في 09/6/2003 أي بعد شهرين فقط من سقوط نظام صدام حسين، نشر بروفسير ستيفن سيكشيتي Stephen G. Cecchetti، (هو خريج معهد M. I. T الشهير، وأستاذ مادة الاقتصاد الدولي في جامعة برانديز ومستشار لعدة بنوك مركزية في دول العالم، بينها البنك المركزي الأوربي، ويشغل، أيضا، وظيفة نائب الرئيس التنفيذي ومسؤول البحوث في بنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي) مقالا عنوانه:
(كيف يتم إنشاء بنك مركزي عراقي يتمتع بمصداقية / how to Establish a Credible Iraqi Central Bank)
في هذا المقال تحدث الخبير الاقتصادي الأميركي عن الأفاق المستقبلية لتطور الاقتصاد العراقي وعن إمكانية إعادة تأهيله ليلحق بركب اقتصاديات العالم الصناعي المتطور، وتوقف كثيرا عند الدور الجديد الذي يفترض أن يقوم به البنك المركزي العراقي في إنشاء نظام مالي متطور، بدلا أن يظل مجرد منشأة لتخزين العملة. وقدم عدة مقترحات لإنجاز هذه المهمة، منها أن يكون البنك في منأى عن الضغوطات السياسية، وأن يؤدي نشاطاته المالية بشفافية، وأن تقوم الحكومة بتشريع قوانين تحمي حقوق الملكية، لأن أي نشاط مالي واقتصادي ناجح يعتمد على فكرة مفادها أن المستثمرين بإمكانهم أن يحتفظوا بثمار استثماراتهم، مع تأكيد الكاتب على أن كل ما يقوله هو، كأميركي، وكل ما يقترحه الأجانب غيره في هذا الخصوص، تبقى مجرد اقتراحات ووجهات نظر، فالأمر، أولا وأخيرا، ينجزه العراقيون أنفسهم، فهم وحدهم أصحاب الشأن، وحذر من استنساخ نماذج أميركية وتطبيقها على الواقع العراقي. وأكد على أن العراقيين قادرون تماما على إنجاز مهمة تطوير اقتصادهم، وابتداع أساليب خلاقة تلائم وضعهم الثقافي وتلبي حاجات مجتمعهم، فهم أبناء حضارة رائدة وعريقة حققت إنجازات تعلمت منها البشرية كلها. وقال، إذا كان أجداد العراقيين القدماء قد سبقوا العالم كله وسنوا، قبل أربعة ألاف سنة، أولى القوانين، فليس عسيرا على أحفادهم المعاصرين أن يحذوا حذوهم وينجحوا مثلهم. وأقترح الخبير الاقتصادي في مقاله (نشره قبل صدور العملة الجديدة) أن تحمل العملة العراقية الجديدة صورة حمورابي شعارا لها.

ما دعتني إلى إعادة قراءة ما كتبه هذا الخبير الاقتصادي هي، الفضيحة المدوية التي حدثت قبل أسابيع والمتمثلة في عملية السطو على البنك المركزي العراقي، وكذلك معرفة هل أن تفاؤل الكاتب وثقته في قدرة أبناء وادي الرافدين على بناء بلدهم هو، مجرد مبالغات مجانية وأوهام بددتها هذه الفضيحة، أم أنها حقائق أكدتها عملية السطو.
نعتقد أن تفاؤل البروفسور الأميركي ليس تهويما في الخيال، وإشادته بالإرث الحضاري العراقي العريق ليست مجاملة مجانية، وما قاله الكاتب لا يقتصر عليه وحده، فهناك الكثير من المقالات المحايدة التي نشرت في العالم، وخصوصا في الغرب، وكلها تتفق مع ما قاله. فالعراق المعاصر ليس نبات فطر لا جذور له، وإنما يتكأ على إرث حضاري بالغ الثراء والتنوع، تاريخيا وثقافيا وروحيا. وهذا الإرث الحضاري ليس مجرد (ماضي) حدث وانتهى، بل هو حاضر في الوجدان العراقي، وما يزال يترك أثره الايجابي في تكوين الشخصية العراقية. وقد لمسنا ذلك عندما واجه المجتمع المدني العراقي أشد محنتين وخاض أصعب امتحانين في تاريخه المعاصر. الامتحان الأول، هو فترة الفراغ السياسي الأمني التي أعقبت سقوط النظام البعثي في التاسع من نيسان 2003، والامتحان الثاني هو الحرب التي أججتها المليشيات السياسية الإسلاموية، بعد تفجيرات سامراء.
