كنا في الجزء الثاني من سلسلة المقالات هذه قد تعرضنا للإشكالية الطائفية في سورية،والآن سنتعرض لإشكالية الإسلام والإسلام السياسي فيها، سورية محكومة من حزب البعث منذ عام 1963، بغض النظر عن كيفية تطور السلطة السياسية وتركيبتها الأيديولوجية والحزبية والثقافية والشخصية، لم يستطع البعث العسكري الذي قام بانقلابه مع التيار العسكري الناصري الذي انقلب عليه بعد أشهر، وأصبجت السلطة بعثية خالصة، لم يستطع أن ينفذ إلى المتعارف عليه اجتماعيا، سواء كان دينيا أو تقليديا- ولم يقاربه لأنه كان يعرف أنه لازال بلا عمق شعبي- وإنما استخدمته سلطات البعث كما هو موجود، ودون تدخلية تذكر على المستوى الثقافي والتربوي، ولا على مستوى إحياء النويات المدنية، المتقابلة او المتفاعلة دينيا أو ثقافيا أو مهنيا..ولكنه استطاع أن يحول سيادة الدولة والدولة كلها، وبالتالي الدين المتاح* إلى مطية، فيها تماسك ارتجالي غير مدروس وإنما ظرفي، والظرفي عندما يكون الأقوى يتحول إلى دائم..وهذا ما حدث في سورية، فقد تحكمت ظروف عديدة، وأهمها التمحور حول الانشغال بتكريس السلطة السياسية في البلد وهذا أخذ وقتا، أكثر من عقدين من الزمن كانت النخبة المتسلطة مشغولة بشكل رئيسي في تثبيت سلطتها السياسية الأمنية، 1963 وحتى 1983 نهاية الصراع بين السلطة والإخوان المسلمين، لصالح السلطة، فبقي الدين المتاح سائدا ولكن الذي حدث أن السلطة السياسية بعد انتصارها على الإخوان أخذت على عاتقها الحفاظ على الدين المتاح، مع تنميات محددة ودون التدخل بالسياسة التي تمنعها السلطة. بل أن الانتشار الأفقي للتعليم منذ مجيء البعث، جعل السلطة تتدخل إلى حد أنها سمحت لمن يريد دراسة الشريعة في الجامعة بدون علامات، شرط أن يكون بعثيا، إضافة على انها ساهمت في بناء المساجد، وأقامت معاهد الأسد لتعليم القرآن على نفقة الدولة، ربما يرى بعضنا أن هذا سلوكا ارتجاليا من السلطة، على أثر الصراع مع الإخوان، لكنه استمر مع وسائل أخرى، من أجل تحديد حركية الدين المتاح.lt;br /gt; lt;br /gt; لهذا انتشار الدين المتاح لدرجة يصعب معه رؤية علاقة هذا الانتشار بالسلطة العامة، وفكفكة هذه العلاقة.lt;br /gt; كلما ضغط الدين المتاح المحمي سلطويا على المجتمع ككل، كلما باتت السلطة أكثر راحة في حركيتها العامة والخاصة. الشارع ذو حضور للدين المتاح، والدين المتاح ممسوك من عنقه، وهو لا يريد أن يكون أكثر من محاولة هيمنته على الشارع العام، ولصالح السلطة العامة والتي هي ليست سلطة دينية بأي حال، وكذا ليست علمانية من جهة أخرى. فهي لا تسمح بخصخصة الدين الإسلامي، كما انها لا تسمح بخصخصة السياسة أجمالا. حتى وفق قوانين الأحوال الشخصية، فالطوائف والأديان حقها في قوانينها الشخصية محفوظ، ولكن حق القوانين المدنية مهدور تماما ولامكان له، لا عند سلطة الدين المتاح ولا عند سلطة السيد الرئيس العامة.lt;br /gt; lt;br /gt; السلطة كانت قبل ذلك قد صادرت السياسة من المجتمع، وقد بدأت هذه المصادرة منذ مجيء البعث للسلطة 1963، السلطة صادرت الدين العام لتحوله إلى دين متاح، هذا عنوان بدأ مسيرته منذ بداية الثمانينيات من القرن العشرين. صادرته دون أن تحد من حركته، وحتى أنها بدات تتسامح مع هوامش جديدة بدأت تنشأ لديه، القبيسيات نموذجا، والسماح لبعض الأسماء بأن تتصدر واجهة هذا الدين المتاح، بهوامش لم تكن موجودة من قبل. هذا الدين المتاح تداخل مع مقولة الجهاد التي وجدت السلطة العامة نفسها، في حاجة لتنميته، سوريا وإقليميا، وذلك منذ حسمت خيارها الاستراتيجي في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات في ألا تستجيب للمد الديمقراطي والحقوق إنساني، في ذلك العقد، فوجدت مسند ظهر لها، في هذا الدين المتاح على المستوى الشعبي، وفي تكريس جملة من التحالفات والمناورات السياسية التي أظهرت السلطة، وكأنها حامية للنسق الجهادي الإسلامي، تحت شعار المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق، لهذا نجد الآن وعبر الإسلام السياسي وغير