أثبتت التجربة السياسية في العراق طوال العقود الماضية، ان الحركة التحررية الكردية كلما طرحت رؤيتها للسلطة الحاكمة في بغداد، استقبلت بنفور شديد من قبل الحكم وتعامل مع المبادرة بالرفض دون حكمة ومنطق عقلاني من منطلق الاستعلاء والايمان بفرض سياسة ومرجعية الفكر الواحد للسلطة او الحزب الحاكم، وقد كان أهم مبادرة للطرف الكردي في عقود الستينات من القرن الماضي طرح شعار quot;الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستانquot; ايمانا بانتماء الحركة للعراق، وبفعل التطور الحاصل في انظمة الحكم تجاه الديمقراطية والنظام الفيدرالي في العالم تحول هذا الشعار من قبل القيادة الكردية الى quot;الديمقراطية للعراق والفيدرالية لكردستانquot; بعد الانتفاضة الشعبية ضد نظام صدام عام 1991.

ومن خلال التماس مع الواقع السياسي العراقي، اثبتت التجربة ان الرؤية الكردية كانت واقعية ومتسمة بالمصداقية لقدرتها على تثبيت حلول عملية للقضايا السياسية والقومية والديمقراطية والاقتصادية والاجتماعية في العراق، وبعكس هذا اثبتت التجربة فشل رؤية الحكم التي سارت عليها الحكومات المتعاقبة على السلطة في بغداد ابتداءا من العهد الملكي وانتهاءا بعهد نظام الحزب الواحد للبعث والحكم الاستبدادي لصدام حسين.

ثم جاءت التجربة الديمقراطية للحكم في العراق بعد عام الفين وثلاثة، وقد استبشر العراقييون بفتح عهد جديد للتغيير والتجديد لازاحة الماضي الثقيل الذي حمل على اكتافهم عنوة واستبدادا، وكادت التجربة ان تمر بسلام ولكن ظهور هذه الديمقراطية الفتية في مستنقع اقليمي ودولي لا يحوي الا مياه سياسية راكدة معقدة التركيب وفي منطقة متسمة بأنظمة حكم مستبدة، هذه البيئة الاقليمية الجغرافية والسياسية المستبدة جمعت كل قواها لتضرب التجربة العراقية الجديدة بيد من نار وحديد ولتصب غضبها بالقتل الشنيع والاجرام والارهاب على العراقيين في أغلب محافظاتها ومناطقها خاصة في بغداد طوال السنوات الماضية، ايمانا من انظمة الحكم المجاروة للبلاد بان التجربة الديمقراطية العراقية تحمل خطورة كبيرة عليها لكونها بذرة لتغيير كل المنطقة وشعاع أمل لتحرير شعوبها.

وبالرغم من هول وقساوة الهجمة الاقليمية على العراق الجديد، ألا ان الامة العراقية بجميع مكوناتها القومية والمذهبية تمكنت من تحملها وامتصاصها وتجاوز مراحل خطيرة منها خاصة الحرب الطائفية بين السنة والشيعة التي ارادها اعداء بلاد الرافدين حطبا لحرق العراقيين في متونها، والكل يعلم ان الحكمة العالية التي اتسمت بها القيادات العراقية، الدينية والسياسية، العربية والكردية، تمكنت من انقاذ العراق والخروج به من هذا الفخ التدميري الكبير بسلام وامان رغم بقاء بعض جيوب الارهاب والفتن والاجرام هنا وهناك، ولا يخفى على الجميع ان اقليم كوردستان بشعبه وقيادته في هذه الفترة العصيبة قد فتح ابوابه على مصراعيها لجميع العراقيين للحفاظ عليهم وحمايتهم وتوفير العيش الامن لهم، وقدم هذا الجزء من العراق اروع صور التلاحم بين أبناء الامة العراقية الواحدة واعطى مثالا نموذجيا في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم للامة التي أصابتها حمى في عضو من جسدها فتداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

ورغم تواصل الظروف القاسية على العراقيين، الا انهم تعاهدوا باستمرار وتواصل العملية الديمقراطية والحفاظ عليها وكان آخر صورة لهم الاندفاع الوطني الكبير في الانتخابات البرلمانية في السابع من آذار الماضي، وقد منح الناخبون أصواتهم بذكاء سياسي نادر حيث لم يمنحوا الاغلبية لاية كتلة سياسية للاستفراد بالحكومة والبرلمان، وكانت الغاية من هذا التصويت غير الحاسم هي دعوة حكيمة للسياسيين بادارة البلاد من قبل الجميع على اساس الشراكة الوطنية، وقد استقبلت هذه الرسالة بتفهم كامل من قبل الكتل الفائزة في مجلس النواب الجديد، ولكنها جوبهت بتدخلات مخفية من الدول الجوار عرقلت من خطوات تشكيل الحكومة للتأثير على المغزى الوطني العراقي لرسالة الناخبين.

