على ضوء الأزمّة الناشبة بين أنقرة وتل أبيب، بديهي أن يتبادر للذهن، رزمة أسئلة، أقلّها شأناً: لماذا لم تطرد حكومة حزب العدالة والتنمية الإسلامي، السفير الاسرائيلي من أنقرة بعد الهجوم الإسرائيلي الوحشي على غزّة، إذا كانت الحكومة التركيّة تمتلك كل هذا quot;الحرص الشديدquot; على غزّة، وتُبدي كل ذلك quot;التضامن العميقquot; مع محنة أهلها!؟. بخاصّة، حين شعر أردوغان أن رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق، إيهود أولمرت quot;خدعهquot;، بعد أن أعطى وعداً بأنه لن يهاجم غزّة، كما أشيع؟!.

ولماذا لم تفعل تركيا، ما تفعله الآن، بحقّ إسرائيل، حين هاجم الكوماندوس الإسرائيلي السفن التركيّة المتّجهة نحو غزّة، بخاصّة أن تلك الحملة، كان العدالة والتنمية، الذي يسيّرها، من وراء الستار، وبالتالي، الضربة الاسرائيليّة كانت موجّهة للحزب التركي الحاكم، اكثر من كونها موجّها للنشطاء الاتراك الموالين لحزب اردوغان؟!. ولماذا لم تفعل تركيا ذلك، حين أهين السفير التركي في تل أبيب، بتلك الصورة التي ظهرت على شاشات التلفزة؟!. لماذا انتظر اردوغان مضي سنة ونصف تقريباً على حادثة الهجوم الاسرائيلي على quot;الاسطول التركيquot;، ليتخذ بحقّ إسرائيل هذه quot;العقوباتquot;، ولم يفعلها في حينه، والحدث لا زال ساخناً، ودماء المواطنين الاتراك المسفوكة، لا زالت ساخنة وقتها؟!. ثم، لماذا تحاشى الاتراك، توجيه quot;اسطول الحريّة _ 2quot; من موانئهم، ما داموا يشككون بـquot;قانونيّة الحصار على غزّةquot;. وعطفاً على ما سلف من الأسئلة، كيف لمهندس نظرية quot;تصفير المشاكلquot; مع دول الجوار، أحمد داوود أوغلو، سعيه الى تحويل الاعداء والخصوم الى اصدقاء، (وهذه النظرية اثبتت فشلها، لأن الأزمة مع ارمينيا لا زالت قائمة، والوضع القبرصي على حاله. والنظام السوري، تحوّل الى عدو، والنظام الايراني، عاد الى خانة الخصم، ومن المرشّح ان يصبح عدوا لتركيا...)، وإذ بصاحب هذه quot;الفذكلةquot;، يسعى الى الدفع بحليف استراتيجي تاريخي لتركيا الى خانة العدو، مجّاناً، ونزولاً عند سواد أعين العرب والفلسطينيين على وجه التحديد؟.

ولعلّ السؤال الأبرز هنا، هل يمكن أن ينسف العثمانيون الجدد ما اسس لهم العثمانيون القدامى من علاقات مع اليهود، وصولاً لعلاقات تركيا مع اسرائيل منذ 1949؟. الوقائع والمعطيات والبراغماتيّة، ومنطق المصالح، يقول: لا.

تعود العلاقات التركيّة _ اليهوديّة الى الحقبة العثمانية، حين استضافت السلطنة اليهود المطرودين من اسبانيا. وتغلغل اليهود في الجسم الاداري والاقتصادي في السلطنة، حتّى بات لهم تأثير ووزن على القرار والحكم، وصل لحد طلب تيودور هرتزل (1860 ndash; 1904) من السلطان عبدالحميد (1842 ndash; 1918) الموافقة على اقامة دولة يهوديّة في فلسطين. وحين رفض عبدالحميد، قام أقطاب جمعية الاتحاد والترقيّ القوميّة التركيّة، بعزله سنة 1909، تحت تأثير النفوذ القوي لليهود في الجمعيّة. حتّى أن مؤسس الجمهوريّة التركيّة مصطفى كمال أتاتورك (1881 ndash; 1938) يعود في أصوله الى يهود الدونمة (المطرودين من اسبانيا).

