة الموضوعية التاريخية، مع العلم ان الاميركان استعملوا رسميا كلمة التغيير)، ومن هنا فقد اعتبروا العراق كيانا مجازيا اما الحقيقة التي كانوا يعطونها له فسرعان ما تبخرت، وظهرت المتاهة فارغة مخيّبة للآمال بعد الوصول الىquot; لبّهاquot;، واكمل المجاز العراقي طاغوته في الواقع السياسي على ايدي اولئك، فالمسافة التي تقع بين الرغبة في التغيير والتحقق منه قد ملأها الاحتلال وليس الثورة المأمولة ايديولوجيا بينما قامت النزعات الطائفية والعنصرية بتوسيع المسافة والمبادرة الى تزويد الحاضر بمستلزمات ذاكرة ارادويةاخرى تنكأ الذكريات المريرة التي ما زالت طرية لم تلتئم بعد، وصار الناس مستعدين توّا للتنازل عن الحرية مقابل استتباب الامن في منعطف حاد تتزايد وبالضرورة الاحتكاكات فيه
انّ السياسيين العراقيين، الذين جاءوا بالتوافق والتواقت مع المحتل، و عاشوا في الشتات، شهدوا مجتمعهم تناله مع قدومهم يدُ الفتنة والتشتت، ولم يكترث اغلبهم للتمزق الاخلاقي، بل ظهر تعبير الفساد المالي والاداري متصاعدا بتولي بعضهم المسؤوليات.وتلك احدى المفارقات، ولو كانت هذه الحكاية مجازية بالتمام والكمال لكان ذلك من المصادفات والمفارقات، ومن الطبيعيّ الاّ يكونوا سببا بنيويا في كلّ ذلك، او شرطاً ضرورياً، ولا شرطاً كافياً، ولكنهم كانوا ضمن تمهيدات 9-4 والتي تمادت فيما بعد وتراوح صداها بين الدعوة الى عراق جديد بعجينة مجازية تارة، اذا كان العراق شعارا للجميع، وبين كعكة واقعية اذا كان المقصود هو: انَّ كل العراق مخصص لبعض الجميع تارات. ولمّا كان الادب يتنفس عاليا في الفوضى فأنّه يحلو القول بأنّ كثافة اللامبالاة السوداوية، وفرط الرعونة التي امتاز بها الجهل المحملق في الزوايا كلها، والامل الزئبقي المذعور، هو ما كان يتعايش مع التباس المواقف من الوجود الاجنبي الجديد وازاء خطر التركة التي خلّفها الماضي العابث و الذي لن تنصرف تراكماته دون تكاليف متشعبة متلطّخة بالخوف داخل زنزانة انعدام الثقة و يتعايش ايضا وحتما مع بداية تذمّر لم يُطمَأنّ الى اعتباره مقاومةً بعد.
انّ المرء ليحق له ان يردد قولة سان جوست quot;رئيس ملائكة الحريةquot;، رغم اختلاف الزمان والمكان والتجربة، quot;انّ قوة الاشياء تدفعنا الى حيث ما لا نريدquot;
٭٭
التدريب في الهواء الطلق: في طريقي الى مسكني غرب بغداد، بين تراشق الدبابات الاميركية وعدد من المقاتلين العرب، صرت قريبا من مخازن واسعة للدولة، كان الناس مسرعين يحملون ما شاءوا من المخزون: ثلاجات، اجهزة تكييف، الواح خشب والمنيوم، صناديق،.... الخ، وصلتُ الى البوابة الرئيسة، وأُوقِفتْ السيارة عدّة مرات من قبل اشخاص مدنيين، عراقيين ـ، يطلبون ان ندخل، انا والسائق واسرتي، لناخذ ما نشاء.لم تكن وظيفة هؤلاء هي السرقة بحدّ ذاتها، ولكنّهم يحثّون عليها، فيما تشقّ السيارة طريقها وسط خطوط متلاحمة من العربات اليدوية والافراد المحملين بكل ما تقع عليه ايديهم، وبين الجنود الاميركان. كانت بابة هذه البناية ذات يوم، محكمة بحماية امنية صارمة، اذْ نها مدخل الى احدى المطابع السرية للنقود.يبدو المنظر، بتكامل المرشدين الى السرقة، وكأنه البروفة البدائية الاخيرة على اعمال المافيا التي ستدخل شيئا فشيئا الى عالم التخصصّ والتنظيم فيما بعد. (للاستطراد والتلميح، فقد اطلق الراجز الاموي الشهير رؤبة بن العجّاج على دار سكّ النقود في البصرة: دار الظالمين).

