الجزء الأول
النور الساطع و اللهيب المتوهج، إنه الإلهام الذي يقود إلى الإبداع و الرؤية الثاقبة التي تنتهي إلى الوعي، إنني أرى المناظر الكثيرة من ثقب عدسة الهاتف المحمول. هل شكّ أحد يوما ما أن العالم يصير قرية صغيرة في جهاز زجاجي محمول؟

ليس كل البشر يؤمن بمقولة الإنسان هو مركز العالم الإنساني هناك من يرى نفسه أقل شئنا لأنه لا يدرك الحقيقة كما يجب أن تدرك في أبعد نقطة لها في الذات الواعية و الذات العميقة. إن الفلسفة في بدايتها لم تكن سوى تمثيلا لمحاولة اكتشاف معقولية العالم من خلال تحليل طبيعة الوعي؛ فقد ذهب كانط إلى أننا لا نعرف العالم إلا من خلال الوعي و قوانينه ولذلك يعد الفهم خالق الطبيعة المرئية الماثلة أمام حواسنا1، ولقد حاول فشته أن يحل المشكلة بإثبات أن القانون الأخلاقي هو قلب الوعي وجوهره وبذلك يكون عالمنا المرئي الخارجي وسيلة ننجز بها واجبنا ونحقق ذاتنا العميقة 2 ولقد ذهب غيرهم إلى اجتهادات فلسفية مماثلة.

الحقيقة أن حياة الإنسان مجسدة ومرموز لها و لا تدرك ذاتها إلا إذا تجسدت واقعا في طبيعة هذا الكون المعروف و المجهول في ذات الوقت، أليست الذات تجهل بعض جوانبها المظلمة، إنها حبلى بالأسرار يتاح لها إظهار سرا من هذه الأسرار كلما بدا لها شيء من وعي و فكر يستثيرها. إنه البحث عن الوعي بعمل ما. إنها دراسة الأشياء ليس بوصفها جامدة أو لذاتها و إنما كتعبيرات عن الحياة التي يعبر عنها الوعي الخاص. فهل يقدم الوعي القيمة الحقيقة للفرد؟ وفيما تتمثل قيمة الإنسان؟

إن المواقف البطولية واكتساب اللطف واللباقة الزائدة و التصنع الكاذب بالاحترام والمبادئ والأخلاق لا تقدم حقيقتنا كما يجب أن تكون، فعملنا هو الوحيد الذي يحدد قيمتنا الحقيقية وقيمة الحقيقة معا. لا توجد في حياتنا أمورا ذات أهمية وقيمة تذكر بقدر ما نخلص فيه من إنتاج ومعرفة، وليس في الجانب الشخصي أو الإنساني لأن مهما عظمت الإنسانية في قلوبنا و شخصيتنا فإنها لا تساوي شيئا مادام الإنسان لا يغيّر و لا يفعل. الإنسانية تحتاج إلى من يأخذ بيدها و يعبّد لها الطريق و يحل مشكلاتها العالقة و ينازع الفناء في ذاتها و يصارع الوجه الآخر للعالم الذي يتحول إلى شر و يعمل على إنهاك قيمة الإنسان؛ الإنسانية أن يأخذ الإنسان بحكمة وقانون و فعل في وضع حدا للإنسانية التي تتآكل مرآتها ويصيبها العمى جراء المنفعة والمصلحة و الأنانية الشيطانية. إذا أردنا البحث عن حقيقة الإنسانية وجب استخدامها، و إذا شئنا فهم الحقيقة لغاية نبيلة يجب فهم معناها أولا لنفهم الحقيقة المناقضة.

يمكن التعبير عن أفكارنا، عن ذواتنا الحقيقية و الواعية في ذات الوقت بكلمات بسيطة و رقيقة مفهومة و جميلة سهلة، بفكر هادئ متزن متساوي غير متسرع، يجب أن ننظر إلى الأفكار التي تخالفنا و التي فيها من التطرف والسخرية والازدراء و الاحتقار بنوع من العزيمة و الجدية، قد تكون الحماسة مطلوبة لكن مختلفة عن حماسة و عن أسلوب الآخرين الحالم المغشوش.

كثير ممن يحتقر أسلوبنا اعتقادا منه أنه معقد وغير مفهوم و الحقيقة أننا نتكلم بلغة بسيطة واضحة جلية مفهومة وصريحة أيضا وجريئة لأن مشكلتنا مع العالم في أحداثه و أخباره مشكلتنا مع النظريات و الأفكار و التطور الذي يحدث مع العالم بكل ما فيه وليست مشكلتنا مع الرجل الذي بات سكران وأحدث قليلا من الشغب والفوضى لأن منتخبه لكرة القدم تلقى هزيمة في كأس العالم.

