دائما هناك شيء يدعو للتفاؤل، ودائما هناك ضوء يوجد في مكان ما ينتظرنا أن نراه. الثورة السورية رغم اشتراكها مع أخواتها العربيات في كثير من الوجوه إلا أن فيها ما يجعلها متميزة ومختلفة. السلطة في سوريا تتمتع ببنية طائفية عائلية مركبة تمكنت بعد عدة عقود من احتكار وسائل القوة في المجتمع أن تحول هذه الوسائل إلى أجهزة تابعة لها فاقدة بعدها المؤسسي. فأجهزة الأمن والجيش والتنطيمات المدنية المشتقة من حزب البعث كلها ارتهنت للعائلة الحاكمة وأصبحت من امتداداتها. في مقابل ذلك هناك تمرد شعبي أعزل لايملك من وسائل القوة إلا تجمعه واتفاقه على رفع صوت واحد يطالب بالحرية والكرامة. سوريا جغرافياً أصغر من مصر وليبيا واليمن، الأمر الذي يجعل تنقلات الجيش الكثيفة والأمن أسهل وقابل للدعم والإمداد المستمرين، والكثافة السكانية التي شكلت عنصر قوة في مصر عبر التجمعات الشعبية الضخمة لاتتوفر في سوريا بالطريقة نفسها. والأجهزة القمعية في سوريا أعطيت الحق الكامل بالقتل والتنكيل والاعتقال والتعذيب والتشريد والنهب بطريقة نادراً ما نجد مثيلاً لها في التاريخ.

هذه العوامل تساعد النظام على إطالة عمره قليلاً وتجعل الثورة السورية واحدة من الثورات الطويلة زمنياً، كما تجعلها تختلف عن الثورات التي حدثت في النصف الثاني من القرن العشرين التي كانت في معظمها ثورات قصيرة حيث نجحت في إسقاط نظام الحكم في غضون أسابيع أحياناً وأشهر قليلة أحياناً أخرى. لقد سقط تشاوشسكو أعتى دكتاتور في أوروبا الشرقية في غضون أسبوع واحد من المظاهرات، من 16 إلى 22 كانون الأول، وسقط شاه إيران في أربعة أشهر من التظاهرات، من أغسطس (آب) وحتى كانون الأول 1989، وإن كان سبق ذلك عصيانات مدنية، وسقط ميلوسوفيتش في صربيا تقريبا في ثلاثة أشهر من تشرين الثاني وحتى شباط 1997 عندما وصل عدد المتظاهرين في بلغراد إلى 200.000 متظاهر، وسقط مبارك في مصر في أقل من عشرين يوماً، وسقط بن علي في تونس في أقل من شهر، من 17 كانون الأول وحتى 14 كانون الثاني 2011.

الثورتان اللليبية واليمنية طويلتان نسبياً، ولكنهما مختلفتان عن الثورة السورية في أن الأولى ينتظرها حل سياسي أكيد، والثانية انتهت تقريباً وحققت هدفها في إسقاط النظام. بينما الثورة السورية لايبدو لها في الأفق أي حل سياسي وليس هناك من رغبة دولية للتدخل فيها كما حصل في ليبيا، وبالتالي فهي مرشحة لفترة زمنية أطول. هذا التأخر في إسقاط النظام السوري فيه الكثير من المساوىء على المجتمع السوري وينطوي على احتمالات بعضها يصل إلى خطورة كبيرة، ولكن في المقابل ليس كل شيء في تأخر هذا السقوط سيء. ذلك أن هذا النظام الذي أعاد صياغة سورية على مدى عقود ونقلها من مجتمع مدني يحمل إمكانيات كبيرة للتقدم إلى نظام أقلوي ألغى المؤسسات والمجتمع ونشر نوعاً من القيم الأخلاقية الفردية، قد بنى إرثاً ثقيلاً من التحديات التي يتوجب على الشعب السوري مواجهته. ولكن الطول الزمني للثورة سيجعل هذا الإرث السلطوي يتلاشى من الآن وأثناء الفعل الثوري، بمعنى أن واحدة من الاحتمالات الإيجابية التي تدعونا للتفاؤل في إطالة مدة الثورة أن المجتمع السوري يعيد اكتشاف نفسه مرة أخرى ويقوم ببناء ذاته حتى قبل إسقاط النظام.