السياسي، قد أصبح للنظام كتلة شعبية مساندة في الشارع العربي. هذه الكتلة لم تكن معنية، لا هي ولا من تشكلت عبر تنظيماتهم، بالتداخل المرضي بين الحالة الطائفية في سورية، وبين الخيار الإسلاموي الشعبوي.lt;br /gt; lt;br /gt; ثمة قضية لابد لنا من التنويه لها، في الدين العام السائد وقبل أن يتحول إلى دينا متاحا، لم يكن هنالك تضييق على المساحات الدينية للأديان والطوائف الأخرى بعد الاستقلال1946 وهذه قضية تحتاج إلى أن نفرد لها مجالا خاصا، أقله أن الاستعمار الفرنسي حاول صياغة سورية، بطريقة بدأت تقسيمية وانتهت إلى سورية الحالية. فلم تشهد سورية منذ دخول الاستعمار وحتى واللحظة، أي تضييق على الحريات الدينية المتوارثة، بشريا وجغرافيا، طبقة الأعيان وأغنياء المدن، ساهمت في تكريس عدم التدخل في مجالاتها، واقطاعاتها.lt;br /gt; هذا واقع عياني وظاهر في سورية الآن، ولكن إشكالية الإسلام السياسي أخذت في سورية أبعادا جديدة، إضافة لما ذكرنا، هنالك لعب استخباراتي سوري واسع بتنظيمات الإسلام السياسي والجهادي خاصة، وليس المقصود هنا حزب الله أو حركة حماس، بل تلك التنظيمات الصغيرة المتمحورة حول أيديولوجيا القاعدة، واختلط هذا الأمر فيما يجري في سورية مع الدين المتاح، لأن الدين المتاح، لا تعنيه إقامة دولة مدنية، ولا تعنيه إحداث قوانين مدنية، ولا تعنيه موضوعة السلطة السياسية والديمقراطية، فما الذي يعنيه إذن؟

نشر الدين المحافظ والتقليدي العالم، المتوافق مع معادلة الممنوع والمتاح سلطويا، هذا الأمر ما الذي عناه ويعنيه بالنسبة لبقية أديان وطوائف سورية؟ شكل ضغطا واضحا في الشارع العام، وهذا بالضبط ما يحتاجه النظام السياسي. وسأنهي هذا الجزء بمفارقة مأساوية في موضوعة المسودة التي طرحت قبل عام لقانون جديد للأحوال الشخصية، سمح النظام لمجموعة من منظري الدين المتاح نسخة من الإسلام السني ان يكتب هذه المسودة وينشرها، السؤال الذي يطرح السلطة إذا كانت بعثية فهي من المفترض علمانية، فكيف تسمح بذلك؟ ولماذا؟ وإذا كان القائمون عليها علمانيين بعثيين وينحدرون من أقلية طائفية، فكيف يمكن فهم هذا الموضوع؟ هو ليس مساومة كما يشاع مع الدين المتاح، لكونه دين الأكثرية الدينية، وليس تعبيرا عن سيطرة الدين المتاح على السلطة العامة التي تسن القوانين وتفرضها، إذن لماذا؟ هل يكفي القول لكي تبقى السلطة العامة حكما في مجال التطييف الاجتماعي؟ السلطة بحاجة لأيديولوجيا متناسبة مع التحولات الدولية، تتشارك معها السيطرة على الشارع الشعبوي، وهذا لم تعد البعثية بمقولاتها قادرة على تغطيته، وحتى لو لم يكن هنالك مدا إسلاميا، فإن الأنظمة العربية كانت ستخلقه، لحاجتها لبدائل شعبوية، لماذا؟ هذه أسئلة علينا أن ندخل فيها وفي وقت آخر، ولكن قبل ذلك علينا رؤية أن سورية الآن إن كان فيها إسلام سياسي فهو إسلام السلطة السياسية، والناطق باسمها شعبويا أما جماعة الأخوان المسلمين في سورية المعارضة فلها حقل ملتبس تصر هي على بقاءه ملتبسا، لماذا؟ وهذا ربما نتطرق له لاحقا أيضا. مع كل هذه الرؤية للمسألة لابد لنا من القول أن السلطة السياسية تتبادل المنافع والكراهية مع هذا الإسلام السياسي المنتشر بالعالم وهذا ما جعل البنية السورية ملغمة أيضا بهذا الإسلام المتاح المتقاطع بنيويا مع هذا الإسلام المنتشر، فهي لم تعتمد فقط على قوتها الأمنية، بل اضطرت لرشوة هذا الدين المتاح بدء من تسعينيات القرن الماضي، وهو دين تاريخي قابل للرشوة، عبر فاعليه مثله مثل أية ظاهرة تاريخية.

اعتمدت في هذا الجزء على إضاءات بحث مهم لياسين الحاج صالح بعنوان وضع -الدين العام-.. مناقشة في الشأن الديني السياسي العربي ولكنني فضلت استخدام مفهوم الدين المتاح، لاعتبار يخص آليات عمل السلطة العامة في سورية، خاصة بعد عام 1982 ونهاية الصراع مع الإخوان المسلمين، فصادرت السلطة الدين العام لتحوله إلى الدين المتاح، وبات لدينا دين ممنوع ودين متاح، ومرت هذه العملية بسلسلة من الإجراءات السلمية والعنفية بدء من عام 1964أحداث حماة الأولى.