بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وخروج بلدان الشرق الأوسط من قبضة العثمانيين، انبرى الإنجليز والفرنسيون بهمة حثيثة على اقتسامها مستعمرات لهم،فتكونت دول عديدة جديدة، لكن الأكراد لم يمنحوا حقهم المشروع في وطنٍ قومي لهم، وكانت معاهدتي سايكس بيكو، وسيفر بمثابة ورقة توثيقية لظلمهم ومأساتهم!

وبذلك حرم الشعب الكردي من التمتع بحقه في دولة مستقلة، ومن فرصة حقيقية تتجلى فيها مواهبه في القيادة والبناء والظهور على المسرح الدولي،ونكب مرة أخرى بقادة عشائريين قوميين متخلفين اعتقدوا أن التعصب والجشع هو دليل باهر على الإيمان الوطني ووسيلة فعالة لجذب وشد الأتباع حولهم. فهم إذ لا يستطيعون محاربة الإنجليز لانتزاع حقوقهم المشروعة منهم، أو يعوا أن تركيا وإيران تعارضان قيام أي كيان سياسي لهم، اندفعوا يحاربون عرب العراق ودولتهم الناشئة، ويؤججون مشاعر الحقد والكراهية ضدهم مبتعدين كثيراً عن طريق النضال العقلاني السلمي التضامني مع الشعب العراقي بوصفهم أصحاب قضية تحررية واحدة، يمكن تحقيق أهدافها في الاستقلال أولاً، ومن ثم النظر في ما إذا من المجدي والممكن دولياً وإقليمياً الانفصال كل في دولته، أو البقاء في دولة واحدة تضمن حقوق كافة أطرافها ومكوناتها كاملة، مضمونة بدستور وطني!

وقد وقع الطرف العربي في نفس الخطأ فبدلاً من العمل على تلبية حقوق الأكراد المشروعة، وإلى أقصى حد ممكن في ظل حكومات مكبلة بمعاهدات استعمارية قسرية، وجوار حاقد على الأكراد، احتكم للسلاح أيضاً، وبذلك راح أحدهما يستنزف دم الآخر لحقب طويلة.

وبعد انقلاب 14 تموز 1958 لم يحتكم لا البرزاني العائد من منفاه السوفيتي، ولا عبد الكريم قاسم القادم من ثكنة العسكر للحكم بالطرق السلمية والديمقراطية، وحل القضية الكردية بشكل جذري عادل وسليم! فعادا لاقتتال دموي طويل أشد ضراوة من ذي قبل،ساهم في سقوط الجمهورية الأولى.

مضى قادة الأكراد يتحالفون مع حزب البعث والأمريكان وشركات النفط وشاه إيران وإسرائيل، ومضوا يساهمون جميعاً بشكل فعال في صنع كل الانقلابات اللاحقة في بغداد التي كانت ترتد عليهم أيضا، فيشن قادتها عليهم حملات قمع وإبادة كانت وما تزال مرفوضة ومدانة من العراقيين.

لم يلبث أن تكاثر قادة القضية الكردية، وتنوعوا في تفكيرهم واتجاهاتهم، ودبت الخلافات بينهم إلى صراعات دموية ماحقة،فخرجت من أيدي الشعب الكردي وطريق خلاصه وحقوقه المشروعة وبرزت كمهنة لمن لا مهنة له، يستعملها كل من يريد الضغط على العراق في قضية مصيرية، حتى إن شاه إيران قال ( الحركة المسلحة الكردية هي اليوم صنبور دم بيدي أستطيع فتحه أو غلقه متى أشاء).
zwj;
ومع ذلك ووسط كل هذا الركام الهائل من الخراب العام، منحت الحكومات المركزية في بغداد الأكراد بعض حقوقهم، كان آخرها في القرن المنصرم ما ورد في بيان آذار عام 1970، فنالوا مكاسب قومية لم يحصل عليها الأكراد في إيران أو تركيا.

كانت القيادات العربية مع كل تعصبها وتخبطها ودكتاتوريتها وميلها للحلول العسكرية، مضطرة لعدم ترك القضية الكردية جرحاً في خاصرة العراق ينزف دماً يحول دون تفرغها لخصومها في الداخل والخارج، فكانت تلعب على كل الأوتار بما فيها تحالفها مع القيادة الكردية التي تربطها معها قواسم مشتركة متنوعة، بدءاً من الطبيعة العامة للأيدلوجيات القومية، والأصول الريفية المتشابهة، إلى تحالفها المؤقت مع الحزب الشيوعي، وما يفتحه لها من آفاق على المعسكر الاشتراكي آنذاك، حيث كان الحزب الشيوعي قد كرس معظم نشاطه بعد منتصف الستينات للتحالف مع القيادات الكردية المختلفة، والعمل من أجل القضية الكردية دون حسبان لاتجاهاتها الخطيرة، أو تنكيلها به بين فترة وأخرى، لأسباب كان أبرزها أنه بعد ملاحقته في بغداد، والمدن العربية الأخرى وجد ملاذاً لدى الأكراد، كما كانت أكثرية قيادته من الأكراد!