وضمن المبادرات العراقية الهادفة لحل ازمة تشكيل الحكومة العراقية المقبلة، طرحت القيادة الكوردية مسودة ورقة عمل للاطراف المعنية للتفاوض عليها ومناقشتها وتعديلها حسب اتفاق الجميع، وقد استقبلت من قبل اغلب الاطراف بالايجاب والترحيب، ومن يقرا ويتعمق في نقاط الورقة بحيادية ونفس عراقي يجد انها فعلا تحمل رؤية عراقية عامة يمكن الاستناد اليها لحل الازمة، وقد ورد النقاط بمقال في ايلاف بعنوان quot;المشروع العراقي لائتلاف الكتل الكردستانيةquot;.

بعد طرح هذه الصورة الواقعية للاحداث السياسية في العراق، نأتي لبعض الطروحات غير الواقعية التي طرحها الزميل الكاتب داود البصري في مقاله بايلاف بعنوان quot;شروط الابتزاز الكرديةquot;، منها وصفه للعراق بـ quot;الجثة العراقيةquot;، واعلان الانفصال عن العراق، وفرض صيغة الطائفية اللبنانية، وتمدد وسطوة الأحزاب الكردية، ومحاولة إنتزاع (كركوك) من هويتها الوطنية العراقية الجامعة المانعة وتمويل وزارة الدفاع لموازنة قوات الجيش الكردي (البيشمركة)! فهي مهزلة حقيقية في دولة لا تعرف كيف تدافع عن نفسها، وبعد الرحيل الأمريكي المخطط له بخبث متأصل لن يكون العراق عراقا بل سنشهد دول الطوائف و الملل و النحل العراقية، وموازنة 17% المقررة من الخزينة العامة، ورئيس ولاية السليمانية، وغيرها من الاوصاف غير المبررة التي لجأ اليها الكاتب لطرح رؤية غير جديدة على العراقيين بعربهم وكردهم، ولو انها مطروحة من باب الحرص على الواقع العراقي، ولكنها تحمل بعض الرؤى العنصرية التي يلزم الوقوف بوجهها واستنكارها لطرح المشكلة العراقية بواقعيتها بعيدا عن التمييز والنظرة المتسمة بالعنصرية وخلط الاوراق دون مسند حقيقي.

ودون الدخول في الرد على تلك الاوصاف المطروحة برؤية شخصية من قبل الكاتب، اود طرح بعض الرؤى الهامة في واقع التجربة العراقية لما بعد عام الفين وثلاثة من خلال تقديم رؤى واقعية عن تجربة الحكم الكردية في فيدرالية اقليم كوردستان وتجربة الحكم للحكومة الاتحادية حسب راي العراقيين من دون الكرد، وقد استخلصت اغلب تلك الرؤى من خلال معايشتي في بغداد، لكي تكون مؤشرات حقيقية للمقارنة لكل من يهتم بالوضع العراقي خاصة لمن هم في خارج البلاد لان الرؤية عندهم منقوصة عن الواقع الحقيقي في الداخل، والرؤى هي كما يلي:

