محمد الدليمي

كما فاجأت ردود فعل الشعب الإيراني العنيفة على نتائج الانتخابات الرئاسية اغلب المراقبين والمحللين السياسين في مراكز الابحاث الدولية والذين كان جُل انشغالهم قد انحصر برصد مسارات التسلح النووي ومتابعة آثار النفوذ الايراني المتزايد في ساحات هامة كالعراق ولبنان وغزة والخليج العربي وغيرها بعيداً عن بذل أي جهد لدراسة تفاعلات الداخل الإيراني ومعرفة انشغالات الفرد العادي وطريقة تفكيره وتقييمه لمجريات الصراع الكامن منذ فترة طويلة بين النخبة المسيطرة وعموم الشارع اوتفحص شكل الصراع وحجم مستوياته بين اعضاء النخبة السياسية أصلاً. هذه النخبة التي برزت الى الرأي العام بصورة تبدو من خلالها غير منسجمة فيما بينها على الاستراتيجية العليا للنظام وهذا ما كشف لنا عن وجود أختلال جوهري وعدم تجانس في قمة الهرم السياسي وللتأكد من ذلك يتمكن المراقب المحايد للأحداث ببساطة من رؤية حدة وتناقض ردود افعال اعمدة النظام وحافظو بواباته ازاء التطورات السياسية والأمنية الجارية مؤخراً في البلاد والتي تراوحت من التأييد المطلق للرئيس محمود نجاد وسياساته المثيرة للجدل في الداخل والخارج الى معارضته جهاراً عبر تصريحات وخطب نارية معترضة على هذه السياسات والبرامج وصلت الى حد صدور فتاوى دينية من مراجع شيعية معتبرة تطالب علناً بنزع شرعية الرئيس الأيراني المشكوك بصحة انتخابه من لدى شرائح واسعة من الشعب والمطالبة بأبطال حكومته وتصويرها على انها سلطة فاقدة للشرعية . ومن خلال مراقبتنا للمشهد السياسي المتأزم في عموم هيئات الحكم نستطيع ان نكتشف بأن الصراع الدائر حالياً في إيران بين القوى النافذة هو في أحد اوجهه ليس تنافساً او نزاعاً على مواقع الحكم والسلطة كما هو الحال في بلدان عديدة مثلما جرى في جورجيا او كولومبيا أذ اننا نرى بوضوح تصارع طرفين على السلطة بين المعارضة والحكومة أنما الأمر في إيران هذه المرة مختلف جداً فالصراع القائم هو اصلا بين اناس هم من اعمدة الحكم الرئيسية ويتمتعون بمراكز نفوذ وصلاحيات قوية ويترأسون هيئات مهمة وربما حتى المترشحين للرئاسة أمثال موسوي وكروبي ورضائي هم ليسو بعيدين عن مركز صنع القرار السياسي بحكم مناصبهم وادوارهم السابقة في ترسيخ حكم الثورة الإيرانية واشغالهم لمراكز عليا او قربهم في اوقات لاحقة من المرشد الأعلى السيد خامنئي ولذا فأنني استطيع ان أقرأ المشهد الإيراني الحالي بتجلياته وتوقعات مسار الأحداث القادمة وفقاً للتفاعلات القوية والنشطة وطبيعة انتقال النخب من موقع الحكم الى المعارضة او بالعكس ومثلما يقول الملك المغربي الراحل الحسن الثاني في كتابه (ذاكرة ملك) ان السياسة ليست فن الممكن فحسب انما تتعداها الى فن التوقع ..هذا التوقع ليس ضرباً في الغيبيات لكنه ما يستند الى دراسة هذه التفاعلات السياسية والتفتيش عن جذور المشكلة وليس تفحص اغصان الشجرة المريضة .. فإيران في هذه اللحظة تشبه الى حد ما شجرة مريضة تنتظر من يصف لها العلاج او اللقاح المناسب قبل ان نشاهد تيبسا يبدأ من جذورها قبل اغصانها بعد ان تكون المياه التي تغذيها قد جفت من حولها .. ومن خلال تتبع عناصر الأزمة السياسية والتي كما أعتقد ويعتقد مثلي الكثيرون انها أزمة تتعدى في حجمها وتأثيراتها السلبية قضية النزاع والتنافس على نتائج الانتخابات الرئاسية فهي في المحصله اشكالية حكم ونظام فقد بوصلة التوجهات والبحث عن هوية جمعية للشعب الإيراني الذي يمتلك تطلعات تتجاوز قابلية النظام الحاكم .

وفي لب الموضوع ارى ان ايران تتجه في زمن ليس ببعيد الى واحداً من الأحتمالات التالية .

