احتجاجا على الهجوم الإسرائيلي الهمجي على أسطول الحرية، خفضت تركيا مستوى علاقتها مع إسرائيل، وأعلن رئيس الحكومة رجب طيب اردوغان أن حركة quot;حماسquot; ليست مجموعة إرهابية، وهاجم حكومة بنيامين نتنياهو ووصفها بأنها quot;طاغيةquot;.
ما قاله اوردغان هو الحق عينه، وما فعلته حكومته هي الشجاعة ذاتها، والحالتان تعكسان التفرد المدهش في سياسة تركيا الاوردغانية. ولو أن عدنان مندرس وعصمت إنينو وبولنت أجاويد وسليمان دميريل وكنعان افرين وكل الزعماء الأتراك الذين تعاقبوا على حكم البلاد قبل اوردغان، سمعوا هذا الذي قاله خلفهم، لما صدقوا ما سمعوا، ولو أنهم شاهدوا هذه الأعلام التركية وهي ترفرف في شوارع المدن العربية والإسلامية، تقديرا لموقف تركيا وإعجابا بسياستها الجديدة، لأصيبوا بالدهشة.
بالطبع، لا يمكن فصل هذا الانقلاب التركي الهائل، في مجال السياسية الدولية، عن التوجهات الفكرية التي يحملها اوردغان وأركان حزبه. هذا أمر أكيد. لكن هذا جانب واحد من الموضوع. فنحن لسنا أمام (درويش) أو خطيب جمعة أسمه اردوغان، وإنما أمام سياسي مهمته، شأنه شأن كل ساسة العالم، أن يحسب حسابا لكل خطوة يقدم عليها، وأن يزرع ما يدر عليه أرباحا مضاعفة، وأن يستفيد من كل ذلك للترويج لأفكاره ولمشروعه السياسي، وخدمة بلاده بالطريقة التي يراها صحيحة.
لقد ظلت تركيا، قبل اوردغان، وخلال ولايته، أيضا، ترنو نحو الشمال، وواصلت بإصرار الطرق على باب الإتحاد الأوربي عله يفتح أمامها فتحجز لها مقعدا بين (أشقائها) الأوربيين، لكن محاولاتها وصلت، أقله حتى الآن، إلى طريق مسدود. وكأي قوة دولية صاعدة وطامحة أن تحتل مكانا يليق بها، فأن تركيا الاوردغانية رفضت أن تضع كل بيضها في سلة واحدة، واستدارت نحو محيطها الإقليمي والإسلامي. وهذه الانعطافة جاءت في الوقت الملائم، إقليميا وإسلاميا ودوليا.

مصالحك ثم مصالحك ثم جارك

لا تكف تركيا تراقب، عن كثب، ما تقوم به جارتها، إيران الإسلامية، من محاولات لبسط نفوذها في المنطقة. ومن المستحيل أن تترك تركيا جارتها تتفرد لوحدها في الإقليم، أو تبسط وتعزز نفوذها على حسابها، حتى لو كان النظامان إسلاميين، تربطهما جيرة سرمدية. ولهذا، نجد تركيا حاضرة، أو تحاول أن تكون حاضرة في أي ساحة تحضر فيها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لتشترك وإياها في المغانم، ولسان حالها يقول لجارتها: وراءك وراءك أينما حللت.
ففي الوقت الذي تحاول فيه إيران، منذ أيام الاحتلال الروسي، أن يكون لها موطئ قدم، والتأثير على الأوضاع الأفغانية، عن طريق الجماعات الأفغانية الموالية لها، فأن لتركيا نحو 1700 عسكري في أفغانستان حاليا، ليس quot;لإنجاز مهمة عسكريةquot; فحسب، وإنما quot; لتأكيد الصداقة بين أفغانستان وتركياquot;، مثلما قال الجنرال التركي، ليفنت تشولاك، وهو يتسلم من الجيش الفرنسي قيادة قوات الحلف الأطلسي في منطقة العاصمة الأفغانية في شهر نوفمبر من العام الماضي.
وفي عراق ما بعد صدام حسين اكتشفت تركيا الاوردغانية الإسلامية أن (ورقة كركوك)، التي كانت تستخدمها الحكومات التركية السابقة، لا تكفي وحدها للدخول في منافسة الدور الإيراني، ولا بد من أوراق أخرى. وهكذا، بدأت تركيا باستخدام البعد المذهبي، وتحولت إلى قبلة لا يتوجه نحوها ألاف من التركمان، بل ملايين من العراقيين (السنة). بالطبع، لا ننسى، هنا، مسألة المياه، والشركات التركية التي بدأت تتواجد في أنحاء مختلفة داخل العراق.
فلسطينيا، بدأت تركيا الإسلامية تستفيد من quot;ضربة المعلمquot; الإيراني، وتحاول، ليس محاكاتها فحسب، وإنما التفوق عليها. فبينما ظلت تركيا تحتفظ بعلاقتها الكلاسيكية مع إسرائيل، فأن النظام الإسلامي في إيران أقدم، منذ أيامه الأولى قبل عقود، على قطع علاقاته مع إسرائيل وتحويل مقر سفارتها إلى مقر للسفارة الفلسطينية. ثم غيرت الجمهورية الإسلامية الإيرانية ولائها quot; الفلسطينيquot; فشرعت تدعم حماس، معنويا وماليا وعسكريا، مع الاستمرار في هجومها ضد إسرائيل، والمطالبة بتدميرها. هذه المواقف الإيرانية، السابقة واللاحقة، حصدت تعاطفا هائلا، عربيا وإسلاميا، مع إيران. الآن، استفاقت تركيا الاوردغانية، وأحصت مقدار أرباح النظام الإسلامي الإيراني، لقاء مواقفه الفلسطينية، وخسائرها هي، فبدأت الدخول في منافسة مع إيران في هذا المضمار.
عربيا، تترافق (اليقظة) التركية مع انكفاء النظام العربي الرسمي على نفسه، وخلو الساحة العربية من لاعب كبير، بعد خمول الدور المصري. فبعد أن كانت مصر اللاعب الأكبر في ساحة صراع العرب مع إسرائيل، والماسكة دوما بزمام المبادرات، فأنها بدأت تكتفي، الآن، برد الاتهامات وإبعاد الشبهات عنها والركض، لاهثة، للحاق السباق التركي/ الإيراني نحو الساحة الفلسطينية. ففي الوقت الذي تخفض فيه تركيا مستوى علاقاتها مع إسرائيل بطريقة استعراضية ألهبت مشاعر الحماس في العالم العربي، فأن مصر اكتفت، مجبرة وعلى مضض واستحياء، على مجاراتها، ولكن بفتح مؤقت للمعابر، ليس إلا.

ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا

وتركيا الاوردغانية تفعل ذلك، ليس إخلاصا لرب العالمين و طلبا لمرضاته، فهذا من اختصاص الجمعيات الخيرية وأهل البر والإحسان. تركيا تنفذ سياسة ميكافيلية تدر على (الأمير) أرباحا ومنافع متعددة. وهكذا، فأن تركيا الإسلامية ما تزال تأكل عند الولايات المتحدة لأن الطعام أدسم، ولكنها بدأت تصلي خلف القضية الفلسطينية لأن الصلاة هنا أقوم، وترفض أبدا الجلوس على التل لأن اقتحام ساحات الصراع في المنطقة، وليس الجلوس على التل، هو الأسلم. فتركيا ما تزال عضوا في quot;التحالف الصليبيquot; حلف شمال الأطلسي، واختارها الرئيس الأميركي الجديد لتكون من أولى الدول التي يزورها، تقديرا لدورها هذا، وتحاول في الوقت نفسه، مع البرازيل، أن تجمع جارتها الإيرانية والغرب على مخدة واحدة، لإيجاد مخرج لأزمة الملف النووي الإيراني برعايتها هي، وتستقبل في الوقت نفسه على أراضيها وزيري خارجية أفغانستان وباكستان لتساعدهما على تجاوز خلافات بلديهما وليكرسا جهديهما لدحر (المجاهدين) أعداء أميركا، لكنها، مع ذلك، تستضيف على أراضيها مؤتمرا quot;لدعم المقاومة العراقيةquot; ضد أميركا.
وهذه الأفعال كلها، في عالم السياسة، لا اعتراض عليها، وكل ما تفعله تركيا الحالية، كما بقية دول العالم، هو أنها quot;تتفننquot; في إدارة سياستها الخارجية بما عندها من quot;ممكنquot;. وquot;الممكنquot; عند تركيا هما جناحان، أحدهما إسلامي تنشره في السماء العربية الإسلامية، والآخر علماني، أو ما ورثته من إرث علماني، تمده نحو أوربا والولايات المتحدة والغرب عموما.
ترى، لماذا لا تستخدم تركيا الاردوغانية ما تملكه من هذا الquot;ممكنquot; لتحوله إلى quot; فنquot; يعينها لحل المسألة الكردية؟ لماذا تحتفظ بعبد الله أوجلان في سجونها وتتعامل معه ومع الحزب الذي يقوده كقوة إرهابية؟
يقول رجب طيب اردوغان أن حماس ليست إرهابية، وهذا كلام صحيح تماما. حماس (سواء أيدنا ايدولوجيتها أو لا) تدافع عن قضية عادلة، وما اضطرت لاستخدام السلاح إلا بعد أن أغلقت إسرائيل كل الطرق السلمية وأصرت، وما تزال تصر على انتهاج سياسة فاشية، مغرقة في همجيتها. ولكن تركيا ستتهم بأنها تكيل بمكيالين عندما تصر على إطلاق صفة الإرهاب على حزب العمال الكردستاني. هذا الحزب (أيضا، سواء أيدنا ايدولوجيته أو لا) يدافع، هو كذلك، عن قضية عادلة. ولن يكون أحدنا شجاعا لو هو رفض مقارنة موقف إسرائيل إزاء الفلسطينيين وموقف تركيا إزاء الأكراد، خشية من إثارة حساسية البعض، فقضايا الحرية والعدالة واحدة لا تتجزأ.
وإذا كانت سياسة تركيا الجديدة قادرة على جمع الأضداد، وإذا كان حكام تركيا الجدد قد امتلكوا الشجاعة الكافية لإعادة النظر في سياسة أسلافهم، وابتداع أفكار جديدة خلاقة، وإذا كانوا قد رضخوا، أخيرا، لقبول الأمر الواقع في كردستان العراق ووافقوا على استقبال رئيس الإقليم مسعود البرزاني، فالأولى بهم أن يتعاملوا مع القضية الكردية في بلادهم، ليس بالطريقة التركية التقليدية (الأركايك)، وإنما بطريقة تتلائم مع (مذهب) اردوغان السياسي الجديد في التعامل مع المشاكل الدولية. وإن لم تفعل تركيا الاوردغانية ذلك فأننا نخشى أن يقال أنها تعاملت مع قضية (أسطول الحرية) على طريقة تعامل تجار البازار التركي في استانبول.