الحلقة الأولى

خاض المالكي في بداية العام الماضي انتخابات المحافظات بقائمة منفردة، و كرر ذلك في الانتخابات التشريعية الأخيرة، رغم محاولات حلفائه السابقين لثنيه عن ذلك؟ هل إقدامه على انجاز تلك الخطوة جاء نتيجة تقاطع في الرؤى الإستراتيجية مع حلفائه، ولانقلاب ثقافي جذري أنضجه تأمل فكري طويل، وقناعات مستجدة، أم أنه فعل ذلك بدافع رغبته في التمسك بمنصبه الرئاسي، وبأبهة الدولة، ليس إلا، وبالتالي فأن انفكاكه عن الائتلاف الموحد كان بدوافع شخصية نفعية؟
لا نظن أن هذه الأسئلة يمكن الإجابة عليها بنعم أو لا، لأن الجواب لا يتعلق بشخص المالكي، فحسب، وإنما يتعلق، أيضا، بل قبل كل شيء آخر، بالواقع العراقي المعقد جدا، ويتعلق ببنيوية العقل السياسي العراقي عموما، وفهم هذا العقل للديمقراطية، و فلسفة التداول السلمي للسلطة، ومفهوم المواطنة، والتعامل إزاء المنصب الحكومي. في ما يخص شخص المالكي، علينا التحدث عن مالكيين أثنين وليس عن مالكي واحد: ما قبل الانتخابات الأخيرة، وما بعدها. المالكي الأول أقترن ب(الحل)، والمالكي الثاني اقترن ب(تعقيد) الحل.
الحل الذي قلنا أن المالكي اقترن به تمثل، أول ما تمثل، في تأكيد ابتعاده، أو بالأحرى محاولة ابتعاده من دائرة التحالف المذهبي بلونه الواحد إلى النطاق الوطني العراقي الأرحب. نظريا، تجسدت تلك المحاولة في عشرات التصريحات والخطب التي أعلن المالكي عبرها أنه بدأ يسير في درب جديدة. عمليا، تجسدت نتائج تلك المحاولة في عبور المالكي لما كانت تعتبر بمثابة خطوط حمر، كمان البعض يعتبرها: إقدامه على خوض معارك شرسة ضد المليشيات الشيعية (أطلق عليها تسمية الخارجين عن القانون)، نقده العلني لمواد الدستور الذي ساهم هو وحزبه في كتابته، نأيه عن مشروع الفيدرالية الشيعية، تأكيده على مفهوم المواطنة العراقية الشاملة، سعيه لخلق مسافة بينه، كرئيس لحكومة عراقية، وبين النظام الإسلامي في إيران.
هذه المواقف المالكية اقترنت أو ترافقت مع استتباب الأمن، خصوصا بعد ظهور (الصحوات) التي غيرت ميزان القوى، والتي رحب بها المالكي ودعمها، لكن مواقف المالكي ترافقت مع عودة العراقيين السنة للمشاركة، وبقوة، في العملية السياسية، أو ربما كانت مواقف المالكي سببا رئيسيا لتلك العودة.
بالتأكيد، المالكي لم يكن (هرقل) سياسي حتى يحقق كل هذه الانجازات بمفرده، إنما هناك من ساعده. فتحسن الأوضاع ساهمت في خلقه الولايات المتحدة (زيادة عديد قواتها وتشكيلها للصحوات)، وظلت إدارة الرئيس السابق بوش تؤكد أنها تشتري الوقت لحكومة المالكي بدماء جنودها. عراقيا، حكومة المالكي دعمها حلفائه السابقون، خصوصا المجلس الأعلى الإسلامي، الذي ساند حكومة المالكي في أوج أزماتها وحال دون سقوطها. مع ذلك، فأن دور المالكي لا يمكن تجاهله، والأصوات التي حصلت عليها قائمته في انتخابات المحافظات والانتخابات الأخيرة هي مكافأة لدوره في ترطيب الأجواء، واعتراف بإمكانيته في ردع جماعات العنف السنية والشيعية، ودعم لتوجهاته في ترسيخ مبدأ المواطنة، وتشجيع له لتحقيق المزيد من الانفراج.
لكن، هذا الوهج المالكي سرعان ما بدأ يذبل، و الاندفاعة الصاروخية تحولت إلى مراوحة، مباشرة بعد الإعلان عن فوز قائمته بالمرتبة الثانية، والعراقية بالمرتبة الأولى، أي تراجع حظوظه في الحصول على ولاية ثانية. هنا، تحول المالكي من (حلال المشاكل) إلى خالق لها، ومن رجل المواقف الاقتحامية المتقدمة المنفتحة، المغني خارج سربه السابق، إلى (الولد الضال) العائد إلى عائلته نادما ومتوسلا، وإلى رجل المساومات اللحظوية، التي تضمن بقائه في منصبه، بأي ثمن، حتى لو كان مسا بكبريائه الشخصي (منذ عودة المالكي للتحالف الذي كان قد غادره، فأن بعض حلفاء المالكي ما انفكوا، لقاء قبولهم لتجديد ولايته، يفرضون عليه شروطا قاسية، هي بمثابة إهانات بالغة، حتى قال مساعدو المالكي، إن حلفائنا يريدون أن يصبح المالكي quot;شرطي مرورquot; وليس رئيسا للوزراء).