إن القيمة الحقيقية ليست في المهنة التي يشغلها الإنسان رفيعة أو وضيعة مربحة أو لا تتيح لصاحبها ما يسد رمقه و يسكت صوت أفواه أبنائه، ليس فيما ينتجه من صناعاته أو مزارعه أو آلاته، ليس في المهنة و الإنتاج إن هذا كله لا يعبر عن شخصية الإنسان وكيانه، إن للإنسان جانبه الإنساني الخفي الذي يقاس به.
1 1 قيمة الإنسان في الباطن كإنسان بوعي.

إن قيمة الإنسان و كرامته في البحث و الدراسة الجادة النافعة مهما كانت نسبتها. الإيمان بالبحث من خلال الفطرة و التعلم، ذاك النجاح المعتد بالنفس والثقة.
الإنسان الحقيقي الذي يقدم نقدا للعقل و للغة وللفجوات التي تجعل عالمه يتأخر هو ذاك الذي يشعر بالغبطة التي لا يقاسمها فيها الخلق الكثير، صارما في فكره ومواقفه، قاسيا مع أصحاب الفهم لا مع العامة، ذليل معرفة مع من فقد المعرفة لا مع الرؤساء والوزراء والأمراء، محترما لأهل الفضل من المعرفة.

لا مشكلة له مع العالم و لا مع من يفوقه شأنا اجتماعيا، إنه يقاسم الصادقين وطنيتهم دون مزايدة ويشرفه أن يكون وطنيا كجون جاك روسو، رومانسيا مع الذين فقدوا في الواقع ملجئهم حتى يحيا معهم ما يحيون، لا يسخر من الشاعر الحالم الذي تأثر برائعة شلنج، ولا من المؤمن الذي يحرس إيمانه من الضياع في زمن ضاعت فيه القيم الأخلاقية واحتّلت مكانها المنفعة، يحترم من تشرف بالانتماء إلى رجل كمالك بن نبي؛ لا يتعجل الحكم على أصحاب الرؤى الميتافيزيقية يسمع الجميع ويشارك الجميع الاختلاف مثل محمد أركون ولو تعرض للهجر و النفي، يسعى إلى خطابات كثيرة متعددة يلقي فيها الحب ويكظم فيها غيظه، محاولا أن يقبر فيها حقده وكره. ليس سهلا أن يحارب الكآبة فيما يكتبه ويفكر فيه، فيما يتفلسف فيه. إنه ذاك الجمع الجميع من التناقضات، وفي الوقت ذاته ذهب خالص.

1ــ 2 المعرفة جبل شاهق، حجارة بنتوءات مسننة كالحراب.
إن الطريق إلى المعرفة و الفلسفة يحتّم على المفكر التخلص من المشاكل العاطفية والنفسية، حتى و إن وُجدت فلتكن الشجاعة متاحة له فلا يخفيها مع الذين يتفاعلون معه والمؤمنين بنفس القضايا الفكرية ومبادئ الشرف للمعرفة. لا يصادق الناس لأجل حاجة له عندهم ويفارقهم كما يفارق نازع الثمرة الشجرة، ويرى فيهم مآرب بعيدة التحقيق، بل يصادقهم كما يصادق أرواح الكتاب و المؤلفين داخل شخصياتهم ورؤاهم وأفكارهم.

إن مبادئ المعرفة تدفعك أن تمنع الناس من أن يتملقوك و تكره التملق للناس، وأن تحب من يعارضك لأن ذلك شك في أساس المعرفة وهو الطريق الوحيد لليقين ومن ثمة الطريق الجديد للشك المتجدد في المعرفة المحصّل عليها، المعارضة الباب المفتوح لمراجعة ما حصلنا عليه من خلال الشك ذاته.

1 1 إن البحث و الحزم في الدراسة و النقد يتيح للباحث نقد المذاهب، الشك في سيرة حياة أصحابها و ذلك يتطلب كثير من الجهد و التعمق و الصبر والدقة والموضوعية، وتحري الصدق و الأصالة في غير إبهام و لا غموض. لقد أفسح الكوجيتو لديكارت جسرا لانتقال الفكر إلى الواقع، قيام العقل و المادة، رابطة العلة و المعلول.