البنزين على النار: روى لي احد اساتذة التعليم الثانوي، انه بينما كان مارا امام وزارة التجارة، التي كانت تحترق تباعا ً، رأى اكثر من واحد من الفاعلين يخرجون من البناية وبأيديهم عبوات فارغة يملؤها لهم جنود اميركان من دباباتهم بالوقود ويعودون الى داخل الوزارة لتاجيج النار وهكذا دواليك. (تقع وزارة التجارة في الرصافة في المنطقة التي اختارها الخليفة المنصور لابنه المهدي مثابة للعسكر ثمَّ لتوسيع بغداد شرق دجلة، ومقابل جامع الخلاّني، وهو احد المقار ذات القوة الرمزية لدّى الشيعة، وقريبا من مدرسة الشيخ عبد القادر الجيلاني، في شارع الجمهورية الذي قد يكون اول علامة على الارض بعد14 تموز 1958.)
القاتل المأجور: كان ابن احد اخواني، قد ذهب الى السوق، في احد الاحياء الكبيرة غرب بغداد، وفي داخل السوق حيث كانت الاسلحة الخفيفة والمتوسطة تباع وتجرّب وسط المتسوقين، وهي اسلحة للجيش والشرطة المنحلين، رأى شاباً يقف في مكان بارز ويعلق على صدره يافطة مكتوب فيها بخط اضح: quot;قاتل مأجورquot;. (ابن اخي هذا قُتِل فيما بعد...).

الجذور والمرايا: قيل لمدير اكبر مستشفى لجراحة القلب في العراق، انّ مستشفاه ينهب ويحترق، اسرعَ الى هناك، ودخل فاذا هو مكتظّ بكلّ الاصناف من البشر عدا المرضى والاطباء، كان السرّاق يتناوشون مع الجيران الذين يحاولون انقاذ ما يستطيعون، اجزاء من المستشفى تحترق، والاجهزة والموجودات تحت الاقدام، قال لي المدير آنذاك: خرجتُ اركض الى الشارع للاستنجاد بالقوات الاميركية التي كانت تتوقف امام المتحف العراقي القريب من المستشفى، فوجدتُ تراشقا بين تلك القوات والمسلحين من العرب، لا احد سيكترث، وهنا رأيتُ المتحف وقد تحول الى ممرّ لكلّ من هبَّ ودبّ، يحملون ما قدروا عليه، فما كان مني الا ان حاولت لفت انظار الجنود الاميركان والمسلحين معاً الى المتحف ناسياً المستشفى صائحا: يا ناس.. انا لله وانا اليه راجعون..... (يقع المستشفى والمتحف في المنطقة التي تسمّى اليوم quot; علاوي الحلّة quot; غرب دجلة، في المكان نفسه الذي أسست فيه بغداد العباسية.).

عّقم اخلاقي: اوصل متطوعون جثة ما الى احد المستشفيات في شرق العاصمة، وكانت لشاب في مقتبل العمر، والمستشفى محمي بالقوات الاميركية بنجدة صحفي اميركي صديق لمدير المستشفى، توصّل العاملون الى اهل القتيل، فجاء ابواه، وكان الشاب يعمل في الصيرفة، اخرج لهما العسكري الاميركي ست اوراق نقدية اميركية فئة 100 دولار وُجدت في جيب الابن، فتنازع الابوان عليها امام الجثة، ثم اصطلحا بعد اخذ ورد ووساطة العسكري على ان ياخذ كلّ منهما نصفها، فما ان اخذا الميراث حتى ذهبا مسرعين تاركين الجثة وهي تفاجئ الاحياء بمصيرها الثاني في المستشفى. هذا ما رواه لي مدير المستشفى (من المفارقات التي قد لا يكون لها معنى اخلاقي لصيق أن هذه الحادثة وقعت في المركز الوحيد في بغداد، وربّما في العراق، للجراحة التقويمية، اي لجراحة اعضاء الجسد وليس للطب النفسي ndash; الاجتماعي.)
٭٭
لا شكّ في انّ quot;بطاريةquot; الفوضى كانت مهيأة للشحن قبل 9-4-2003، لأسباب عديدة اكثرها مباشرة هو ما يتعلق بالحصار العامّ، الداخليّ والخارجيّ، وقد كان الاحتلال يمثّل ايعازاً بتشغيل تلك البطارية، وايجاد ظروف مناسبة لانتقال الفوضى على نحوٍ سياسيّ، بالخصوص، الى ان تكون ذريعة للحلول التي اتصفت بالاخطاء، والتعقيد الذي يلازمه التناقض.