ومع ذلك ظلت القيادات الكردية تحمل جميع العراقيين وزر كل الانتهاكات وجرائم الحروب التي ارتكبتها الأنظمة المتعاقبة في العراق بحق الأكراد الأبرياء العزل في قراهم أو مدنهم، وتحقن الأجيال الكردية الجديدة بكره العراق وأهله، متجاهلة، أنها كانت حتى اللحظة الأخيرة متحالفة مع تلك الأنظمة بكل ما يضمن مصالحا كقيادات عشائرية منتفعة من الحرب، ومنكرة لكل ما ارتكبته هي أيضاً من انتهاكات وجرائم حرب بحق العراقيين من الأكراد أنفسهم والتركمان والآشوريين والأيزيدين والعرب بما فيهم الذين ناضلوا معهم من الشيوعيين والديمقراطيين، حيث قتل المئات منهم دون ذنب، وعلى الهوية!

ولو اقتفينا آثار الأحداث المؤثرة بداً من اتفاقية الجزائر أوسط السبعينيات من القرن الماضي التي وقعها صدام مع شاه إيران بوساطة بومدين، والتي أدت إلى انهيار الحركة الكردية المسلحة بعد أن قطع الشاه إمداده لها بالسلاح والمال، ثم الحرب مع إيران التي تورط بها صدام في محاولة يائسة للتخلص من التزاماته الثقيلة في اتفاقية الجزائر، ثم غزوه للكويت، فالحصار، فالاحتلال نجد أن القضية الكردية وطريقة معالجتها من الجانبيين الكردي والعربي هي وراء كل هذه المآسي والكوارث ما يؤكد أن الإنجليز قد أفلحوا في زرع هذه القضية لغماً فتاكاً في أسس الدولة العراقية،zwj; فهي قد أوقعت فيه من الأذى والدمار ما لم يوقعه فيه أي صراع أو حرب تعرض له في تاريخه الحديث كله!

وعند دخول قطعات الجيش الأمريكي للعراق 2003 كانت قوات البيشمركة تسير بمحاذاتها تماماً لتتلقف جميع موجودات وأموال وممتلكات مؤسسات الدولة العراقية والجيش العراقي في شمال العراق، وقد استحوذت بشكل خاص على أموال البنوك، والدبابات والمصفحات والآليات والأسلحة الثقيلة والخفيفة ونقلتها إلى مناطقها، وكان البرزاني والطالباني مع أحمد الجلبي هم أهم الضاغطين على بول بريمر لحل الجيش العراقي، وركائز الدولة العراقية الأساسية الأخرى!

وعند تشكيل الجيش العراقي، جاءوا بأفراد البيشمركة فقط ليكونوا الفرقة الأولى منه، وما تزال هذه الفرقة تتلقى أوامرها من كردستان، ورئيس أركان الجيش الكردي أيضاً! وبالطبع لا ضير أن يكون معظم ضباط الجيش العراقي من الأكراد أو التركمان أو الآشوريين بصفتهم مواطنين عراقيين، لكنهم هنا منخرطون بصفتهم تابعين للقيادات الكردية!

ولدى تشكيل مجلس الحكم اشترط البرزاني والطالباني أن يقوم على المحاصصة القومية جرياً على التقاليد التي أرسياها في عمل المعارضة، وسار عليها القادة الطائفيون الشيعة، باحثين عن نظراء لهم من السنة على أساس الطائفة أيضاً، وباركت أمريكا كل ذلك. وبذا حول البرزاني والطالباني شمال العراق إلى إقطاعيتين محروستين بمليشياتهما وامتداتهما في الجيش العراقي والدولة العراقية، وراحا يمارسان فيهما حكماً مراوغاً يجمع بين نظام الاستقلال عن بغداد، ونظام الاندماج بها، ينتقيان مزايا وفوائد النظامين ثم يلقيان مساوئهما وشرورهما كالنفايات على العراقيين! ما خلق كيانا سياسيا مشوهاً، زاد من تشوه والتواء الدولة العراقية أيضاً!

وبينما تقف أمام العراق مهمة البناء الديمقراطي والتنمية الاقتصادية، يرى القادة الأكراد أن المهمة المقدسة التي أمامهم هي مهمة التحرر القومي في كردستان الصغرى والكبرى، فهم لا ينظرون للعراقيين كأخوة لهم في الوطن، بل كمستعمرين ومستعبدين! بكل ما يجر ذلك من كراهية ونفور وأحقاد وصراعات! لذلك ربوا أجيالاً جديدة من الأكراد تزدري انتماءها للعراق، وتحتقر تاريخه وتراثه، وتتحدث عن انتمائها لكردستان فقط!

وحين تكون في بلد واحد مهمتان تاريخيتان، الغاية القومية لدى الأكراد،والغاية الديمقراطية لدى العرب، وعلى هذه الدرجة من التعارض والتصادم، فإنه سيكون محتما عليه الانفجار والتمزق، ليس في نسيجه القومي وحسب، بل وفي نسيجه الطائفي أيضاً بوصفه الساحة الرئيسية لإضعاف الآخر وتدميره!