لو أن فرنسا عرفت وطبقت مقولة quot;في كل شهر يوم غير ميمون فادفعوه بالصدقةquot;، ترى كم يلزمها من أموال تتصدق بها حتى تدفع أيام النحس التي ما تزال تعيشها منذ هزيمة منتخبها الوطني في مباراة كأس العالم؟ وهل ستبادر السيدة بيتنكور، أغنى امرأة في فرنسا، فتتصدق بما تملك دفعا لأيام النحس هذه، خصوصا وأن ثروتها هي وراء الفضيحة الأكبر في مسلسل الفضائح الفرنسية؟

أصبحنا أضحوكة للعالم
quot; لقد أصبحنا أضحوكة العالم quot;، هذه هي اللازمة التي ظلت فرنسا ترددها بعد خسارة منتخبها الوطني. والمقصود هنا، هو المعنى الرياضي الصرف لمفردة ألعوبة، أي الخسارة الرياضية المدوية التي مني بها الفريق الوطني الفرنسي، نتيجة لتواضع أداءه، ولتصرفات بعض لاعبيه، وعدم كفاءة المدرب. ومنذ أن بدأت أيام النحس الرياضية بدأت معها الانتقادات الشنيعة، والتي لم توفر أحدا من المسؤولين في ميدان كرة القدم.
ففي ما يخص أعضاء المنتخب الفرنسي لم تظل مفردة في قاموس الشتائم الفرنسية إلا وقيلت بحقهم. وعندما وجد البعض أن الشتائم وحدها لا تشفي الغليل، فأنهم لجأوا لاستعادة عملية الغش التي كان اللاعب تيري هنري قد نفذها، عندما لمس بيده الكرة، وبفضلها تأهل المنتخب الفرنسي إلى نهائيات كأس العالم، فقالوا: نستأهل نحن الفرنسيون الخسارة، لقد quot; دخلنا إلى تصفيات كأس العالم من الباب القذر وها نحن نخرج منها من الباب القذر نفسه.quot;
لكن الأمر لم يتوقف، لاحقا، عند الشأن الرياضي، ولعبة كرة القدم. إذ سرعان ما تحولت كرة القدم الفرنسية إلى كرة ثلج بدأت تتدحرج ويكبر حجمها يوما بعد آخر، فتحول الأمر من مجرد خسارة رياضية إلى خسارة سياسية/ اجتماعية/ ثقافية، تم توظيفها باختلاف الأطراف الفرنسية التي شاركت في هذا السجال، وباختلاف الأغراض التي تريد كل جهة من هذه الجهات تحقيقها.
ففي اللحظات نفسها التي كان فيها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يستقبل اللاعب الفرنسي تيري هنري في قصر الاليزيه ليعرف منه ملابسات ما حدث، فأن رؤساء كبريات النقابات العمالية كانوا يدلون بتصريحات قاسية ضد ساركوزي، متهمين إياه بالتهرب من مواجهة المشكلات المعاشية الكبرى التي تواجه الفرنسيين، كتزايد معدلات البطالة وتراجع قيمة اليورو وقضية تعديل قانون التقاعد. وقال رئيس واحدة من هذه النقابات: quot;إنه من غير اللائق أن يكرس رئيس الجمهورية وقته لاستقبال لاعب يحصل على 15 مليون يورو سنويا، في وقت يستمر الفرنسيون في التظاهر للمطالبة بتحسين ظروفهم المعاشية.quot;
وفي الطرف الآخر، كان قادة اليمين المتطرف المعادي لوجود الأجانب في فرنسا منهمكين في قراءة (النوتة) الموسيقية الرياضية ذاتها، لكنهم كانوا يعزفونها بصوت أكثر صخبا وبالطريقة التي تلائم أطروحتهم السياسية: فشل سياسة التعايش بين الجاليات المهاجرة والفرنسيين، عموما، وفشل سياسة الرئيس ساركوزي الذي يتهمه اليمين المتطرف بسرقة أصوات ناخبيه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أوصلته إلى سدة الرئاسة. فقد رأت نائبة رئيس حزب الجبهة الوطنية، ماري لوبين، أن خسارة الفريق الفرنسي حدثت لأن أعضاء المنتخب الفرنسي ينتمون إلى أعراق وديانات مختلفة، وهي بهذا الكلام تردد ما سبق أن قاله أبوها، لوبين، بأن الفريق الوطني الفرنسي لكرة القدم ليس سوى فريق quot;مصطنعquot;، في أشارة إلى كثرة اللاعبين الفرنسيين من أصول أجنبية.