الفكر يرسل إلى القارئ ما يثيره ليحميه، يجذبه نحوه و يستلهمه بقدر ما يتيح له الانفتاح على العقل؛ إن التفكير الحقيقي شاق و متعب ومؤلم لكل باحث شاك.
1ـ 2 إن الانتباه للأشياء الشاذة الغير عادية يجعلنا نرى التناقض الصارخ متمثلا أمامنا، يحفّزنا على البحث عن المعنى العميق لكل التناقضات التي نصادفها في حياتنا والتي تستعص على فهم كثيرين، إنها الفلسفة التي تصبح قائمة على من أنا ومن أكون وما هي ذاتي العميقة كما ذهب إلى ذلك كانط.

إن معرفتنا لأحداث الزمن تبدو مستحيلة فكلما عرفنا حدثا إلا وتجدد حادث أكثر منه شدة، يفوقه قيمة، عنفا وقوة في التأثير، وحتى الأشياء البعيدة التي نعتبرها من المجهول في المستقبل نجهل معرفتها لأنها تبدو كما المعجزة أو تفوق فهمنا إنه الخوف المنفلت من أعماقنا إلى أعماقنا، ذاك المجهول قد نجهل معرفته حتى و لو كان تاريخا قديما ؛ الاستحالة في معرفة الناس و طبائعهم و سلوكهم و ميولاتهم بنفس الشدة و بنفس المقياس، إننا نضعف كلما عرفنا أحداث الزمن لأن الأحداث تتجاوزنا في الوقت الذي نبحث فيه عن تفسير لوقائعها، و الأشياء تخيفنا لأننا نتجاوز حياة الحاضر الذي يعيقنا على التفكير و الارتقاء تجاوزا فعليا لأن العادي يجعل الأشياء تسير في توافق معه، الأشياء التي تبث الخوف في نفوسنا ذاتها التي تحمل الخوف، هذا الخوف ليس نابعا من أنفسنا لأنه ليس صنيعنا بل هو مخلوق مع هذه الأشياء التي تفزعنا و تنطبع بصفة ما فينا؛ لذلك لا يمكننا أن نعرفها معرفة حقيقية خوفا من التنازل عن حياتنا الشخصية أو الوقوع خارج سلطة الزمن الحاضر، لا نعرف الناس معرفة حقيقية بنفس المقياس لأن الناس ليسوا الآن كما غدا أو بعد غد، إننا نعرفهم من خلال ما يقدموه من الطبائع التي تبقى ذكرياتها في ذاكرتنا.

استحالة المعرفة و الفكر دون معرفة حقيقة أنفسنا و ما تريد أن تصنعه، إن روح الفلسفة في معرفة الذات معرفة حقيقية، معرفة الذات الحاضر الذي يمثلنا، من أكون وماذا صنعت و ما أريد أن أصنعه لأكون كما أريد أن أكون بصناعتي لنفسي المصنوعة المعلومة في قدر الله. معرفة الذات الحاضر الذي هو أنا وهذا الذي يتفاعل معي في تفكيري الآن و في الذي ينسيني بما يحفني، الذات الحاضر الذي يقطع زمن الماضي و المستقبل ليكون الماضي حاضرا مع المستقبل في زمن واحد. استحالة المعرفة إلا بالشك في الآخر اعترافا بوجوده و قبوله ورفضه و قبوله ورفضه في الوقت ذاته بحسب الذي يغيره. معرفة الذات التي تتفاعل معي وتتفاعل بي و تؤثر فيّ أو تتأثر بي، ذات اللحظة المعروفة لذات اللحظة التالية اللاحقة كما ذهب إلى ذلك هيجل.

2 المعرفة الذات و الشك من أنا لأكون الأنا الآخر؟
هل أنا أكثر من وجود؟ بالطبع إن كانت نفسي كبيرة شعرت بذلك الدافع الذي يجعلها تنعزل و تتخلى عن عزلتها في الوقت ذاته دخولها المجتمع مشاركة له ومغيرة. أما إن كانت ناقصة أصابها التعداد بالذات الذي هو استسلام لعلاقاتي مع الآخرين لأني أنهي كثيرا من الشك داخل الذات بيقين فيما عند الآخرين.

إن إدراك الأنا اكتشاف أكثر من ذاتي، ذاتي التي أعرفها وأعيد معرفتها وأوسع لها في إدراكها لعلاقاتها الخارجية ذهاب إلى الحياة الخاصة و افتراض وجود الحياة الاجتماعية بصورة مسبقة، احتمال دخول الصراع، التفاؤل في تحقيق الانتصار، الاقتراب إلى تحديد الآتي مع الذات العميقة. إن توسيع الذات على الآخرين يحقق الفهم، يكرر الفكر في كل حضارة إنسانية.