كانت الحلول الممكنة لسلطة الاحتلال، والحلول الحتميّة، قد بدأت بالتشخيص quot; العاطفيّ quot; لمشكلة الحكم في العراق، وقد اسهم في هذا التشخيص عراقيون قضوا سنوات مؤثّرة خارج البلاد، فألغي الجيش و الاجهزة الامنية، وصار المجتمع نهبا للتوزيع الطائفيّ والعرقيّ ومن ثم التفريعات الصغرى كالاحزاب اعتمادا على quot;المحاصصةquot;، وهذه من الحلول التي تمكنت من الاعلان عن نفسها في ظروف الفوضى السرطانية، وقد تقبّلها اكثر quot;الساسةquot; بعد الاحتلال مباشرة، وبتأييد من الاميركان، الاّ انّ الخلط العاطفيّ بين الوسائل والغايات، اظهر خطر هذا الحلّ، وتطوّره الى مشكلة جوهرية متازّمة أُلقِيت وسط المجتمع عبر ممثلين اقتحموا المسرح في ظرف طارئ، وكان الخطر قد استشرى في 2006 متمثلا بالتهجير. فلم يكن العراقيون يعرفون هذا النوع من الحلول، على الاقل بسبب وجود دولة يمكن ان تطاع، و قد تعايشوا في انماط مختلفة المستويات، ابتداءا من العشائر المختلطة، والجيش، والمدارس، و ذراري الزيجات المتلابسة طائفيا وقوميا، ثم الاحزاب العمومية، والنقابات ثم فضاء الحياة اليومية للمدن الغنية بالتطلعات البينية (التطلع العربي الى الاكراد والكردي الى العرب وهكذا)، وكل هذه الانماط كانت تؤخذ بالاعتبار دائما، سلبا وايجابا.
ومما يؤسف له حقا، انّ شرعية الادارة العراقية قد اصطبغت بظرف الاحتلال وبالفوضى، وحاولت ان تكتسب دعما سياسيا لقراراتها من خلال quot;الذاكرةquot; التي هي رهينة التقصير، اذا اردنا ان نجعل من افكار شكسبير اقوالا مضاعَفة، كما ان تلك الشرعية بقيت تخلط بين الوسائل والغايات على نحو عاطفي، مما لم يسمح بظهور الاثر العقلاني والواقعي ّ للتجربة السياسية (وقد يكون هذا بسبب الاحتلال مضافا اليه عدم تصور تولي المسؤولية العامة والنقص الفادح في الاعداد العملي، والتركيز الايديلوجي المجازف والمبالغ فيه. ومن الضروري الاحتفاظ بوصف وتحليل خاصين لوضع الاكراد الذي يمثل ثقلا استثنائيا في السياسة العراقية اليوم)، وبالتالي لم يُسمَح للرأي العام ان يلمس جدوى quot;الخنوثة الكاذبةquot; للسلطة، والتي سميت quot;التوافقquot;، فقد كان المجتمع يرى نفسه يتيما، فيما يرى عقم القيادات.
وقد تبدو التجربة الانتخابية، حتى ولو تمّت في ظروف غير نزيهة، مؤشرا على حيوية ما لمجتمع يريد ان يتخلّص من عقابيل الفوضى والتوزيع غير العادل واللامجدي للوظائف العامة، مجتمع قد لا يندفع في التجربة ولكنّ فتورَهُ لا يمنعه من التعليق عليها، فاغلب الذين يتحدثون في وسائل الاعلام، من بين المواطنين، يتساءلون عن الشيء الذي جنوه من ممثليهم، وقد يتوصلون الى حلول صائبة كليا على المستوى السياسي، خاصة حين يطلبون من السياسيين التخلص من المحاصصة، او مما نسميه: الخلط العاطفي بين الوسائل والغايات، ففي الخلط تنتعش الفوضى التي تواصل انتاج مردوداتها الفاسدة، وتزيد من عتمة السلطة الفعلية، فيما يتكشّف ضعف المفاصل الاجتماعية بعد انّ تمّ اهمال عناصر قوتها، ولا يمكن في ذلك الخلط ايضا التوصل الى بناء دولة عقلانية بدرجة ما، وواقعيّة، يستطيع الافراد ان يتعرّفوا عليها ويجدوا لها تعريفا. انّ الهشاشة والارتباك، من ابرز المضاعفات التي تنعكس على الراي العام الذي لا يحتاج الى براهين على اصطباغ الوضع السياسي بهما، كما انهما لا يمكنانه من التحكم التقريبي بانطباعاته نظرا للعواطف غير المتوازنة والتي تبدو متساوية في القيادات المختلفة، وبهذا قد يخسر المجتمع تعبيره الملائم بتوزُّعه بين الياس التامّ وعدم الاكتراث، كما عند بطلٍ من تشيكوف، والاستمرار في تكرار السؤال الخالد لطائر الببغاء المقفوص quot;لماذا؟quot;، الذي لا يطمع في جواب، (ولكنه يشكل لازمة في محاورة quot;جلسة الاشباحquot; لمحمود البريكان).