وكانت تركيا أوّل دولة اسلاميّة، تعترف باسرائيل سنة 1949. ومنذ نهاية الخمسينات، وقّعت المؤسسة العسكريّة التركيّة مع نظيرتها الإسرائيليّة، اتفاقاً سريّاً لتبادل المعلومات الاستخباريّة، ضدّ quot;الإرهاب والحركات التخريبية العربيةquot;. كما سمحت أنقرة، وبشكل سرّي لأجهزة الأمن الإسرائيليّة بالعمل في الأراضي التركيّة. واتفقت انقرة وتل ابيب، في السبعينات، على تعزيز التعاون الأمني لمراقبة الوضع في لبنان. وشهدت حقبة الثمانينات زيارات مكثّفة لقادة عسكريين وأمنيين إسرائيليين على تركيا. وسمحت تركيا لرجال أعمال يهود بالسيطرة على بعض وسائل الإعلام وبثّ دعايتهم عبرها ضدّ العرب، وأنهم أعداء تركيا، وكانوا وراء إسقاط السلطنة العثمانيّة.

وشهد مطلع عام 1995 زيارات مكثّفة بين المسؤولين الإسرائيليين والأتراك، تكللت بزيارة الرئيس التركي السابق سليمان ديميريل إلى إسرائيل، في أول زيارة يقوم بها رئيس تركي لتل أبيب. تم خلالها التوقيع على اتفاقيّات اقتصاديّة مهمّة في التجارة الحرة، إضافة إلى اعتماد اتفاق استراتيجي أمني وقعه مسؤولون عسكريون وأتراك في بداية 1996 ينصّ على النقاط التالية:
السماح لاسرائيل باستخدام الأجواء والأراضي والمطارات التركيّة في عمليات تدريبية.
التنسيق الاستخباري بين الجانبين في جمع المعلومات، وخاصة عن سورية وإيران.
الاستفادة التركيّة من التجربة الاسرائيليّة والخبراء الإسرائيليين في مكافحة حزب العمال الكردستاني.
تقدم إسرائيل إلى تركيا خبراتها في مجال الصناعات العسكريّة والتكنولوجيّة الإلكترونيّة المتطورة لتحديث الطائرات التركيّة المقاتلة.
وكان أردوغان قد صرّح بأنهم سيعلّقون العمل بكل الاتفاقيّات التجاريّة والعسكريّة، نتيجة رفض اسرائيل الاعتذار من تركيا، وتعويض اسر الضحايا الاتراك، على خلفيّة الهجوم الاسرائيلي على الاسطول التركي المتّجه نحو غزّة نهاية أيّار 2010. إلاّ أن وزير الاقتصاد التركي ظافر جاغليان، ذكر أن العلاقات التجاريّة مع إسرائيل مستمرّة، وأن المبادلات التجارية بين البلدين، شكلت نحو 2.7 مليار دولار للفترة بين كانون الثاني وتموز عام 2011، وبلغت الصادرات التركية 1.5 مليار دولار، فيما بلغت الواردات 1.2 مليار دولار. وبحسب تقارير أخرى فأن الصادرات التركية الى اسرائيل تصل الى اربع مليارات دولار، بينما تستورد بضائع من اسرائيل بقيمة 1،3 مليار دولار، عدا عن صفقات السلاح وصيانة الطائرات التركيّة، وصفقة طائرات التجسس الاسرائيليّة quot;هيرونquot; التي تسخدمها تركيا في حربها على العمال الكردستاني.
ويشكك الكثيرون في quot;العقوباتquot; التركيّة ضد اسرائيل، مؤكدين على أنها أتت للتغطية على موافقة الحكومة التركيّة، على نشر الدرع الصاروخية في تركيا. ومن هؤلاء المشككين، الخبير في الشؤون التركية، محمد نورالدين، الذي يرى ان هذا الدرع، يستهدف quot;إيران وسوريا وروسياquot;.