إن ذاتي لن تحصل على الحرية لأن الحرية لا توجد في الحقيقة، مادامت الحياة رغدة هنيئة، فهي توجد خارج الكائن المترفع، خارج الكائن المتيقن، خارج المجال المنغلق بالرضا. إنها تنكشف في جبين المحارب الممتلئ بأثر طعن نميمة وضربة إقصاء وسخرية و جلد أكاذيب؛ مخضب هو الحر بحبر المعرفة تفوح منه رائحة الشك، معذب قلق مجروح منتصر على ألمه في الوقت نفسه.

إنني احتاج إلى الشك في هذه الذات الحاضرة التي قد تعطل معرفتي لذاتي، التي تقيدني أو تجعلني أنعزل عن العالم لقدرتها على البطش و القوة و الجبروت والفساد، إنني بحاجة إلى الذات التي تشك في ذات اللحظة الحاضرة التي تعيّرني مثل التبر في النار لأتعرف معنى وجودي و قيمتي المعرفية، الذات الحاضرة التي تبحث عن المعرفة لأحداث التاريخ أو لزمن مستقبلي. الشك في الذات التي تفقد لحظتها و تمنحه للفراغ، الفراغ هو التنازل عن اللحظة اللاحقة أو التفكير فيما تكون عليه لحظاتنا القادمة التي ستصير ماضيا متلاحقا.
حاجتي إلى الذات الشاكة اللحظية تحفيز على معرفة وجودي بالقدر الذي أشك في تلاشيه. أحتاج إلى التفكير فيما بعد اللحظة، التفكير فيما أفعله أو أنجزه أو أغيّره فيما بعد اللحظة، ماذا بعد؟ السؤال الذي يعرفه الجميع و يجهل ما ورائه خلق كثير.

ماذا بعد التفكير في المعرفة، ماذا سيكون عليه العالم و محيطه و أعماله وانجازاته؟ ماذا بعد الذي بين يديك و الذي لك وقد يكون لغيرك فيما بعد وبعد تضييعه؟ لا أستطيع التفكير في معرفة ما هو الآن لأنني لست أنا الآن؟ أنا ذاك الذي كان صنيع الأسرة و المدرسة و المسجد والكنيسة والمجتمع والواقع والحضارة إما ذات القرون التي خلت أو الراهنة. أعرف أنا ماذا كنت، نطفة من مني يمنى جسد فيه عقل وروح، ولا أعرف من أنا الآن لأني قد أعجز عن مواكبة الأحداث التي تعيقني وتجعلني منعزلا عن هذا الواقع، إما مرضا أو طلبا للوحدة لأجل هذه المعرفة لأجل هذه الفلسفة و هذا العلم؟ هل يمنحني ذلك الراحة و القدرة على التجاوز سيظل الشك رفيقي يلـّقم وعيي بالأسئلة و يحفزّ باطني ذاك الشغف إلى تحدي للآخر.

2 2 الطرق التي تلتقي في المفترق:
إن الهروب لا يمنحنا إلا الثواني الأخيرة من حياة الفكر فينا، وحده الشك من يبعث هذا التناقض في حياتنا، التناقض في حياتنا المتصارعة مع ذاتها و مع غيرها لأجل البحث و المعرفة و التحصيل العلمي و الفلسفي. إنني أكتشف ذاتي الباطنية في شكي فيما بعد هذا الذي حدث ويحدث لي الآن من معرفة بذاتي الماضية وامتحاني لذاتي الحاضرة.

أنظر للأشياء في أعماقي بمنطق دقيق لكل حياة تدفعني إلى معرفة التناقض الكامن في وجودي و وجود غيري، إنني أكتشف التناقض في وصولي إلى الذات الأخرى التي لا تفهمني أو قد تفهمني فيما بعد؛ فيما بعد الذي يغير نظرتي إلى الآخر الذي منحني الشك في كل إمكانيات المقياس لأعرف مطلقا إن كنت موجودا حقا ومعترف بوجودي من الماضي من ذوات أخرى، غير هذه الذات التي تنظر إلى وتراني وتسمع مني و تحدثني، إن كنت كذلك فأنا حلقة من دخان، لأن لحظاتي الفائتة وحدها من تحقق وعيي الغير قابل للمعرفة المتحول إلى زيف.

إنني أحيا في نفسي قبل أن أحيا في نفوس الآخرين، أحيا في نفسي التي أحيت الآخرين فيها، أسمعني أكلمهم داخلهم و أحدد لهم بعض المعالم ظنا مني أنهم النصف الآخر الذي يكمل صورة وجودي. إنني حر لأنني لست مقيدا في وجود الآخرين و لست سجينا و لا أفنى لأن حريتي من الآخرين تعني ذلك.