ولم يجد أحد قادة هذا الحزب إلا المنتخب الوطني الفرنسي ليقارن به سياسة الرئيس ساركوزي، فقال إن ساركوزي هو صورة مطابقة لصورة quot;فريقه الوطنيquot; لكرة القدم: عنجهية فارغة، وعجرفة، وتحايل، وإدعاء، لكن النتيجة في الملعب هي صفر.quot;
ولم يقتصر الأمر على الرياضيين والساسة فحسب، وإنما شارك في السجال إعلاميون ومثقفون وعلماء اجتماع، حتى وصفت خسارة الفريق الفرنسي بأنها quot;أزمة نظامquot; بأكمله.
وعندما بدأت الأمور تتفاقم وتصل إلى حد لا يطاق بدأ البعض يحذرون من تحويل هذه الخسارة الكروية إلى quot;مأساة وطنيةquot;، ويطالبون بوقف عملية quot;جلد الذات الجماعيةquot; التي انغمرت بها الأمة الفرنسية، وتكريس جهود الجميع لمواجهة الصعوبات الحقيقية الكبرى التي تمر بها البلاد، بدلا عن البكاء على كوب الحليب الفرنسي الذي انسكب على في ملاعب جنوب أفريقيا.

أزمة سياسية - أخلاقية
وقبل أن يصمت أولاءك (الحكماء)، وقبل أن يجد الفرنسيون الوقت اللازم لالتقاط أنفاسهم وتطبيق تلك النصائح، وقبل أن يحزموا حقائبهم استعدادا للسفر وقضاء عطلة صيفية هانئة، حتى عاجلتهم فضيحة أخرى أشد مرارة هي، فضيحة (روث- بيتنكور)، مثلما باتت تعرف في الأوساط الفرنسية، والتي تفجرت من حيث لم يتوقع أحد، أقله من الطبقة السياسية.
بدأت هذه القضية كمشكلة شخصية تهم أفراد عائلة السيدة الفرنسية، لكنها سرعان ما تحولت إلى قضية دولة. فقد كشفت عمليات تنصت تلفونية وتصريحات لعاملين سابقين في شركة السيدة بيتنكور عن تسلم السيد أرك روث، ويشغل في آن واحد منصب وزير العمل ومسؤول مالية الحزب الذي ينتمي إليه الرئيس الفرنسي، مبلغا ماليا مهما من السيدة بيتنكور، لتمشية شؤون الحملة الانتخابية التي فاز خلالها ساركوزي في الرئاسة، وهو أمر يعد مخالفة قانونية ويدخل في باب الفساد المالي/ السياسي. بعد ذلك نشرت بعض وسائل الإعلام شهادة نسبتها إلى مسؤولة حسابات سابقة عند السيدة بيتنكور قالت فيها أن الرئيس ساركوزي نفسه، عندما كان رئيسا لبلدية ضاحية (نيي)، كان ضيفا مزمنا على مائدة آل بيتنكور، وكان يحصل منهم على أموال تسلم له داخل مظاريف. ونزلت هذه المعلومات كالصاعقة على رؤوس الجميع في فرنسا، وراحت وسائل الإعلام تتابعها أولا بأول، خصوصا وأنها حدثت في وقت لا يمل فيه الرئيس ساركوزي من الحديث عن الشفافية، وبناء quot;جمهورية فرنسية لا عيوب فيهاquot;. وكلما كان الرئيس ومؤيدوه يحاولون الرد أو التوضيح أو القيام بهجوم مضاد، كانت الصحافة الفرنسية تنشر معلومات جديدة، حتى ضاق الرئيس ومساعدوه ذرعا بما ينشر، وخرجوا عن طورهم، فوصفوا ما ينشره بعض الصحفيين من اتهامات ضد الرئيس بأنه quot;ممارسات فاشيةquot;. ولم يتأخر الرد. فقد نشرت صحيفة لوموند الراقية