وسواء خفض حلفاء المالكي الجدد/ القدامى سقف شروطهم أو لا، فأنه سيبدأ ولايته الثانية معهم، هذا إذا قبل هذا الخيار، من الدرجة صفر، أي قبل بدء جولة الفرسان، وسيبدأ ولايته الثانية وهو يحمل في معصميه قيودا ثقيلة، ويضع في جيوبه قنابل موقوتة من الممكن أن تنفجر في أي لحظة. وهذا أمر لا يتعلق بحسن أو سوء النوايا، إنما يتعلق باختلاف الاستراتيجيات. فالصدريون، مثلا، لهم رؤاهم الإستراتيجية التي تتقاطع تماما مع رؤيا المالكي: طبيعة العلاقة، ليس إزاء القوات الأميركية داخل العراق، بل الموقف إزاء العلاقة مع الولايات المتحدة، والموقف من (المقاومة)، الموقف إزاء الديمقراطية، نوعية المجتمع الذين يريدون بنائه ودور (الممهدون) في عملية البناء. وهنا، علينا أن لا ننسى أن الصدريين لم يلغوا (جيش) المهدي، أبدا، إنما جمدوا نشاطه العسكري، والتجميد، مثلما هو معروف، قد يلغى في أي لحظة.
هذا أحد الخيارات أمام المالكي، إما الخيار الآخر فهو انفتاحه على القائمة العراقية، وصولا لتشكيل حكومة جديدة. وهناك أكثر من آلية لتطبيق هذا الخيار. أحداها أن يحكم المالكي وعلاوي بالمناصفة، سنتان لكل واحد منهما، كما اقترح السفير الأميركي السابق خليل زلماي زادة. الثانية أن يكون احدهما رئيسا للجمهورية والآخر رئيسا لمجلس الوزراء. الصيغة الثالثة أن يصبح علاوي رئيسا للوزراء وفقا للاستحقاق الدستوري، وبمباركة من المالكي. وفي جميع هذه الحالات ستكون للقائمتين أكثرية مريحة في مجلس النواب تساعدهم في تمرير ما يقترحونه من قوانين.
وقائمتا التحالف الكردستاني والائتلاف الوطني؟ في ما يخص الأكراد، لا نظن أنهم سيعرقلون اتفاقا كهذا، خصوصا إذا حصلوا على ضمانات أكيدة تعترف وتحترم quot;الخصوصيةquot; الكردية، بكل المعاني التي بدأت تتضمنها مفردة الخصوصية الكردية على أرضية الواقع وفي اللغة السياسية العراقية. وقد سمعنا جميعا التصريحات الكردية الأخيرة التي أشارت إلى (حق) علاوي الدستوري في تشكيل الحكومة الجديدة. يبقى الائتلاف الوطني العراقي وهو الكتلة النيابية الكبرى الثالثة.

سنكرر أمرا بديهيا لا يحتاج إلى تأكيد، لو قلنا أنه ليس من المصلحة العراقية، أبدا، أن يصار إلى تهميش هذه الكتلة التي تمثل الملايين من الناخبين. لكن، واقع الحال يقول أن الائتلاف هو طرفان رئيسيان (دون أن ننسى، بالطبع، حزب الفضيلة): الصدريون والمجلس الأعلى الإسلامي العراقي. والفرق واضح بين سياسة كل واحد منهما، والفرق واضح، أيضا، في رغبة كل منهما، ليس في تغيير أساليب عمله، بل تغيير أفكاره. فبينما أظهر المجلس، خلال الفترة التي أعقبت الانتخابات المحلية، رغبة حقيقية في تغيير مواقفه، خصوصا ما صدر من تصريحات وما بدر من مواقف لرئيس المجلس السيد عمار الحكيم، وللشخصية القيادية في المجلس السيد عادل عبد المهدي، فأن التيار الصدري ظل محافظا على إستراتيجيته القديمة، ولم يغير إلا في الأساليب. واستنادا لهذا، فأن من المتوقع أن يشارك المجلس في حكومة تشكلها قائمتا دولة القانون والعراقية.