أشعر بالشك في كل حياتي التي يتخللها الوعي، هذا الوعي الذي يحرّضني على معرفة ما يختفي في ظلام الغيب المستقبلي، إنني جزء من ذاك الزمن ما كنت متأملا باحثا عن فكرة ما تختفي في ذاك الزمن، إنني في حاجة إلى الآخر الذي يمنحني و عيه و بحثه ومعرفته و أمنحه وعي ومعرفتي و بحثي بكثير من الشك، نحتاج نحن الاثنان إلى وعي سابق قام عليه وعينا. لأن كل وعي قائم يقوم على وعي آخر قائم كما أكد هيجل ذلك.

طريق اليقين إلى الشك عصر النهضة أنموذجا:

أكد quot; كوهن quot; في مؤلفه عن quot; عن تركيب الثورات العلميةquot; أن ( العلماء خلال الثورات العلمية يشاهدون أشياء جديدة ومختلفة حين ينظرون بالآلات المألوفة من نفس الأماكن التي نظروا منها من قبل، والسبب في ذلك أن تغيرات النموذج تجعل العلماء فعلا يشاهدون عالم أبحاثهم الخاصة بطريقة مختلفة تماما عن ذلك العالم الذي كانوا ينتمون إليه فيما قبل.) 3
كما كتب تولمن في مؤلفه quot; البصيرة و الفهم quot; ( إن العلماء الذين يقبلون أفكارا ونماذج معينة سوف يشاهدون ظواهر مختلفة لأن هذه الافكار وتلك النماذج لا تضفي على الوقائع التي يشاهدها العلماء معناها فحسب، وإنما تحدد لهم أيضا الوقائع التي يجب اختيارها quot; 4.

من يريد الوصول إلى الواحة الخضراء يجب عليه قطع الصحراء و اختبار الحقيقة و السراب وتمييز الأصيل من الدخيل الحقيقي من المزيّف ومن خلال الشقاء والبحث و التعب في كل هذه الرمال و الغبار والحرارة المرتفعة لن يقول المسافر عابر هذه القفار أحتاج إلى نبي كموسى عليه السلام يوصلني لأرض العماليق ليقاتل هو وربه، إن في الضفة الأخرى قوم عقلانيون جبارون بتقنية تكاد تكتشف السر الأول للانفجار الأعظم و تقوم الساعة بعدها، هذه الحضارة التي بنيت على عصر اسمه عصر النهضة، عصر الأنوار.

1ـ1 تميزت حركة النهضة بالهجوم القوي على الدين المسيحي و الأخلاق وأعطت للفكر حريته ليمارس تجديد الإبداع في مختلف الميادين، لقد تغيرت المفاهيم وتجددت ووفدت مناهج البحث الرياضي التجريبي و التفسير الحتمي للواقع من مارتن لوثر إلى ماكيافلي وجون بوذان، كلهم زرعوا الشك في حقيقة الدين المسيحي و فصلوه عن السياسة. إن ماكيافلي شكك حتى في خيرية النفس البشرية و أعتبر المواطن شره نفعي، يكثر التظاهر بالتدين و التسامح و التقوى؛ شكك في نوايا البشر أولئك الحاسدون الغيورون المنافقون الساخطون الطامعون فيما عند غيرهم. شكك في حياة التكتم و الكذب و الخداع، في شجاعة الإنسان متهمه بالجبن.

لقد درس مارتن لوثر اللاهوت لأجل التشكيك في الكاثوليكية و على شكه أقام مذهبه البروتستانتي؛ وما تعليقه المنشور على باب الكنيسة متضمنا 95 أطروحة تتحدى صكوك الغفران البابوية إلا تحدي اتخذه ضد راهن متعفن مسدود. لقد أشعل نار التغيير وفتح الباب على نفسه فأتهم بالزندقة و الكفر و الضلال...

نفسه المذهب البروتستانتي يضطهد الفيلسوف سبينوزا ويمنحه المنفى و الخوف والتضييق و الاغتراب، هو المطرود من جاليته اليهودية. لقد شكك لوثر في القوة الظالمة أنها تحمي الشر و أعطى بالمقابل اليقين الآخر المناقض بأن الشعب يحكم بالقوة لأن الله منح الحاكم السيف ليفصل به بين عباده و لمعاقبة الأشرار وحماية الأخيار المستضعفين و الحفاظ على السلام المنشود.

