ليس هناك مجال للشك في أن حديث الرئيس باراك أوباما أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام ٢٠١٠ حيث تمنى أن يرى على أحد مقاعد الجمعية العامة ممثلا لدولة جديدة اسمها فلسطين، كان صادرا من ضمير صاح لرئيس أكبر دولة في العالم اعتقد، ربما، أن إسرائيل على استعداد للاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة والديمقراطية. غير أن ما جرى على أرض العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية قلب توقعات أوباما رأسا على عقب إلى أن وصل به الأمر إلى ما عبر عنه في خطابه هذه السنة أمام الجمعية العامة حيث جعل نفسه في موقع الخط الأمامي في مواجهة المسعى الفلسطيني إلى نيل اعتراف الأمم المتحدة بدولتهم المستقلة، من خلال التهديد باستخدام حق الفيتو في مجلس الأمن الدولي.

لقد انتصرت استراتيجية الدولة على صدق الضمير، انتصرت لغة المصالح على حكمة الضمير المختلي إلى نفسه في حالة صحو خارج كل المؤثرات الضاغطة. هذا لا يعني أن هذه المصالح الإستراتيجية الأمريكية كانت غائبة عند صياغة خطاب الرئيس أوباما في العام الماضي، وإنما يعني أن الخلاف يكمن في عدم التطابق بين الرؤية التي تحكمت في بلورة الخطاب السياسي في تلك الفترة وبين الرؤية التي أصبحت تتحكم فيه عشية الانتخابات الرئاسية. فالذي يبدو هو أن أوباما حاول أن يجعل من حل القضية الفلسطينية على قاعدة الدولتين رصيدا سياسيا وديبلوماسيا قد يساعده في حملته الانتخابية للفوز بالولاية الثانية، غير أن واقع تطور الأمور وعوامل الإستراتيجية الإسرائيلية في عهد نتانياهو فرض على الرئيس الأمريكي الانكفاء، والتراجع عما سبق له أن أعلنه. ولعل لجوءه إلى استخدام حق الفيتو لإسقاط مشروع قرار يدين السياسة الاستيطانية الإسرائيلية، على الرغم من أن الموقف الرسمي الأمريكي المعلن هو أن الاستيطان يشكل عقبة أمام السلام، قد كان بروفة معبرة عن التحول الذي طرأ على السياسة الأمريكية حيث عادت إلى مربع الانطلاق، الذي يعني اعتبار التحالف الإستراتيجي الأمريكي الإسرائيلي العامل المحدد لكل السياسات تجاه منطقة الشرق الاوسط. أي أن كل التحالفات الأخرى ينبغي أن تحتل المراكز الثانوية عندما تطرح في الميزان، بهذا القدر أو ذاك، مع التحالف الإستراتيجي الأمريكي الإسرائيلي.

إن استحضار هذه الحقيقة غير القابلة للدحض لكونها قد عمرت طويلا وصمدت في وجه بعض الأزمات الطارئة في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، يساعد على بلورة الخطط السياسية لمختلف القوى في منطقة الشرق الأوسط بما يجنب صناع القرار الإستراتيجي الكثير من المفاجآت غير السارة، وخاصة بالنسبة للدول العربية منفردة أو على صعيد الجامعة.

وبما أن الهاجس الأساسي بالنسبة للرئيس الأمريكي في الوقت الراهن، هو العمل على ضمان إعادة انتخابه لولاية ثانية، وكل ما عدا ذلك ليس إلا أمرا ثانويا. وبما أن الناخب اليهودي الأمريكي يلعب دورا محوريا في ترجيح كفة المرشحين إلى الرئاسة فلا بد من أخذ هذه المسألة بعين الاعتبار. وفي هذا السياق، فإن الحرص على عدم إغضاب اللوبي اليهودي المؤيد لإسرائيل عامل من العوامل المؤثرة في العملية الانتخابية الأمريكية وهو بالتالي، عنصر من عناصر الحملة الانتخابية، التي لا يبدو أنها ستكون سهلة بالنسبة للرئيس أوباما الذي أصبح يواجه أزمات متعددة في آن واحد، الأمر الذي حول نهاية ولايته الحالية إلى مسلسل لا ينتهي من التسويات ومحاولات التوصل إلى تسويات مع الجمهوريين في الكونغرس.

لقد استطاع الرئيس عباس أن يكشف حقيقة الموقف الرسمي الأمريكي من مسالة الدولة الفلسطينية المستقلة عندما صمد في وجه الضغوط التي مورست عليه من أجل ثنيه عن التوجه إلى الأمم المتحدة لطلب عضوية دولة فلسطين.


وفي الواقع فإن أوباما قد يكون على المستوى الشخصي مع إقامة دولة فلسطينية غير أن رهن إقامتها بالمفاوضات المباشرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين يعني عمليا كونها مشروطة بالقبول الإسرائيلي. والحال، أن إسرائيل لا تقوم في الواقع إلا بما يجعل إقامة هذه الدولة أمرا مستحيلا. أي أن هناك شرط استحالة يواجه جديا مسعى القيادة الفلسطينية إلى إقامة الدولة عن طريق المفاوضات التي بينت مرحلة أوسلو أنها غير قادرة على اختراق الفيتو الإسرائيلي الفعلي، رغم كل التصريحات التي قد تصدر عن بعض المسؤولين الإسرائيليين للاستهلاك السياسي وممارسة نوع من العلاقات العامة على المستوى الدولي.

إن جسامة مسؤولية المجتمع الدولي السياسية والأخلاقية تجاه الشعب الفلسطيني ليست قابلة للجدل كما أن مسؤولية جامعة الدول العربية تجاه هذا الشعب ليست أدنى جسامة غير أن الذي يبدو هو أن الجهتين معا غير مستعدتين للعمل على أساس هذه المسؤولية وما يتطلبه الاضطلاع بها من قرارات تاريخية وإجراءات عملية على مختلف المستويات السياسية والإستراتيجية.

ولقد تبين من سلوك الولايات المتحدة ومن الدول الغربية الأساسية أن بعد العدل والحقوق الوطنية غير القابلة للتصرف واحترام قرارات الشرعية الدولية يتراجع إلى الخلف وقد يغيب بصورة جلية كلما تعلق الامر ببعض القضايا السياسية والإستراتيجية التي تكون فيها مصالح هذه الدول الحيوية ضمن رهانات الصراعات المعروضة على أنظار المجتمع الدولي وخاصة على مستوى مجلس الأمن حيث تتمتع الدول العظمى بحق النقض لمعارضة كل مشاريع القرارات التي ترى أنها لا تخدم مصالحها الإستراتيجية أو مصالح حلفائها.