افتتاحية بعنوان quot; أزمة سياسية، أزمة ثقةquot; قالت فيها أن الصحافة هي quot;المحرارquot; الذي تقاس به درجة حرارة المريض ليسهل على الطبيب تشخيص حالته وعلاجه، ولكن quot;الطبيبquot; ساركوزي يسلك أسهل السبل، فيريد quot;كسرquot; المحرار نفسه، بدلا عن معالجة المريض. ثم أضطر الرئيس الفرنسي لتوضيح الأمور من خلال مقابلة أجرتها معه أحدى القنوات التلفزيونية. وما تزال هذه القضية تتفاعل، رغم أنها هدأت بعض الشيء.

وزارة الخارجية الفرنسية منطقة (منكوبة)
وبالتزامن مع هذه الفضيحة الكبرى تفجرت قضية أخرى لها علاقة، هذه المرة، بوزارة الخارجية الفرنسية.إذ، نشرت صحيفة لوموند إياها بتاريخ 17/7/2010 مقابلة مع السيد جان- كريستوفر ريفين، سفير فرنسا السابق في السينغال، (شرشح) خلالها وزارة الخارجية الفرنسية إلى حد اعتبارها منطقة (منكوبة). وقال أن تركه لمنصبه كسفير لفرنسا في دكار كان قد تم بطلب من الرئيس السينغالي عبد الله واد، لكره الأخير له. وانتقد روفين بشدة وزير الخارجية الحالي كوشنر بسبب ضعف أداءه، وقال أن من يدير السياسية الخارجية الفرنسية مع القارة الأفريقية ليس وزير الخارجية، إنما هو، بالأحرى السيد غينو، السكرتير العام لقصر الإليزيه. وتأتي أهمية هذه الشهادة من أهمية صاحبها. فالسيد روفين ليس شخصية فرنسية عادية، فهو روائي حائز على أرفع جائزة أدبية بفرنسا، وعضو في الأكاديمية الفرنسية، وطبيب، وناشط سابق في مجال الخدمات الإنسانية، ونائب سابق لجمعية أطباء بدون حدود، ودبلوماسي، ومستشار سياسي، وصديق حميم لوزير الخارجية الحالي، برنارد كوشنر. ولأهمية هذا الحدث فقد تمت تغطيته من قبل كبريات الصحف الفرنسية اليومية والأسبوعية، ومن قبل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة. وحفزت شهادة السيد روفين أثنين من وزراء الخارجية السابقين هما، السيد هيبرت فيدرين وآلين جوبيه فنشرا مقالات انتقدا فيها بشدة أداء الخارجية الفرنسية، ثم رد عليهما الوزير كوشنر بمقال توضيحي.

ضيوف قمعوا شعوبهم
وبالتزامن مع هذه القضية الدبلوماسية والفضائح المالية التي سبقتها تفجرت قضية أخرى تتعلق، هذه المرة، بدعوة الرئيس ساركوزي لرؤوساء بعض الدول الأفريقية للمشاركة بالاحتفال السنوي بمناسبة ذكرى الثورة الفرنسية في 14تموز، ومعهم وحدات عسكرية رمزية من بلدانهم، بمناسبة الذكرى الخمسين لاستقلال بلدانهم عن فرنسا. وكان هولاء الرؤوساء قد استقبلوا، حال وصولهم باريس، بتظاهرات استنكارية شارك فيها فرنسيون وأفارقة. وارتفعت أصوات في فرنسا تقول أنه من الخزي أن تحتفي فرنسا بهولاء الرؤوساء وبتكريم جيوشهم، وأغلبهم وصلوا إلى الحكم عن طريق انقلابات عسكرية، وتورطت جيوشهم المحلية بعمليات قمع داخلية ضد مواطنيهم الأفارقة.