إن سبينوزا شكك في الأنبياء لأنهم لا يختلفون عن الناس العاديين و أنهم لا يملكون عقلا كاملا، فهم من عامة العقول إنما أعطوا وحيا من السماء؛ إن كان سبينوزا قال بهذا و هو محق فيما ذهب إليه فإن العامة في البلاد الإسلامية ترفض أن ينتقد شيخ من شيوخها و تعتبره مقدسا وحكمه لا يناقش، إنه الحجر على الرأي و العقل.

قد يقابلك الناس بالتعنيف و النظرات الحاقدة المهددة وينعتونك بالأصبع وتسد الآذان بصمامات حتى لا تسمع آرائك، لقد رفضوا أن يكون لك عقل بدعوى لست عالما متبحرا في الكتب السماوية ولا يحق لك انتقاد من هو أكثر منك علما، إنهم يطيحون بالعقل و يتنازلون عنه في وجه النقل الذي ما فهموه و لا تعمقوا في معناه وتأويله، إن البشر في البلاد الإسلامية مستعدون لتوليتك العداء تعصبا لبشر يأكل مثلهم و له عقل مثلهم ويشارك بفتاوى في تأمين ركائز نظام أو ملك أو إمارة في بلد ربما يأكل حقوقهم و يصعد على أكتافهم ويكفر بدينهم ويجعله كسبا للمال و السلطة و الملك معا.

سبينوزا الذي تمنى أن يصلح مجتمعه كما يصلح ساعاتهم ويجعل لهم مواقيت مع العقل كما لساعاتهم لقد قال : quot; نحن لا نثبت شيئا أبدا غير ما يقدمه لنا العقل، ونحن لا نشك أبدا إلا حينما نجد أسبابا تدعو إلى الشك و ثنائية ديكارت أي المادة والفكر تبدو لنا غير صحيحة حيث نجد العقل في جانب و الإرادة المطلقة في جانب آخر.quot;5
لقد وجه لوك انتقاداته الشديدة اللهجة لكل ما هو متوارث و غير معتمد على العقل فكانت فلسفته دعوة لاحترام حرية العقل، وضع أسس الديمقراطية و الحرية؛ وشكك في السلطة المطلقة التي دعا إليها هوبز.

أما ديكارت فأعتمد في فلسفته على المنهج و الشك و إثبات وجود الله وحقيقة العالم، هذه الأسس جعلت العقل يكون المقياس الوحيد للحقيقة وأخطائنا ليست من جوهر العقل و إنما من المنهج الذي نسلك فيه و الذي يوقعنا في الزلات.

إن الكوجيتوquot; أنا أفكر أنا موجودquot; حفّز العقل على إثبات وجود الله ثم العالم ودرب العقل على التفكير. quot; الانبياء قد تنبؤا و لكن أحدا لم يتنبأ بهم، بينما القديسون قد تنبأ الناس بهم و لكنهم أنفسهم لم يتنبؤا، أما المسيح عليه السلام فقد تم التنبؤ به و هو نفسه متنبئquot; 6

روسو نفسه شكك في الجهد العقلي للمسائل القابلة للحل الاحتمالي وقال بحدود المعرفة وعدم فهم كل شيء وتفسير الأشياء، لقد شكك في جدوى الجمعيات السياسية و النقابات العمالية، وكانت آرائه سلما للعقل الذي أسس قوانين الدولة والمواطنة.

فلاسفة عصر النهضة كانت فلسفاتهم و مناهجهم متناقضة لتلتقي، أسست للعقل واختلفت بالعقل وتلاقت عند العقل وشككت كثيرا فيما أنتجه العقل ولم تشكك يوما في العقل.
إن فيلسوفا كأوجست كونت ينبه إلى التطور الباهر الذي سيحدث في مجال العلم حين ينقل التفكير من اللاهوتية الى المرحلة الميتافزيقية ثم إلى المرحلة الوضعية. شك اوجست كونت في اللاهوتية و الميتافزيقية على أنهما لا تخلقان عالم متطور، هذا الشك مكنه في الوقت ذاته أن ينتهج لنفسه نهجا فلسفيا ؛ لقد اراد لفلسفته الوضعية: quot; تحقيق غرضين: الأول فلسفي وهو تقييم تصوراتنا العلمية، والآخر سياسي وهو تقنين فن الحياة الاجتماعيةquot; 7