فعندما كان بروفسور سكيشيني يكتب مسودة مقاله المذكور كان المجتمع العراقي يعيش في فوضى شاملة غير مسبوقة، أو كان يعيش حالة (عماء)، ما فوقه دولة ومؤسسات حكومية وأمنية تضبط الأوضاع وتحميه، ولا تحته منظومة أحزاب ومؤسسات مدنية ترشده وتأخذ بيده، كما كان يحصل في جميع الأزمات السياسية العاصفة التي عاشها العراقيون في تاريخهم الحديث. ومع ذلك لم تنهار الأمور، وظل المجتمع المدني العراقي يحتفظ بقدر معقول من التماسك ومن رباطة الجأش الجماعية، وتحلي بقدر لا بأس به من المسؤولية، والانضباط الذاتي (لنراجع، على سبيل المقارنة، كتب التاريخ ونرى ما حدث من أعمال عنف رهيبة بعد الثورة الفرنسية في 1789 وبعد الثورة الانكليزية في القرن السابع عشر، وبعد تحرير باريس من الاحتلال الألماني بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد سقوط نظام موسوليني في ايطاليا). ولولا وجود quot;حصانة quot; حضارية، لأفترس العراقيون بعضهم بعضا، ولنفذت عمليات انتقام وثأر مأساوية، على نطاق واسع. لكن شيئا من هذا لم يحدث طوال أشهر بعد سقوط النظام البعثي. وحتى عمليات نهب ممتلكات الدولة التي نفذها بسطاء الناس، في الساعات الأولى التي تلت سقوط النظام، وهي أفعال مرفوضة بكل المقاييس، يجب أن لا تعزل عن سياق الظرف الذي حدثت فيه، وأن ينظر إليها بعيدا عن المواعظ الأخلاقية.
وفي ما يخص تفجيرات سامراء وما أعقبها من نتائج مأساوية، فأنها لم تكن من صنع المجتمع العراقي، أبدا، إنما هي أفعال خططت لها ونفذتها وساهمت في تعميمها جماعات و مليشيات سياسية أجنبية وعراقية فرضت نفسها، في ظل وضع معين، على رأس الهرم الاجتماعي. ومن مكانها هذا الذي اغتصبته، بالقوة وحدها، راحت تلك المليشيات السياسية تجاهد بكل ما في وسعها لتحويل أفعالها إلى حرب أهلية شاملة، أو على الأقل أن تمنحها طابعا اجتماعيا، لكنها لم تنجح حقا في توريط المجتمع المدني في تلك الأفعال، حتى عندما أصبحت عمليات القتل والتهجير تنفذ على الهوية المذهبية.
المجتمع المدني ظل يرفض الانجرار، وظلت أعمال العنف تلك محصورة بين جماعات العنف نفسها، وبدون غطاء أحتماعي. وإذا كان هناك غطاء لتك الأفعال فهو ليس من صنع المجتمع المدني، إنما من صنع النخب السياسية، سواء كانت هذه النخب السياسية مؤيدة للعملية السياسية التي بدأت بعد سقوط النظام السابق أو معارضة لها، وسواء كان ذاك الدعم صريحا واضحا ومباشرا، أو خجولا مستترا، وعن بعد. وليس تجنيا على الحقيقة لو قلنا إن جماعات العنف تلك كانت تنفذ أفعالها برضا (ولو غير معلن، أحيانا) من النخب السياسية المؤيدة والرافضة للعملية السياسية، كل وفق حساباته وأغراضه. لهذا السبب فأن النخب السياسية لم تخض حروب (كسر عظم) ضد جماعات العنف، حتى عندما شرعت هذه الجماعات تؤسس (جمهورياتها) أو (إماراتها) المستقلة الخاصة بها. والسبب هو، أن هذه النخب السياسية (مرة أخرى نقول المؤيدة والمعارضة للعملية السياسية) ظلت تفترض أنها ستكون بحاجة لجماعات العنف تلك. وقد سمعنا، مباشرة بعد ظهور الأزمة الحالية التي أعقبت إعلان نتائج الانتخابات، أقوال رددها قادة لكتل سياسية متنافسة يحذرون فيها من عودة الاقتتال الأهلي، أو تردي الوضع الأمني، إذا لم يحصلوا على ما يريدون، وهو كلام يعني، في الجوهر، أنهم سيستعينون من جديد بجماعات العنف، وإيقاظ هذه الجماعات