رغم المسلمات البينة للعالم أجمع لا يزال العديد من المثقفين العرب، ومنظري الإسلام السياسي بكل أطيافهم يتيهون بين المفاهيم القومية والوطنية، الشمولية واللامركزية quot; الفيدرالية بشكل خاص quot; ويدمجون بين المبادئ الإسلامية المتطرفة والمفاهيم القومية، والأغرب العديد منهم لا يتمكنون من فصل العمق القومي عن النزعة الدينية، وعليه يدخلون في تيه المفاهيم والإستنتاجات الخاطئة والتي تبقى ضبابية عندهم، كرؤيتهم لتسيير الدولة مابعد سقوط الأنظمة، ومثلها النظرة إلى النظام الفيدرالي على أنها نزعة سياسية قومية أو طائفية لتقسيم الوطن، كتيه السيد علي صدر البيانوني حول النظام الفيدرالي في سوريا القادمة، ومن قبله بعض السادة من الكتاب ذوي النزعة العروبية بمطلقه، في تأويل هذا المفهوم السياسي الإقتصادي، وهاج البعض منهم وهاجموا بشراسة عندما طرح الكرد فكرة بناء النظام السوري بعد سقوط بشار بالأسلوب اللامركزي السياسي، أي الفيدرالي.
علماً بأن النظام المطروح quot; اللامركزية السياسية، أي الفيدرالية quot; ساد في التاريخ القديم بين المناطق وداخل الأمبراطوريات وحتى بين دول صغيرة عديدة من العالم، وكان هذا هو النظام المسيطر في معظم فترات التاريخ الإسلامي وبأسماء وصفات مغايرة، تلائمت وتلك العصور، فالبحث في تاريخ الدولة الإسلامية من بدء أختراقها لجغرافية الجزيرة العربية إلى لحظة إكتمالها كأمبراطورية، تتبين بشكل واضح التقسيمات الإدارية المتكاملة بذاتها ولذاتها، والتي كانت تابعة للمركز اسمياً من خلال دفعها للأتاوات وتعيين الأمراء الإسلاميين الذين كانوا بالأصل من الجزيرة العربية، لكنهم كانوا ذات خصوصية مستقلة في معظمه، بدءاً من قراراتهم وحتى عند الحروب التي كانوا يقومون بها على الجوار، كانت لهم جيوشهم الخاصة بها، أي ما معناه بالمفهوم الحاضر سياسياً وإقتصادياً وثقافياً الأقاليم الفيدرالية، حينذاك، وفي البدايات بدءاً من الخلفاء الراشدين ومروراً بحكم خلفاء الأمويين وإلى نهاية الخلفاء العباسيين، كانت الأقاليم ذات جغرافية محددة، لها إسمائها وعواصمها الخاصة بها، وأمرائها، وقواها العسكرية. وكل من أطلع على تاريخ الصراع بين أبو سفيان والإمام علي quot; رضيquot; سينتبه إلى مدى قدرة وإستقلالية الأقاليم الإسلامية و مكانة أمرائها، إمارة مصر، وفلسطين، والعراق، والحجاز والشام وقد كانت تتأرجح دفة القوى تبعاً لوقوف أولئك الأمراء إلى جانب الأمويين أو الإمام علي quot; رضي quot;.
كان الخلفاء يجتهدون إلى درجة معينة لكسب مبايعة تلك الإمارات شبه المستقلة، تنوعت هذه الدعوات والإجتهادات بين الخلفاء، قلائل هم الذين حاولوا فرض السيطرة المركزية الكاملة على النظام اللامركزي وكثيراً ما أدت نزعتهم تلك إلى تفسخ الدولة وأنفصال شبه تام لإمارات بعيدة عن المركز.
منذ عهد الشورى للخلفاء الراشدين إلى النظام الإقطاعي الوراثي في الخلافة الأموية، إلى عهد العباسيين، ذات الإستقلالية شبه التامة للعديد من الإمارات، في معظمه كانت واضحة جداً في العديد من المجالات، وكثيراً ما كانت تابعة للإمبراطورية روحياً بالأتاوات أو تغليب المفاهيم المذهبية، رغم ذلك كانت أمبراطورية مع خلافة دينية راسخة، ذات أقاليم شبه كونفيدرالية في كثيره، لكن في الغالب وبشكل عام كانت إمارات فيدرالية المفاهيم، أي ما معناه ليس هناك أختلاف في مبادئ وبنية الدولة الإسلامية و فيدرالية الأقاليم الذي تطالب به الآن الكثير من الشعوب، ومن ضمنهم الكرد في سوريا. والذين يشككون حاضراً في مثل هذا النظام اللامركزي السياسي من خلفيات التخمين والحدس أو على بنية فكرية ذات ثقافة ملغية للآخر، يخالف المنطق الإسلامي في تكوين الوطن الأوسع الذي يشارك فيه أكثر من شعب واحد، كما ويتعارض مع المفاهيم الحضارية الإنسانية العصرية.