2 3 الاتصال و الانفصال أو حين يفرغ الكأس ليملأ:
موصول يحدث فيه الانفصال، التناقض يجمع المتناقض في الأرواح و العقول والطبائع، التناقض الذي يمنح الأعذار و البراهين و الحجج للفكر للاختلاف في المناهج و المدارس، التناقض معطاء بوصفه المرايا التي تنعت لنا الأشياء التي خلفنا و لا نراها، هناك جوانب في المكان و الفضاء الذي يحتوينا لا نراه إلا من خلال هذه المرايا، التناقض القائم في الواقع قائم في المجرد قائم في كل مجالات الحياة، مدفون في النفوس البشرية و الحيوانية وموجود في المادة، إنه حيرة الفهم و طمأنينة الإيمان، إنه شك العلم و يقينه.
التناقض موجود بوصفه لازمة للعقل ماديا و صوريا، حسيا و غيبيا؛ لازمة لتوازنات الحياة، قوة وضعفا، للإيمان جنة و جحيما، للعقيدة توحيدا وكفرا فثوابا وحسابا عسيرا.
التناقض مشهود يحمل تناقضه في ذاته، يصير ائتلافا في حالة فقدان عناصر تميزه و اندماجه فيما يعارضه كمثل العلم الذي خرج من رحم الفلسفة ليجعل له فلسفة خاصة في إئتلاف معه؛ بعض العلوم حصلت على فلسفة لم تكن.

التناقض حين يفقد المسافة التي تبقيه في توازي مع نقيضه المتقاطع، حين يستعمل و يراد من خلاله تعدي الحدود المسموح بها أو التطرف في أقصاه، تحوّلا للمؤمن إلى كافر يدخله من باب اجتهاده و غروره. إن الفكر قد تخالطه امتيازات الجسد فيهوى في مستنقع الباطل ويتنازل عن وظيفته لصالح الجهل لمجرد حاجته الملّحة. إنه التناقض الذي يحمل بذرة فنائه في نقيض يحمله.

خذ مثالا عن المفاهيم التي تختلف كثيرا فيما بينها و قد تشتعل حربا لقرون حول موضوع مهم و حسّاس مناقشة لأفكار ما، كل هذه المفاهيم انطلقت من مقولات معتمدة على مناهج و طرق لأجل الإقناع وتحصيل شاهد لوجودها و أحقيتها في قيادة التفكير، كل هذه المفاهيم تنطوي تحت مظلة واحدة وقت سقوط مطر المسائل أو في جفاف الفكر وقت انقطاع العقل عن الاغتراف من بحر العلم، القطرة والسواقي و الأنهار إلى البحر مجمعهم، من البحر تحصل القطرة المتجددة على حياة أخرى، المفاهيم المتناقضة تحصل على تداخلها حتى و إن ظهرت في أشد تناقضاتها. كل هذه التناقضات يحدها الشك، كل هذه المقاربات يحدثها الشك أيضا، لأنه منطقة العبور التي تصك فيها جوازات المرور، تأشيرة لرحلة جديدة في مجال العلم أو الفكر قديما أو حديثا.

الانفصال و الاتصال، لا وصل إلا بفصل، خذ مثال المرأة العزبة وحيدة تحس بحاجتها لوصل، تحتاج إلى اتصال هذا الذي ينقطع ليحل مكانه اتصال آخر في بطنها، الاتصال الكلي مع مولودها الجديد؛ إنها تتمنى أن لا يطول هذا الاتصال داخلها لأنها تصبح في امتلاء مزعج لحياتين، الامتلاء متعب ومجهد وخطير؛ مثلها المولود الجديد بحاجة ماسة إلى انفصال ليحقق اتصال آخر مع العالم الجديد، يخرج من عالم قديم ضيق إلى عالم فسيح، إنه اتصال بحب الفعل إلى انفصال بقوة لأجل الاتصال الجديد.

التناقضات أيضا لها حبل سري يربطها بالتناقض الأم، من رحم التناقض الأم يخرج المتصل القريب ليطل على عالم جديد من الانفصال بحثا عن الاتصال لأجل العمل على انفصال شبيهه، أليس هذا توافق إيجابي أقره الله في الجنة بالمتناقضات الثمرة و الجسد و العقل و الإيمان، الإخبار عن الحقيقة الكاملة( اللا أكل من الشجرة) المعصية في حب الذات برغبة العصيان لحقيقة مطلقة، النزول إلى الأرض وبداية التناقضات الكبيرة و الطويلة، التناقضات الأم مصدرها الصراع، لن يسجد إبليس لآدم تلك معصيته لله، صراعه مع آدم قسم إبليس لله، ورؤيته لأبناء آدم وعد الله له.

قد يحدث التوافق السلبي حين تتفق المفاهيم في موضوع قد اختلفت عليه من قبل ويحدث هذا كثيرا في النظريات العلمية المتجددة. الحبل السري لهذه التناقضات مصدره الشك في استمرار الوجود بعد الانفصال.

