لقد كتب المعارض السياسي للنظام العراقي السابق السيد كنعان مكية كتاب بعنوان جمهورية الخوف، حيث يصف فيه المناخ السياسي والاجتماعي الذي ساد العراق في حقبة سيطرة حزب البعث على جميع مفاصل الدولة ومؤسساتها وبالخصوص حقبة الرئيس العراقي السابق صدام حسين. ربما لم يخطر ببال السيد مكية بأن العراق سوف يتحول من جمهورية للخوف إلى جمهورية للكذب...نعم...جمهورية للكذب...فالكل في العراق يكذب الآن من أعلى رجل في السلطة إلى أدناها، الإعلام يكذب، أكثر الضيوف في البرامج التلفزيونية يكذبون، التجار يكذبون ورجال الأعمال والمقاولون، الأحزاب السياسية تكذب، المسؤولون والسياسيون يكذبون، أكثر المثقفين يكذبون على القراء وعلى بعضهم البعض، الكثير من رجال الدين يكذبون على الله وعلى الناس وعلى أنفسهم، حتى حراس الدوائر الحكومية يكذبون عندما يعطون مواعيد كاذبة للمراجعين. الضحية الوحيدة لكل هذا الكم الهائل من الكذب هو المواطن العراقي.

أعلم بأن الكثير سيغضب مني، ولكن هذه هي الحقيقة مع الأسف، على الأقل بالنسبة لي. وأعرف أيضا ً بأن هناك من يتشمت بالنظام السياسي الحالي في العراق وذلك بمقارنته بالنظام السابق، لكني أقول لهم حتى في عهد النظام السابق كان العراق جمهورية للكذب، لكن صفة الخوف هي التي كانت سائدة فسمي العراق بجمهورية الخوف. أن النظام السياسي الحالي هو إمتداد طبيعي للنظام السياسي السابق، كإمتداد شعيط لمعيط في المثل العراقي بالكذب والسرقة والفساد، وإن تغير وجه النظام من دكتاتوري إلى ديمقراطي.

سأروي لكم بعض نماذج الكذب في العراق وعلى جميع المستويات. لقد وعدت الحكومة العراقية العراقيين بالكهرباء قبل سنتين بأن مشكلة الكهراء ستنتهي، ولكن مع الأسف لم تفي بوعدها، بل طالت المدة لأمد غير معلوم بعد الكشف عن عقود الكهرباء الوهمية. لقد وعدت الحكومة المواطنين بمشاريع كثيرة ولكن أي منها لم يتحقق على أرض الواقع، فأين مشروع مترو بغداد لحل أزمة النقل وأين مشروع عشرة في عشرة لحل أزمة السكن وأين آلآف الوضائف لحل مشكلة البطالة، والكثير الكثير من المشاريع التي نسمع بها فقط ولانراها. ليست الحكومة فقط من تكذب بل كل الأحزاب السياسية، فكل الأحزاب لها برامج وطنية ولكن في الواقع تعمل لنفسها فقط، تدعي خدمة المواطن وما أن تصل إلى السلطة حتى ترى أتباعها ومؤيديها في المقدمة. المسؤولون والسياسيون يكذبون أيضا ً. فكم من وعود لمسؤولين ولا وفاءrsquo; خذ مثلا ً الحصة التموينية التي تأتي متأخرة وناقصة رغم الوعود والعهود. أما السياسيين فزادهم أصبح الكذب وذلك عندما يستنكرون رواتبهم العالية وتحت قبة البرلمان يرفضون تخفيضها، فأي كذب ونفاق هذا. الأعلام العراقي له حصة من الكذب عندما يهول الواقع أو يغض الطرف عنه لمصالح سياسية مكشوفة. أما أذا كان الموضوع المطروح في الإعلام اجتماعيا ً فكل الضيوف يكذبون وينفخون بمجتمعنا وكأنه منزل من السماء. فلا فقر ولاجوع ولابغاء ولاجريمة، إنها بنظرهم حوادث فردية لاترقى إلى كونها ظاهرة. لابل يصورون المجتمع العراقي والإنسان العراقي على إنهما الأحسن في المنطقة والعالم أيضا ً وكأننا بشر من نوع خاص.

لقد طغى موضوع الكذب ليصل للتاجر الذي يغش ويكذب، بل للمثقف الذي يعيش في برجه العاجي بعيدا ً عن هموم الإنسان البسيط لينتج ثقافة لايقرءها إلا هو ومن على شاكلته ويتغاضى عن المجتمع العراقي والثقافة العراقية اللتان تعيشان في مستقع من الأزمات وأولها الأزمة الأخلاقية، لايلتفت هذا المثقف إلى أن الثقافة العراقية بحاجة لمشروع ينهض بها من جديد. أما الأكثر كذبا ً فهم رجال الدين الذين يكذبون على الله عندما يتحدثون بإسمه ويكذبون على الناس ليخففوا من غضبهم ونقدهم للواقع، ويكذبون على أنفسهم لترتاح ضمائرهم. بعد كل هذا الكذب، أليس من حقي بأن أدعي بأن العراق جمهورية للكذب في هذه اللحظة على الأقل.

يقال أن حبل الكذب قصير، أو يمكن لك أن تكذب لوقت قصير ولكن لاتستطيع الكذب طول العمر. الشعب العراقي مل من هذا الكذب المكشوف، وبالتأكيد سيعاقب الكاذبين ولو بعد حين. ولكن، يمكن للقوانين وبالخصوص الرادعة منها أن تضع حدا ً للكثير من هذا الكذب، على أمل أن تفعل تلك القوانين وتصبح في حيز التنفيذ. وهناك الكثير من الأجهزة الرقابية والإعلام ومنظمات المجتمع المدني التي يمكن أن تكون رادعا ً وكاشفا ً بل معاقبا ً في بعض الأحيان على كثير من الكذب الذي يدعي به السياسي والمسؤول. وأخيرا ً وليس آخرا ً، يبقى دور المثقف هو المهم في رفع مستوى الوعي لدى الإنسان العادي وذلك ليكشف الكثير من الزيف والكذب لدى السياسي والمسؤول بل حتى يستطيع كشف الدجل لدى رجال الدين. ولكن، على المثقف أن ينزل لمستوى هموم الإنسان العادي بعيدا ً عن برجه العاجي الذي يجلس عليه.


[email protected]