تبقى كتلة (صانعو الملوك)، أي قائمة الأحرار، أو التيار الصدري. إذا نجح (الملوك) في صنع أنفسهم بأنفسهم، أي بالتراضي، فأن قائمة الأحرار لن تقدر حتى على صنع أمراء صغار، وسيكون أمامها خياران، ليس إلا: المشاركة، أو البقاء في المعارضة. فإذا قبلت قائمة الأحرار المشاركة، وهذا أمر ايجابي جدا ويخدم المصلحة العراقية، تماما، فأنها ستشارك، لكن ليس وفقا لشروطها، وإنما وفقا للشرط التي ستعرض عليها، وإلا فأنها ستصبح قوة برلمانية معارضة.
ما هي أفاق نجاح هذا السيناريو، لو طبق، ومن سيربح أو يخسر جراء تطبيقه؟
سيحظى، أولا، بمباركة حماسية من الولايات المتحدة، وربما بنفس الحماسة من دول الاتحاد الأوربي، الباحثة عن وضع عراقي مستقر يفتح طريقا واسعا أمام استثماراتها. سيحظى، ثانيا، بقبول من النظام العربي الرسمي، خصوصا الأطراف الأكثر اهتماما بالعراق، جغرافيا وسياسيا، العربية السعودية وسوريا والكويت، ثم مصر ودولة الأمارات. ستدعم هذا السيناريو تركيا الأوردغانية، الداخلة بسرعة الصاروخ للساحة العراقية. إما إيران فلن تعارضه، أو على الأقل لا ترمي بكل ثقلها لتدميره، فأكثر من نصف الحكومة التي ستتشكل لن يكون عدوا للنظام الإسلامي في إيران، هذا إذا اعتبرنا أن قائمة علاوي هي عدو لإيران، وهو أمر بعيد كثيرا عن الواقع، خصوصا إذا تحول أركان هذه القائمة من رجال معارضة (ثوار) إلى رجال دولة تسيرهم الواقعية السياسية.
عراقيا، ما من جهة تعارض تطبيق هذا السيناريو إلا (النرجسية السياسية) و إلا (الأنا) السياسية المتضخمة المريضة، المستعدة لحرق العراق بأكمله لقاء تفردها بالسلطة، سواء كانت هذه (الأنا) شيعية أو سنية، عربية أو كردية. أما جماعات العنف السنية والشيعية فستشهد أياما سوداء. إذ سيكون بإمكان أركان القائمتين أن يضربوا بقسوة بالغة كل الجماعات المتطرفة الشيعية والسنية، دون الخوف أن يتهمهم أحد، بعد الآن، بتهم طائفية أو مذهبية، بل وبتأييد واسع من جميع العراقيين.
شيعيا، لا نظن أن أحدا سيقول أن هذا السيناريو يلحق الضرر بالعراقيين الشيعة، ولن يتعكز أحد على عكاز المرجعية. فالمرجع السيد السيستاني كان قد حسم، في البيان الشهير الذي أصدره مكتبه عشية الانتخابات الأخيرة، موقف المرجعية إزاء العملية السياسية الجارية، وموقف المرجعية إزاء نوع النظام السياسي، فالمرجعية مع النظام الذي سيفضله العراقيون. البيان أكد، بصريح القول، أن المرجعية تقف على مسافة واحدة من جميع القوائم المتنافسة. وحتى اولاءك الذين ينصبون أنفسهم أوصياء على العراقيين الشيعة، ولا يكفون عن إثارة (مظلومية) الشيعة بمناسبة وبدونها، فأن هذا السيناريو سيسقط في أيديهم ويجعل تجارتهم بائرة. فلو أن السيد المالكي كتب رسالة من سطر واحد لمنافسه السيد علاوي، يهنئه فيها بفوزه ويعلن عن استعداده للعمل معه، رئيسا لمجلس الوزراء، من أجل ترسيخ الديمقراطية في العراق، فأن العراقيين الشيعة سيربحون مرتين، وسيمسكون المجد من طرفيه. فالتاريخ سيقول أن عراقيا شيعيا أسمه علاوي (ليبرالي، أو بعثي سابق، أو قومي عربي، أو سمه ما شئت) استطاع أن يوحد العراقيين السنة تحت زعامته، وأن يحلهم الموقع الذي يرغبون، وأن يبدد مخاوفهم، وينزع فتيل الخلاف المذهبي، مرة واحدة وللأبد. وسيقول التاريخ أن عراقيا شيعيا إسلاميا أسمه نوري المالكي استطاع أن يصالح العراقيين الشيعة، بل أن يصالح الإسلام كله مع الديمقراطية، كنظام سياسي واجتماعي، لأول مرة في تاريخ الإسلام.
هكذا، تخلق الزعامات التاريخية، بقدرتها على تجرع الحنظل، وركوب المركب الصعب، مثلما وافق ديغول على منح الجزائر استقلالها، وقبل، لاحقا، الاستقالة نتيجة الضغط الطلابي، ومثلما قبل القائد الخميني أن يتجرع كأس السم، ومثلما تنازل عبد الناصر عن الحكم.