1.اعجاب العراقيين بالتجربة الكردية، واعدادها بالتجربة الحية النابضة بالحياة العراقية رغم خصوصيتها الكردية، واقرارهم انها تجربة مميزة ومعبرة عن التنوع الحقيقي الذي يتسم به الواقع العراقي.
2.استعداد العراقيين للدفاع عن نموذج تجربة اقليم كوردستان، باعتباره جزاءا حيا من العراق.
3.تمني العراقيين بنقل التجربة الى مناطق اخرى من العراق، مثل الانبار والبصرة وبغداد والعمارة والكوت وصلاح الدين، وهذا المؤشر استنبطتها من اراء بعض العراقيين من تلك المحافظات المذكورة.
4.اعتبار تجربة الحكم للحكومة الاتحادية في بغداد فاشلة تماما وتجربة الحكم في اقليم كوردستان ناجحة تماما.
5.اعتراف العراقيين بان فساد الحكومة الاتحادية لا يقارن باي حال من الاحوال بفساد حكومة الاقليم.
6.الاعجاب بالبيشمركة وقوات الاجهزة الامنية في اقليم كردستان لعدم اختراقها من قبل الجماعات الارهابية وحرصهم الشديد على الاجراءات لحماية الاقليم من اي اختراق أمني، واعتراف العراقيين بان الجيش والقوات المسلحة والاجهزة الامنية العراقية مخترقة تماما من الجماعات الارهابية والطائفية.
7.حصة الاقليم البالغة 17% من الميزانية العامة، هي بالحقيقة 13.4%، لاستقطاع نسبة 3.6% باسم المصاريف السيادية، وهذه المعلومة مصدرها وزراة المالية العراقية.
8.تساؤول العراقيين عن مصير ايرادات العراق التي بلغت 300 مليارا للسنوات الماضية، وغياب اي عمل اوخدمة او بناء على ارض الواقع في بغداد والمحافظات لهذه الايرادات الهائلة وفوق هذا يتسم حال المواطنين بفقر شديد، بينما ايرادات اقليم كردستان لم تبلغ 30 مليار دولار طوال نفس الفترة، وبالرغم من الفساد المالي والاداري في الاقليم لكن يتسم بمستويات معيشة وحياتية جيدة للمواطنين وخدمات وكهرباء ومياه صالحة للشرب ومرافق وبناء وعمران وحركة تجارية ودورة اقتصادية نشطة ومستوى فقر قليل.
9.الاعجاب بالحالة السياسية في الاقليم من خلال استيعابها للمعارضة، ووحدة مواقف القيادات الكردية تجاه القضايا العامة للكرد واختلافهم حول القضايا المتعلقة بالشؤون الداخلية.
10.وصول بعض العراقيين الى قناعة تامة بان من حق الكرد حكم العراق بسبب علمانيتهم وبعدهم عن الطائفية وقدرتهم على القيام بالعمل الجدي في البناء واجراء التغيير وتوفير مستويات حياتية ومعيشية وخدمية واقتصادية حقيقية جيدة للعراقيين جميعا.

هذه الرؤى الحقيقية التي لم يشترك اي كردي في العراق على الادلاء بها، هي الرؤى الحقيقية التي نطق بها العراقييون من العرب والتركمان والمسيحيين في بغداد وبعض المحافظات، وقد تجمعت لدي خلال معايشتي الحقيقية في بغداد ومن خلال اشرافي وعملي في مجلة بغداد بالرغم من المعاناة القاسية والمشاكل الامنية والمالية التي واجهتها واواجهها في هذا المجال.

ولابد ان ابين ان هذه الرؤى قد ساعدتني كثيرا على استنباط استنتاجات كبيرة، من اهمها ان الرؤية العراقية في الداخل بدأت تحمل تغييرا حقيقيا تجاه الكرد وتجاه تجربة اقليم كردستان خاصة بعد زياراتهم للاقليم، وهي تحمل الاعتزاز والفخر بتلك التجربة، وبدأت تسجل خطا بيانيا بالتصاعد يوما بعد يوم. والاهم في كل هذا المشهد ان هذه الرؤية الواقعية للعراقيين بدأت تثق بنيات الكرد وقادتهم وبدأت تؤمن تمام الايمان بان التجربة عراقية وليست انفصالية.

ولكن يبدو ان هذه الرؤية المنطقية ما زالت بعيدة عن اعين بعض العراقيين ولو انهم قلة، خاصة ممن هم في الخارج لعدم معايشتهم للتجربة من الداخل، والزميل الكاتب البصري يبدو انه مازال بعيد عن هذه المعايشة، ولو تفضل الكاتب بقبول دعوتي لزيارة بغداد واقليم كردستان فاني على استعداد لاستضافته كزميل وكأخ واكون شاكرا له ليرى الحقيقة على ارض الواقع ويدلي بدلوه فيما بعد عند عودته، وفي الختام لابد ان اوضح ان قصدي من وراء هذا التعقيب الهاديء ما هو الا بيان الحقيقة التي نحن بأمس الحاجة اليها للاستناد اليها لبيان الحقائق والاحداث وتحليل القضايا والامور في العراق، ومن زرع خيرا..خيرا يحصد.


[email protected]