إن بقاء العلاقة بين العراقيين والأكراد مختلة، غير متوازنة، وبهذا الشكل المريع، يعني إبقاء العراق في حالة شد وتوتر وانحدار في مختلف مناحي حياته، بينما تأخذ الحياة في كردستان منحى آخر!

والعراقيون إذا كانوا قد صبروا طويلاً على هكذا علاقة شاذة، فمن الواضح أنهم لم يعودا قادرين على الاستمرار بها أكثر من ذلك!

الظروف الصعبة التي يعيشونها اليوم، لا تغري قادة الأكراد للرأفة بهم، بل لمواصلة الضغوط عليهم لانتزاع المزيد من تنازلاتهم!

وقادة الأكراد رغم كل خلافاتهم الخاصة والعميقة بينهم، يتوحدون في الإصرار على إرجاع الصراع مع العراقيين إلي المرحلة القومية وبأوار أشد، بينما يجري الحديث في المحافل الإعلامية عن المرحلة الديمقراطية والبناء الاتحادي المشترك!

لكن القادة السياسيين في بغداد منهمكون في الضغط على بعضهم، من يستطيع أن يضعف الآخر وينتزع منه التنازلات من اجل السلطة والثروة، وقد بلغ الضعف والتهالك لديهم حداً، أنهم هجروا بغداد وجعلوا أربيل عاصمة العراق، ومركز قراراته، يتراكضون نحوها بما يشبه سباقات المعوقين! ونظرة سريعة واحدة إلى اللوحة السياسية في بغداد تصيب المواطن العراقي بالإحباط تماماً!

فقادة الأحزاب الطائفية الشيعية يتحالفون مع قادة الأكراد، من أجل أن يضمنوا حكمهم
وسلطتهم، ويدحروا قادة الأحزاب الطائفية السنية والعلمانيين واللبراليين وغيرهم، دون إدراك أن الطرف الآخر يخوض صراعاً قومياً مصيرياً معهم، لكنهم من اجل السلطة والشبق الطائفي مستعدون للتفريط بمصالح العراق كله، وهم الآن ماضون في طريقهم تحت المظلات الإيرانية والأمريكية وبتناغم مثير، دون أن يدركوا ماذا يراد بهم، ولهم!

وقادة الأحزاب الطائفية السنية ما تزال مشاريعهم السياسة غامضة ومرتبكة وغير قادرة على أن تعي الأسس الصحيحة التي يجب أن تقوم عليها العلاقة مع الأكراد، وهي مترددة بين الحلول العسكرية الدموية التعيسة التي كانت تعتمدها الحكومات في العهود السابقة، إلى الحل الذي يطرحه الإسلاميون الأكراد من أنهم جزء من الشعب العراقي لكونهم جميعا مسلمين! ما يجعلهم عاجزين عن طرح حل واقعي إنساني حضاري لهذه القضية الخطيرة جداً.

وقادة العراقية ما تزال القضية الكردية بأسسها الجوهرية غائبة عن أذهانهم، وما يشغلهم مع قادة الأكراد هي مسألة السلطة، التي أفلتت من أيديهم، بمساهمة من قادة الأكراد في تحالفهم مع قادة الأحزاب الطائفية الشيعية! ومع ذلك لا يزالون يتحدثون عما يسمونها بمبادرة البرزاني، ويحاولون اعتصار الليمونة، مع أنها عصرت مرات عديدة، وحلت في جوف من شرب الكأس حتى الثمالة!

وكان متوقعاً من العراقية تقديمها لمشروع يستند على رؤية واضحة جذرية وجريئة لهذه القضية يضمن مصالح الشعبين الكردي والعراقي بصورة عادلة وصحيحة، نظراً لوجود كوادر علمية ومثقفة كثيرة في صفوفها، لكنها لا تزال تتناولها من جوانبها الجزئية والسطحية!

ومهما تحدثنا عن ضرورة الدراسة المعمقة، والبحث عن حلول وآفاق لهذه القضية،فإنها قد لا تخرج في نتائجها عما يمكن الإشارة إليه في ثلاثة احتمالات:
الأول: هو أن يعمل قادة الأكراد على التحول من النزعة القومية إلى النزعة الوطنية، ومن نظام الإقطاعيات والمليشيات وأمراء الحرب،والعلاقة المزدوجة مع العراق، إلى الولاء لعراق اتحادي بكيانات دستورية، ويحكمه دستور جديد حضاري وإنساني غير هذا الدستور المتخلف البالي، يحتفظ فيه الكردي والعربي والتركماني والآشوري والإيزيدي بشخصيته القومية ولغته وتقاليده وطقوسه وقيمه، يبنى الجميع فيه اقتصاداً متطوراً يمنح الفرص المتكافئة لكل أبنائه في العيش الرغيد،وتتاح فيها كل فرص الانتعاش والتألق والتفاعل القائمة على الحريات الأساسية وحقوق الإنسان والحب والاحترام بين الجميع كما هو الحال في الكثير من بلدان العالم التي تضم عشرات بل مئات القوميات والأديان! أو ان يعجز القادة القوميون المتعصبون عن هذا التحول وهذا متوقع، فتنهض طبقات فتية وجديدة من الشعب الكردي ترى مصلحتها في ذلك، ولقد ظهرت فعلاً في كردستان ما سميت بجماعة التغيير، طرحت اعتراضاتها على نهج القيادات الكردية الحالية ومنطلقات جديدة بعض الشيء، لكنها فيما يتعلق بمصير الشعب الكردي ظلت تبتعد به كثيراً عن أن يكون مصيراً واحداً مع العراقيين بحجة (أن مزاج الأكراد قد تشكل هكذا) لكل هذه الاعتبارات يبدو هذا الاحتمال حلماً بعيد المنال!