من نومها الذي أجبرت عليه. وهنا يكمن الاختلاف، بل التناقض، بين تفكير النخب السياسية الناشطة، في الحكومة والمعارضة سواء بسواء، وبين تفكير عموم المجتمع العراقي، وهنا تكمن، أيضا، استثنائية وفرادة الوضع السياسي العراقي وغرائبيته منذ عام 2003: مجتمع مدني يعض على جراحه ويريد أن ينسى ما حدث، ويحاول التحلي بالصبر والحكمة ويقدم كثيرا من التضحيات، وصولا إلى نظام ديمقراطي عادل ومستقر، لكن هذا المجتمع تقوده وتتحكم به نخب سياسية تسيرها روح الانتقام، وتستعجل قطف الثمار، وتتعامل مع الديمقراطية كوسيلة توصلها إلى الحكم، وتتصرف بطريقة أنانية مرضية، وسادية، وتتصرف عكس ما تقول وتعلن وتدبج. إنها نخب تعاني من شيزوفرينيا ثقافية حادة.

فنحن نعرف أن الذين يقودون العملية السياسية ويشاركون فيها، هم أنفسهم الذين كتبوا مسودة الدستور العراقي الجديد. ولأنهم يدركون أن مواطنيهم العراقيين يعتبرون الإرث الحضاري لبلدهم هو رأسمالهم الثقافي الوطني، فأنهم حرصوا على الإشادة بالإرث الحضاري المتنوع للعراق، فقالوا في ديباجة الدستور: quot; نحن أبناء وادي الرافدين موطن الأنبياء ومثوى الأئمة الأطهار ورواد الحضارة وصناع الكتابة ومهد الترقيم، على أرضنا سن أو قانون وضعه الإنسان، وفي وطننا خط أعرق عهد عادل لسياسة الأوطان، وفوق ترابنا صلى الصحابة والأولياء، ونظر الفلاسفة والعلماء، وأبدع الأدباء والشعراءquot; نقسم أن نفعل كذا وكذا. وهذه الإشادة بحد ذاتها رائعة، لأنها تؤكد على وحدة (أبناء) العراق، وتعترف بالتنوع، وتشيد بإنجازات حضارية لا تقتصر على مرحلة تاريخية بعينها، بل بجميع المراحل.
لكن، هل تصرف هولاء الذين كتبوا هذه الديباجة، قولا وفعلا، خلال المرحلة التالية لكتابة الدستور، ك (أبناء وادي الرافدين) أم كأبناء مذاهب وطوائف متناحرة؟ هل تصرفوا كأبناء وطن واحد، وظلوا أوفياء لتعبير (وطننا) و (أرضنا) الوحيدة الواحدة أم تصرفوا كعابري سبل التقوا صدفة، فاضطروا أن يجلسوا سوية على مصاطب انتظار، استعدادا لأن يعود كل واحد منهم من حيث آتى؟ هل وجدنا، خلال هذه الفترة التي أعقبت كتابة الدستور،(فلاسفة) كثيرين (نظرو) بحرية كاملة، و(أدباء)عديدين (أبدعوا) و(شعراء) متنوعين أثروا المشهد الثقافي، أم وجدنا مسدسات كاتمة للصوت حصدت أرواح مثقفين وإعلاميين بارزين، ووعيد بالقصاص، ومحاولات لم تتوقف لنشر الخرافة والشعوذة وتسطيح العقل، وتعزيز ثقافة (من ليس معنا فهو ضدنا)؟ هل لمسنا قدرا، مهما كان ضئيلا، من تسامح وعدالة (الأئمة الأطهار) وحكمة ونقاء سريرة (الأنبياء)، أم وجدنا فسادا إداريا وماليا، وتدليسا، وغشا؟ هل أحترم القانون وأقيمت دولة المؤسسات، أم ترك العراقيون في العراء طعاما لعصابات الجريمة المنظمة ونهبا للخارجين عن القانون من كل فج؟ باختصار، هل تصرف واضعو الدستور كعراقيين أحرار، وعملوا لخدمة (أبناء وادي الرافدين)، مثلما يتمنى ويريد المجتمع المدني العراقي، أم تصرفوا كنخب معزولة عن المجتمع، وكمجموعات من العبيد، تسيرهم رغباتهم المرضية وتقودهم ولاءاتهم الضيقة؟
نعتقد أن الأجوبة واضحة، فقد ظلت الأمور تسير من أسوأ إلى الأكثر سوءا حتى وصلت أخيرا إلى أن يسطى على البنك المركزي العراقي في وضح النهار وقبل ساعات فقط من انعقاد الجلسة الأولى لمجلس النواب الجديد الذي يفترض أن يتدارس حاضر و مستقبل البلاد.