الشك يفرض على التناقضات بأن تفرض نفسها بقوة و باستمرار لتعطي التفسير الأوضح الجلي، التفسير الأمثل لتبيان معرفة الشيء أو الفكرة المجردة؛ الفهم بحاجة كبيرة إلى معالم كثيرة حتى لا يتيه في طريق العقل الطويل.
quot; الفلسفة جعلت كانط يصدر حكمين متناقضين حول الزمان و المكان، وسببت موقف quot; فشته المحير من الأنا و اللا أنا، وقدمت لهيوم مشكلة الوقائع و القوانين، والخبرة و التي لا يمكنها أن تمدنا بالضرورة بينما تتظاهر الضرورة دائما بأنها تفرض نفسها على الخبرةquot; 8

يفرض النقيضان على الفيلسوف أن يشرحهما معا، الشك في تناقضهما هو وجودهما الأصلي معا، النية الحسنة تحمل معها سوء الظن لأجل أن تتصارع معه لانتصارها عليه.
الشك في الفلسفة والعلم أنتج مشكلات كثيرة حتى اليوم، وقدم لنا حلولا عدة ناجعة مع فرضيات كثيرة، متساوية في عالمين نظري و عملي، عالم النظر و الفعل.
إن نهاية التناقضات هو نهاية للعالم، انعدام الشك انعدام للحياة لأن انعدامه يعني تحقق المعرفة الكاملة المطلقة الكلية لكل الحقائق؛ الوصول إلى نحر السؤال واغتياله وسقوط الرؤية.

هل نتصور حياة الآخرة دون أن يفرض الله عز وجل التناقض في محاسبته لعباده؛ الجزاء الأبدي لا مجال فيه للتصور و الفعل بعدها، مجاله الحس في المتناقضات دون متناقضات.

3 ملح الطعام شك المعرفة
للشك حضوره الدائم متى غاب تهدمت المرجعيات المعرفية ووضعت الحدود للعلم ونظرياته و الفلسفة و مذاهبها. أليست المقولات تاريخ طويل وكامل من واقع الذات، فالمقولات لا تفهم إلا من خلال تعريفاتها فقط، التعريف يفقد رونقه ولا يحدث فهمه إلا بعلاقته برؤيته لنقيضه الصحيح، تصورا معاكسا بوصفه نتاجا للوعي الذاتي المناقض. الشك لا يمكنه إلا أن يكون دليلا ينساق الفكر ورائه متغيرا ومغيرا في صراع طويل ومرير ومتعب فيه كثير من الجراحات و الخيبات والعِداء. أكثر الصراعات دموية الصراع مع الذات و الوعي الخاص بالذات نفسها، إنه يحتم على الوعي الخاص من إعطاء تعريفا بصورة كاملة مطلقة دون الحرص على الانفلاتات التي يسهو العقل في تداركها، الشك في خيبة النفس النسبية التي تحتاج إلى كثير من الكمال النسبي، لهذا الصراع قانونه أيضا لأنه يمنحنا الفرصة في التدقيق من جديد مرات ومرات لمناقشة كل تعريف نصل إليه أو نريد تغييره أو الزيادة فيه.

الكثير من المقولات متوفرة ومتاحة والكثير من الشك يجب أن يتوفر ويتاح لتصير المقولات متصارعة لا لتبقى مجرد مقولات ميتة و جافة. كثير من التصارع في ذاتها يحقق كمال بعضها البعض، من خلال ذلك النظر في مجموعها تتشكل المقولة الواحدة العليا؛ مجموع الشكوك أيضا يمنحنا فكرة الشك الواحدة؛ إنه منطق محاولة البحث لتوضيح المعرفة الإنسانية المشكلة للنسق العضوي...

المراجع:
1 ( الفلسفة الحديثة جوزيا رويس ص.288)
2 ( الفلسفة الحديثة جوزيا رويس ص. 289)
3 Kuhn.t.s. the structure of scientific revolutions، university of chicago،1962 ;p.110
4 Toulmin،s ;foressight and understanding ;harder and row،new york ;1961 ;p57 ;p.95
5 ( محاضرات في تاريخ الفكر الفلسفي و السياسي أ.د.عبد المجيد عمراني ص.96
6ــ ( جان فال، الفلسفة الفرنسية من ديكارت إلى سارتر ترجمة فؤاد كامل القاهرة دار الكتاب العربي 1968/ ص 31)
7ــ.محمد علي محمد، علم الاجتماع والمنهج العلمي، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية،1980.ص.103
8ــ ( جوزيا رويس ص275)