مؤسسات راسخة وتقاليد ديمقراطية تمنع الانهيار
قطعا، النظم الرأسمالية ليست جنان الله على الأرض. وماركس ما كان حالما ولا طوباويا عندما هاجم الرأسمالية. ويبدو أن الأنظمة الرأسمالية الغربية كلما شاخت وهرمت كلما بانت عيوبها، بل أمراضها أكثر. والصعوبات المالية والاقتصادية الكبرى التي تواجهها، حاليا، هذه الأنظمة لا يبدو أنها سحابة صيف عابرة، بل هي (أزمة) حقيقية، مثلما بدأ يصفها حماة هذه الأنظمة أنفسهم. وما دمنا نتحدث عن فرنسا، فأن الإجراءات التقشفية التي هدد الرئيس ساركوزي وحكومته بتطبيقها خلال الأشهر القادمة، خصوصا فيما يتعلق بتقليص أو ربما حتى إلغاء المكتسبات التاريخية التي حصل عليها الفرنسيون في ميادين الضمان الاجتماعي والصحي والخدمات العامة، بدأت تثير هلع الطبقات الفقيرة والوسطى. ومنذ أن بدأ مسلسل الفضائح التي تحدثنا عنها، ارتفعت معها أصوات لمثقفين وفلاسفة وإعلاميين فرنسيين وهم يتحدثون عن فرنسا (الحاكمة) وفرنسا (المحكومة) ويجدون أن عمليات الغش والخداع والفساد تكمن عند فرنسا الأولى وأما فرنسا الثانية، أي الطبقات الشعبية، فهي الضحية التي تدفع الثمن غاليا،.بل أن البعض من هولاء بدوا يتحدثون عن أزمة (الديمقراطية) نفسها.
لكن هذا كله لا يخفي الجانب المشرق من اللوحة. وهذا الجانب يتمثل في وجود دولة مؤسسات راسخة، وفي وجود مجتمعات نابضة بالحيوية، وإرادة شعبية يهابها الحكام، ولا يقدمون كشف حساباتهم إلا أمامها وحدها. فعندما وجد الرئيس ساركوزي نفسه في ورطة فأنه لم يهدد بفرض الأحكام العرفية، ولم يذهب لطلب العون من مرجعية عشائرية أو دينية أو مذهبية، ولم يصدر أوامره باعتقال الإعلاميين الذين كانوا يحصون عليه أنفاسه. الجهة الواحدة والوحيدة التي هرع نحوها ساركوزي هي الشعب، عندما ظهر في ندوة تلفزيونية وهو يشرح ويفسر ويوضح ما حدث، وما ينوي تطبيقه في قادم الأيام. فالشعب هو الذي اختاره، وهو الذي ينزع عنه الثقة. ولا يهم أن كان الرئيس الفرنسي قد نجح في إقناع الفرنسيين أو لم ينجح، رغم أن استطلاعات الرأي تقول أنه لم ينجح. المهم هو أن هذه الفضائح لم تؤثر على أداء مؤسسات الدولة قيد شعرة، بل أن الأمر يبدو وكأن هذه الفضائح قد حدثت في مكان أخر غير فرنسا، رغم أن كبريات النقابات العمالية بدأت تهدد، منذ الآن، بتحويل شتاء فرنسا القادم إلى أيام ساخنة، لمنع الرئيس الفرنسي وحكومته من المضي قدما في تطبيق خططه التقشفية.