الثاني: هو أن يمنح الأكراد حقهم في تقرير المصير والانفصال عن العراق ليكونوا دولتهم المستقلة وفق القوانين والأعراف الدولية والإنسانية التي تؤكد حق الأمم في تقرير مصيرها، وتحدد أرضهم بمراجعات لجان مختصة تستند إلى الوثائق التاريخية والجغرافية، لا على المطامح والشهوات الكردية، ولا على نزعات العداء، وضيق الأفق القومي العربي أو التركماني!

وينبغي على العراقيين احترام قرار الأكراد هذا ومساعدتهم بكل الطرق الممكنة لتحقيقه،وجعله فراقاً ودياً لا تراق به قطرة دم، وهذا الحل لا يروق للمتعصبين الأكراد،فهو سيحرمهم من الكسب والتسلط على الأكراد بالضرب على وتر التناقض القومي،وانتفائه سيتيح لقوى التغيير والديمقراطية والتقدمية في كردستان أن تنموا وتعمل على بناء كردستان حرة وحضارية ووطنية ترتبط بجيرانها بعلاقات ودية تقوم على التعاون والعيش السلمي المشترك!

وفي هذا الحل خلاص للأكراد والعرب والتركمان والجميع من مشكلات ومصائب جمة، فكفى ان يحمل العراقيون هذا الود الإجباري المفتعل للأكراد، وكفى الأكراد حمل هذه الكراهية الإجبارية للعراقيين!

وإذا ما تصدت تركيا أو إيران لهذا المشروع، فهذه قضية الأكراد، فهو خيارهم ومطلبهم التاريخي!

الثالث: بقاء الحال على ما هو عليه، وهذا يعني السير في طريق الكراهية الخفية والمعلنة، وبقاء القضية الكردية معلقة دون حل، فيقضم قادة الأحزاب الكردية مزيداً من أرض العراق وثرواته، ريثما يجدون هم الوقت المناسب لركل العراق، والقفز من سفينته التي ساهموا في غرقها.


على قادة العراق اليوم من مختلف الاتجاهات والكتل والطوائف والأيدلوجيات، أن يتجاوزا مصالحهم الطائفية والحزبية في هذه القضية بالذات وينظروا لمصلحة العراق وشعبه، و يقفوا أمامها وقفة ضمير وعقل وشجاعة،ويضعوا لها حلاً جذرياً ونهائياً بأسرع وقت ممكن.
ويكفوا عن تناولها من تفاصيلها المستهلكة المستنزفة( المادة،140 وما يسمى بالمناطق المتنازع عليها، والعلم الوطني المكروه في المناطق الكردية، فيهان عندها كل يوم! ) ويمسكوا بها من أساسها الصلب والحقيقي. لا من جوانبها الفرعية، أو تلك التي يشغل بها النواب الأكراد البرلمان والحكومة بين حين وآخر!

وحيث إن (العراقية) تتحدث عن مجلس السياسات الاستراتيجية فيجب أن لا يبقى هذا المجلس حلماً رومانسياً يسمع الناس جعجعته ولا يرون طحنه! وعليها أن تبادر لتكون باكورة أعماله: إنضاج المشروع الذي يضمن استقلال الأكراد في دولتهم،وخلاص العراق من هذه القضية التي استنزفته دماً وثرواتٍ قرابة القرن! على العراقية أن تعتبر هذا المشروع الاستراتيجي نقطة التقاء مع دولة القانون لا نقطة افتراق، ومناسبة للتقارب بينهما وتوحيد جهودهما لإنضاجه وطرحه في قرار تاريخي على القادة الأكراد والبرلمان لمناقشته وإقراره!

إن الاعتراف بحق تقرير المصير للأكراد من الجانب العربي والقوميات الأخرى ومساعدتهم في إقامة دولتهم الوطنية المستقلة قد يكون الصفحة البيضاء لإرساء علاقة الثقة والتعاون الحقيقيين بين شعوب المنطقة كلها! بدون ذلك ستبقى هذه القضية غدة سرطانية في جسد العراق، تستشري بصمت وشراسة في كل مفاصله، فلا تقوم له قائمة!