ويرى آخرون أن تركيا ستتضرر، إذا كانت هذه الأزمة حقيقيّة. ذلك أن أنقرة بحاجة دوماً للوبي اليهودي في تركيا وأوروبا فيما يخصّ محاربة اللوبي الأرمني واليوناني والكردي في أمريكا وأوروبا. كما ستتأثّر علاقات تركيا بالاتحاد الاوروبي وواشنطن ولندن، بشكل عام، نتيجة قوّة اللوبي اليهودي هناك. ناهيكم عن أن أنقرة، كانت ولا زالت تستعين بالخبرات والتقنية الاسرائيليّة، بشكل رئيسي، في حربها على العمال الكردستاني، كما أشرنا.
وستتضرر تركيا اقتصاديّاً أيضاً، لأن السياح الإسرائيليين الزائرين لتركيا، يصل عددهم لـ360 ألفاً سنوياً، ينفقون ما يزيد على 600 مليون دولار، إضافة إلى مبلغ 5.2 مليار دولار يخسرونها في كازينوهات تركيا.
وبالتالي، غالب الظنّ، أن quot;الأزمةquot; الحاليّة بين أنقرة وتل أبيب، مفتعلة، ولن تكون بتلك الخطورة التي يروّج لها البعض. وصحيح أن تركيا هي الحليف الاستراتيجي الوحيد لاسرائيل في المنطقة، إلاّ أن إسرائيل، ليست بذلك الضعف والتضعضع والانحسار داخل تركيا وقرارها السياسي والعسكري والاقتصادي والاعلامي، كما يحلو للبعض تفسير ذلك.
من جهة اخرى، هذه الازمة المفتعلة، أتت للتغطية على أزمات داخليّة تركيّة عميقة وجذريّة، وفي مقدّمتها التهاب المشهد الكردي مجدداً، وسط تصاعد ايقاع الصراع بين العمال الكردستاني وتركيا في الآونة الاخيرة. وهنا، ستحيل، الحكومة التركيّة، أزمتها الكرديّة الخانقة، وتفاعلاتها الاخيرة، الى quot;الدعمquot; الذي تقدمه اسرائيل للعمال الكردستاني. ذلك ان الاتهامات التركيّة للكردستاني، وعودته للردّ على الهجمات التركيّة، بقوّة السلاح، تارةً تلقيه على النظام السوري، وتارةً على اسرائيل، على اساس أنه فعل انتقاما من اردوغان، نتيجة مواقفه من الانتفاضة السوريّة، ومن محنة غزّة!. ولا أحد يستاءل عن خلفيّة هذا التخبّط في إحالة الأزمة الكرديّة في تركيا إلى quot;منشأ خارجيquot; متناقض!، والاكتفاء بترديد ما يشيعه الاعلام التركي الموالي لحزب العدالة والتنمية بهذا الصدد!؟.
حاصل القول: حتّى لو زار اردوغان قطاع غزّة المحاصر، وأغدق الخطب والكلمات إيّاها، وذرف الدموع إيّاها، فكل ذلك، هو لزوم ما يمكن تسميته بـquot;الخدع السينمائيّةquot; السياسيّة والإعلاميّة التي يجيدها أردوغان بحرفيّة عالية، بخاصّة آناء توجّهه لدغدغة مشاعر الشارع العربي ونخبه. وبالتالي، ستبقى العلاقات التركيّة _ الاسرائيليّة، قويّة ومتينة واستراتيجيّة، حتّى لو كان ذلك من تحت الطاولة أيضاً، ووراء الغرف المغلقة. ذلك أن تركيا، يستحيل عليها ان تضحّي بهذه العلاقات، إذا كانت كفّة الخسائر هي الأرجح على كفّة الأرباح، في ميزان المصالح.
بالمحصّلة، إذا كانت تركيا جادّة وحقيقيّة في معاقبة اسرائيل، أوليست تعاقب نفسها، في هذا المقام؟. ذلك أن تركيا بحاجة لاسرائيل، أضعاف حاجة الأخيرة لتركيا. أم أن الاتراك، يريدون أن يكفّروا عن ذنوبهم نتيجة الخدمات التي قدّمونها للحركة الصهيونيّة والكيان العبري، خلال المئة والخمسين سنة الماضية، من حقبة العثمانيين القدامى وصولاً لحكم العثمانيين الجدد.