عملية السطو على البنك المركزي لا تشبه أي فضيحة من الفضائح الكثيرة التي يشهدها العراق منذ عام 2003. القنابل التي تم تفجيرها خلال عملية السطو لم تدمر بناية البنك المركزي وحسب، وإنما دمرت العملية السياسية الجارية برمتها، ووضعت في سلة المهملات كل ما تردد على ألسنة الساسة من ترانيم وطنية ومن وعود معسولة. فالمعروف أن البنك المركزي في كل دولة في العالم هو رمز لسيادتها ولهيبتها ولشرفها الوطني وهو كنزها الوطني، ولهذا يطلقون عليه تسمية (بنك البنوك). وهذا يعني أن أي عملية سطو على (بنك البنوك) هذا، إنما تعني السطو على كل البنوك العاملة داخل البلاد، بل على اقتصاد البلد نفسه. وعلى كثرة عمليات السطو على المصارف في دول كثيرة، بما في ذلك مصارف مهمة أو على فروع لها، إلا أن التاريخ لم يسجل، في طول الكرة الأرضية وعرضها، عمليات سطو كثيرة على بنوك مركزية. هذا أمر لا يحدث حتى في الخيال، ليس فقط لأن هذه البنوك محصنة تماما، وإنما مجرد التفكير بالسطو عليها يدخل الهلع إلى قلب من يريد أن يفعل هذا الأمر. وفي العراق نفسه، ومنذ تأسيس البنك المركزي العراقي عام 1956 لم يخطر على بال أحد أن يفكر، حتى في الحلم، بالدخول خلسة لهذا الصرح الاقتصادي الوطني المهيب.

إذن، من نفذ عملية السطو، وهل كانت عملية سطو، حقا، أي لغرض سرقة النقود، أم أنها عملية معدة بدقة أريد منها حرق وتدمير وثائق رسمية موجودة في أرشيف البنك، بمعنى آخر التستر على فضائح مالية عظيمة؟ الصحافة العالمية وصفت العملية بأنها quot;مركبة ومعقدة جداquot;. وهي كذلك. قوى الأمن العراقية قالت إن المنفذين لم يتركوا ورائهم أثرا يدل على هويتهم، لكنها استنتجت أن تنظيم القاعدة هو الذي نفذها. أي حيثيات اعتمدها هذا الاستنتاج؟ لأن بعض المنفذين فجروا أنفسهم، وكأن القنابل البشرية لا يتم quot;تصنيعهاquot;، في هذا العراق المضطرب، إلا داخل مصانع هذا التنظيم وحده، أو كأن هذا التنظيم هو الوحيد الذي يصول ويجول داخل العراق.
وسواء كان تنظيم القاعدة وراء عملية السطو، أو جهات أخرى، فأن هذا الفعل لم يراد منه سرقة أموال، إنما إتلاف مستمسكات مالية خطيرة تطال جهات متنفذة. وبالفعل، نفذ المهاجمون هدفهم بدقة، وتسللوا في وضح النهار، دون أن يعرف عنهم شيء.
الآن، وقد وقعت الواقعة، فما فائدة كل هذه الجهود والمفاوضات والمساومات لتشكيل حكومة جديدة، وما فائدة هذه القوات العسكرية والشرطة والأمن، إذا كانت (محفظة نقود) البلد تسرق في عز النهار؟ وما هي المنفعة التي سيجنيها العراقيون إذا أصبح بلدهم المصدر الأول للنفط في المنطقة، أو لم يصبح، ما دامت هذه العائدات توضع داخل محفظة نقود عراقية مثقوبة؟