الحالة السورية تشبه لحد كبير الثورات الكبرى في التاريخ حيث تم تصنيع كل شيء أثناء الثورة وتم بناء كل ما كانت تفتقده الثورة عند بدئها. فالثورة السورية اليوم تعيد صناعة مفهوم القيادة والنخبة وتقوم بتفكيك مسلمات المثقف التقليدي الذي يعتقد أن المعرفة تمثل قوة كافية في التغيير أو أنها تمثل سلطة بحد ذاتها. الثورة تنتج اليوم قياداتها من قلب الفعل الثوري وهذه القيادات متعلمة وإن كانت ربما غير مثقفة على الطريقة التقليدية التي كان يتوجب فيها على المثقف أن يعرف عن ماركس وعن الأدب والنقد والنظريات السياسية والاقتصادية. النخبة الجديدة أكثر عملية وأكثر عضوية في انخراطها في العمل المباشر، إنه مفهوم غرامشي معدلاً بصورة أكثر إيجابية ومرونة لأنه لاينطلق من أفكار مسبقة ولا أيديولوجيا معدة سلفاً.

المدة الطويلة نسبياً للثورة السورية تعيد أيضا للشعب السوري قيمه الأخلاقية التي فتتها النظام الحالي وبعثرها خارج فضاءات الثوابت الاجتماعية. الثورة تخلق الآن نماذجها ورموزها الأخلاقية الجديدة التي تصبح ملزمة لنا يوماً بعد يوم، وتعيد إحياء قيم التكافل، والتضحية من أجل الآخر، والتمسك بالمبادىء الكبيرة مهما كلف هذا التمسك، وتصنع أجيالا قادرة على الحلم وعلى تحويل المستحيل إلى ممكن.

والثورة السورية بطول أمدها وآلامها تصبح متمسكة أكثر بفكرة الحرية وأهميتها كقيمة أم تتفرع منها القيم الأخرى، فالنضال الطويل ضد الاستبداد يجعل العودة له أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً. لذلك أعتقد أن الثورة السورية ستناضل ضد كل أنواع التعصب الذي يمكن أن ينشأ بعد الثورة، لأن التعصب هو الوجه الآخر للاستبداد وهذا أمر قدم الشعب السوري دماء كثيرة وضحايا بالالآف من أجل نبذه ومن أجل تحقيق الحرية. في هذا الصراع المرير والمؤلم من أجل الحرية تشارك الثورة السورية مثيلاتها من الثورات الهامة في التاريخ التي لم تقتصر على إسقاط نظام الحكم بل كانت مشروعاً كاملاً يمتد من السياسة ويصل حتى بنية الفرد الذهنية والسلوكية.

الثورة السورية ستكتشف الآن وأثناء الفعل الثوري الفكر الجديد الذي يطمح له الشعب السوري وتطمح له المنطقة، وستعيد إلى الحياة نقاش المسائل الصعبة، وستولد أجيال جديدة من المثقفين تتمكن من المساهمة في المعادلات المستعصية حتى الآن على الحل كالإسلام والتقدم، وكيفية ابتكار نظريات في السياسة تستفيد من التجربة الغربية وتنقدها في الوقت نفسه، كما تستفيد من التجربة العربية الإسلامية.

هذا الاحتمال يعني أنه كلما طالت الثورة السورية يوماً آخر كلما اتسعت في أفقها وتجذرت لتكون ثورة شاملة على كل المستويات التي قد تمتد بتأثيرها لتتجاوز السياسة وإسقاط السلطة ولتصبح شاملة لكل الجوانب الاجتماعية والذهنية والسلوكية علاوة على السياسية التي أساء لها النظام. سيصبح إسقاط النظام بذلك هو إسقاط لكل التاريخ المؤلم الذي جاء به. إن هذا الاحتمال هو واحد من الاحتمالات التي تحبل بها الثورة السورية.

bull;باحث وأستاذ جامعي