اولاً.. أن تستمر حركة التجاذبات بين اطراف الحكم والمعارضة بين الكر والفر وربما انتقال المعارضة من شكل الى آخر من وسائل الاحتجاج والرفض تحت تأثير ضربات آلة القمع والشدة التي تستخدمها مؤسسة الحكم الا ان المنطق السياسي يقول ان اذرع السلطة القوية والشديدة في أي بلد في العالم لا يمكن لها ومع استمرار حركة الاحتجاجات والرفض لنتائج الانتخابات ان تضل بنفس الزخم والقوة ومع تنامي وتزايد السخط على الخسائر والضحايا فانها لابد في النهاية وان تشهد حالة من الكسل وارتخاء قبضتها بسبب ان هذه الأدوات والأجهزة القمعية لا يمكن لها ان تستمر في استخدام البطش بالمعارضين الى ما لانهاية بسبب ان اتساع حركة التمرد وتداخل الواقع الايراني المركب بين النفسي والديني والتأريخي ومدى تأثر افراد أجهزة القمع المتمثلة بعناصر البسيج والحرس والمخابرات بفتاوىً صادرة عن مراجع شيعية عليا لها سطوة ونفوذ ديني قوي ربما يتجاوز هالة وتأثير المرشد خامنئي فلا بد لها ان تضعف شوكتها وتتعاطف بقدر ما مع اصوات الناس المحتجين والمناوئين لحكومة نجادي وعندها سنلاحظ انقساما خطيرا عموديا وافقيا على الساحة السياسية الايرانية مما يقوض شرعية نجاد التي تعاني من خروق كبيرة وعندها سيصعب الأمر على الراقع مما يسهم في بروز طبقة سياسية جديدة تتشكل من رفسنجاني وموسوي وكروبي وخاتمي او ما يسمى بالثورة المخملية الناجحة وعندها ستختفي رموز من الحرس القديم والمحافظين ونشهد سيطرة للاصلاحين الجدد تحت لافتة استمرار وتجديد الثورة وسوف يحدث بشكل متدرج تغييرا في السياسات الداخلية والخارجية للنظام الحاكم وربما هذا سيحصل عندما يكون هناك تململاً او انشقاقا في اوساط قيادات نافذة في الحرس الثوري والذي يعد القوة الضامنة لاستمرار حكم الولي الفقيه السيد خامئني . فهذه القوة شديدة التدريب ستغير ولاءاتها في اللحظة المناسبة هذه اللحظة ستأتي عاجلا او آجلا عندما تتبلور قناعة لديها بأن مستقبلها صار يلفه الغموض في ظل استمرار الأزمة وتعقد حلها .. ومما لا شك في ان المراقب للشأن الايراني في الماضي القريب والبعيد يمكن له ان يرصد سرعة تبدل موقف جنرالات جيش شاه ايران وولائهم لرضا بهلوي وكذلك تفكك جهاز مخابرات الشاه القوي ( السافاك) بفترة وجيزة تحت تأثير فتاوي وأحتجاجات الشعب الايراني على الرغم مما عرف عنهما من شدة بأس وقوة تدريب وعناية فائقة اولاها لها الحكم الشاهنشاهي السابق . .

ثانيا ..ً ان تقود سلسلة الأحتجاجات والرفض الحالية الى تخلخل وانحسار قاعدة النظام الشعبية وتضاؤل مساحة الأرضية الايدلوجية للنظام المرتكزة على مجموعة من الفتاوي والولاء للمذهب وطاعة آيات الله ورجال الدين وعلينا هنا ايضا ان ننتبه الى الخلفية التأريخية والنفسية للفرس والشعب الايراني القائمة على سرعة تغيير الولاء والانتفاض على الحاكم مهما كان شكله ولونه فالشخصية الايرانية في جذورها ميالة الى التغيير والتمرد على الرغم من الأنطباع السطحي عنها بانها شخصية تستكين للحكم او موالية على طول الخط وبالتالي فأنه من غير المستغرب ان استمرار التمرد والاحتجاج والرفض يعبر في أحد صوره عن رفض عميق لمنطلقات النظرية وسياسات النظام الديني الحاكم برمته وليس مجرد الاعتراض على نتيجة انتخابات فهذا النظام قد انعكست سياساته خلال العقود الثلاثة المنصرمة عبر ارقام مخيفة من ازدياد في نسب الفقر والحرمان والبطالة والقمع والكبت وشعور الفرد الايراني العادي بأنه لم يكسب من الحكم الديني سوى المزيد من الشعارات والوعود التي لا تقدم له شيئاً وبذلك فمن غير المستبعد ان تفرز هذه الحركة والتمرد على النظام في المستقبل قيادات جديدة لها من خارج دائرة موسوي وخاتمي وكروبي وسواهم بمعنى ان المعارضة واتساع حالة الرفض الشامل ستصنع لها قيادات شابة تتضافر جهودها مع قوى أخرى في الداخل والخارج الى بلورة صيرورة نظام سياسي يختلف عما نتصوره من رؤية ما يسمى بالأصلاحيين وعندها يمكن ان نرى اربعة او خمسة دول في ايران الحالية وهذه الكيانات ستحضى بلا شك بدعم دولي وأقليمي انطلاقا من قاعدة دفع الضرر الأكبر بالأصغر .

ثالثا . ان يستمر حكم الولي الفقيه ونجادي بما يمكنه من التعايش لفترة مع هذه المعارضة الى حين تقفز مجموعة من الجيش والحرس لتعلن عن السيطرة على الحكم بلباس جديد وشعارات اخرى وعندها سنرى دخول ايران الثورة في نفق يشبه حكومات الانقلابات العسكرية في بلدان العالم الثالث مع السعي الى انتهاج سياسات متشنجة او متوترة في الاقليم ربما تصل الى حالة الهروب الى امام بأشغال المنطقة بحروب او نزاعات توسعية تحت مضلة الأخطار الخارجية وغيرها .

وفي الختام اريد ان اصل من خلال هذه المقالة التي تختزن بين سطورها عناوين لبحوث مستفيضة الى نتيجة ان ايران الحالية هي عبارة عن شجرة مريضة يمكن ان تستمر بمرضها لفترة وتتعايش مع علتها المزمنة بما لا يمنع الخوف من ان تُعدي هذه الشجرة اشجارا تجاورها لا تعلم بحجم مرض هذه الجارة القريبة ولذا فالتنبه والتحسب للقادم الايراني واجب على دول الجوار لأن ايران ليست دولة هامشية فمخاطرها جمة وأخطارها لا تعد.


كاتب وباحث عراقي