لئلا نكون أوسع شمولاً من التقسيم الإنساني للدولة الإسلامية، لنرجع إلى نص إلهي محدد، سنجد بإن الإنسان السياسي أو المثقف المتناقض مع مبدأ تكوين الوطن على اساس النظام الفيدرالي وحسب إرادة الشعوب في دمج المناطق الجغرافية يتناسون إرادة إلهية نزلت بأية واضحة تأويلها، ليس صعباً اسقاطها على السياسة الحالية، فالآية هي: quot; يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم... quot; نداء إلهي بنص واضح، الأتقى من العباد يبقى في حكم الغيب والله وحده يحدده، لكن التقارب والتعايش بين الشعوب، في هذا العصر أو الذين عاشوا في ظل الإمبراطورية الإسلامية، وتحت راية الخلفية، شعوباً مختلفة بين بعضها، لكل منهم بنيان متكامل، من حيث المفاهيم العرقية أو الجغرافية، أو حسب النظريات المتعددة في تكوين القوميات أو الأمم، وهم مع ذلك شاركوا في الماضي في تكوين إمبراطورية، ولم تتفسخ تلك الإمبراطورية إلا بعد أن خرجت النزعات العنصرية الطائفية والقبلية إلى الظهور، وعادت تلك النزعات بالظهور في هذا العصر تحت مفاهيم مغايرة لكلية الوطن، هذه النزعات تفاقمت بين المثقفين والسياسيين المتزمتين قومياً، حيث سيطرت عليهم ومنذ أربعينيات القرن الماضي ثقافة المطلق والآنا الأوحد، دون مراعاة لمفاهيم الآخر من القوميات الأخرى والمشاركة لهم في الوطن الكلي، والتي أدت إلى ما نراه اليوم من نتائج في الشرق، ثورات متتالية لإسقاط الأنظمة العنصرية، ومنها أسقاط مفاهيم السيطرة بالمطلق، وعليه فإن النظام الفيدرالي للدولة السورية أو التكوين الكلي على مبدأ إشراك الجميع، سيكون النظام الأمثل لإستقرار وتطوير الوطن. ألغاء النظام المركزي المطلق الجامد، سيخلق العامل الأقوى للحفاظ على الوحدة الوطنية المبنية على القناعة وليس على مبدأ الإرضاخ.
بنت الحركات الكردية السياسية والثقافية هذا المبدأ على خلفية مفاهيم تاريخية، وثقافة واسعة مع إطلاع عميق لجميع الثقافات المجاورة وبآفاق متفتحة، وبعد دراسة شاملة وواسعة لتجارب العديد من الشعوب والدول، والتي أدت إلى أستنتاجاتها التي لا تتوانى في طرحها بكل شفافية، وهو بأن النظام الفيدرالي بذاته يحافظ على العامل الأقوى في تماسك الوطن، والشعب الكردي بحركاته يتمسكون بهذا المنطق عن قناعة ذاتية، والتصريحات المتتالية لا تأتي جزافاً أو تكتيكاً سياسياً، إنه مبدأ مبنياً على مفهوم حق تقرير المصير، والشعب الكردي في سوريا يقرر مصيره في الوطن السوري بنظام فيدرالي وهذا ما تصرح به الأغلبية العظمى من الشعب الكردي في سوريا، ولا ننسى بإنه من جهة أخرى إنعكاس لمأساة حياة مديدة مليئة بالويلات تحت سلطة دكتاتورية مركزية، أفظع من معاناة الشعب السوري العربي والأقليات الأخرى، فالكرد يعاني قومياً ووطنياً، والعربي يعاني وطنياً، ولا ننسى الطوائف والأقليات المتعددة الذي تتشكل منها جمال سوريا الوطن، هنا كان الإستنتاج المنطقي عند دراسة الماضي القريب، لإقامة الدولة اللامركزية السياسية بنظام فيدرالي لجميع الطوائف الدينية والقوميات والأقليات، ولبناء الوطن بشراكة وعن قناعة.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات