لعبت القوات المسلحة المصرية دوراً كبيراً في نجاح ثورة الخامس والعشرين من يناير الماضي وفي إزاحة الحكم الشمولي لنظام حسني مبارك. لم تكن الثورة لتنجح بهذه القوة والسرعة ما لم تتخل القوات المسلحة عن حيادها، وما لم تنحز للثوار، وما لم تعط ظهرها لحسني مبارك وتنحيه، جبراً لا طوعاً، من منصبه الرئاسي. هذه كلمة حق لا يجب أن إنكارها. وقد ساعدت القوات المسلحة التظاهرات والاعتصامات طوال الأيام الثمانية عشر التي دامت فيها وعملت على احتفاظ الثورة بالزخم الذي كانت بدأت عليه. وكان طبيعياً أن نكسب القوات المسلحة بتعاملها quot;الحنونquot; والطيب مع المتظاهرين احترام العالم الذي كان يخشى تدخلاً عنيفاً يسفر عن أعداد كبيرة من الضحايا.

ولكن لأن خيطاً رفيعاً يفصل بين الحرية والفوضى وبين الحيادية والسلبية وبين الحنان والتدليل فقد أخفقت القوات المسلحة في بعض الحالات في الحفاظ على التوازن المطلوب وفشلت في مواقف واختبارات مهمة. وقد ساهمت هذه الإخفاقات، برأيي، في حالة quot;استباحة مصرquot; التي نراها هذه الأيام.

كان أول الاختبارات التي فشلت فيها القوات المسلحة وقع في الثامن والعشرين من يناير حين أمر الرئيس السابق القوات المسلحة بمساعدة أجهزة الأمن في الحفاظ على الأمن في الشارع المصري. كان متوقعاً أن تقوم القوات المسلحة على الفور بدورها في حماية المصريين وممتلكاتهم، وبخاصة بعد انسحاب أجهزة الأمن بالكامل من مواقعها، ولكن الجيش لعب لوقت طويل دور المتفرج ورفض التدخل لإحلال الأمن وفرض حالة حظر التجوال التي بقيت حبراُ على ورق. وكانت النتيجة اعتداءات على الممتلكات العامة والخاصة وحرائق وعمليات سلب ونهب وتهديد وترويع للآمنين.

لم تقم القوات المسلحة بإغلاق حدود مصر في الأيام القليلة التي تلت انهيار قوات أمن النظام، وكان هذا ثاني الاخفاقات المحبطة للقوات المسلحة. من غير المعروف على وجه التحديد سبب اتخاذ القوات المسلحة موقف المتفرج في أمور تعلقت بسيادة مصر على حدودها وأراضيها. وقد سمح موقف القوات المسلحة هذا للمساجين من أتباع حركة حماس وحزب الله بمغادرة مصر براً عن طريق الحدود الشرقية والجنوبية. كما فتحت موقف القوات المسلحة الباب أمام عناصر حمساوية لدخول سيناء بغرض فرض نفوذهم في المنطقة وتحقيق أهداف إيرانية تتمثل في خلق جبهة جنوبية لإسرائيل على الحدود المصرية.

ثالث المواقف التي سقطت فيها القوات المسلحة كان وقوفها موقف المتفرج من أحداث الأربعاء الدامي الذي شهدها ميداني التحرير وعبد المنعم رياض والتي راح ضحيتها العشرات من الثوار الأبرياء. بدا للمرء في هذا اليوم أن المصريين يتقاتلون، وكان قاسياً رؤية فريق مصري يستخدم قنابل المولوتوف والقنص ضد فريق مصري أخر. موقف يندى له الجبين ويخجل منه كل أبناء النيل. ورغم ذلك لم تحرك القوات المسلحة التي كانت منتشرة في الميدانين ساكناً واكتفت بالمساعدة في علاج المصابين وتسهيل نقلهم للمستشفيات. كان واجباً على القوات المسلحة أن تقوم بإلقاء القبض على الفريق المعتدي لتقديمه للمحاكمة ولكشف طبيعتهم وحقيقة من حرضهم للهجوم على ثوار ميدان التحرير.

قبلت القوات المسلحة باعتبار ميدان التحرير ممثلاً وحيداً للشرعية الشعبية، وكانت هذه النقطة الرابعة التي نأخذها على القوات المسلحة. من المؤكد أن أنظمة الحكم تستمد شرعيتها من الشعوب، ومن المهم هنا التساؤل إن كان من تظاهروا ميدان التحرير يمثلون حقاً الشعب المصري. الإجابة، برأيي، تميل إلى عدم اعتبار من تظاهروا في ميدان التحرير في فترة ما بعد الثاني عشر من فبراير ممثلين حقيقيين للشعب المصري بكل ألوانه وأطيافه المختلفة. كان تحالف غريب بين مجموعتين متناقضتي التاريخ والمصالح هو الذي لعب الدور الأبرز في تظاهرات ميدان التحرير. المجموعة الأولى هي جماعة الإخوان المسلمين وهي جماعة منظمة جداً وقادرة على حشد الملايين وهي التي نظمت وقادت التظاهرات التي قامت بعد تنحية مبارك، والمجموعة الثانية ضمت عدداً قليلاً من الناصريين والقومجيين الذين انصاعوا لقيادة الإخوان.

الموقف الخامس الذي أخفقت فيه القوات المسلحة هو إخضاعها مصر لإملاءات بعض متظاهري ميدان التحرير، وكان أخر هذه الإملاءات إقالة رئيس الوزراء أحمد شفيق الذي كان ذنبه الوحيد أن من أدخله الوزارة كان حسني مبارك، رغم أن مبارك قدم الكثيرين ممن يؤيدهم ميدان التحرير مثل كمال الجنزوري وعمرو موسى وعصام شرف وأسامة الباز وغيرهم. قامت مجموعات محددة بفرض أرائها على الدولة المصرية ونجحت في ابتزاز القوات المسلحة التي منحت بعضاً من هذه المجموعات شرفاً لا يستحقه مما جعلهم يظنون أنهم قادرون على فعل ما يريد بمصر وشعبها. كما جعل الكثيرين من المتظاهرين يظنون أنهم فوق القانون حتى أن أحد الفنانين الذين شاركوا في تظاهرات واعتصامات ميدان التحرير صرح بأنه غاضب لأن مصلحة الضرائب تفحص ملفاته الضريبية.

كانت التنازلات التي قدمتها للإخوان المسلمين هي سادس إخفاقات القوات المسلحة. وقد جاء تعيين أعضاء بالجماعة في اللجنة المعنية لتعديل الدستور دليلاً على مدى رغبة القوات المسلحة في تملق الإخوان الذين سيطروا عملياً على ميدان التحرير وأظهروا قوتهم وقدراتهم الحقيقية. كانت تنازلات القوات المسلحة للجماعة التي ظلت محظورة رسمياً لعقود طويلة مفاجئة للجميع. كان الكثيرون من المصريين يتوقعون أن تفتح القوات المسلحة تحقيقات بشأن حالة الفوضى التي حلت بمصر في الثامن والعشرين من يناير، وبشأن عمليات اقتحام السجون والإفراج عن المعتقلين السياسيين والجنائيين، وكذلك بشأن علميات تهريب رجال حركة حماس وحزب الله إلى خارج الحدود، وهي الأمور التي تؤكد مؤشرات على أن الإخوان المسلمين كانوا المستفيدين الوحيدين منها. ولكن القوات المسلحة امتنعت عن مواجهة الجماعة ربما رغبة في عدم الدخول في مواجهة غير مضمونة النتائج معها وربما رغبة منها في بدء عهد جديد معها.

الاختبار السابع الذي لم تنجح فيه القوات المسلحة تمثل في قبولها بمحاكم التفتيش التي نصبتها مجموعات تريد الانتقام من النظام السابق. نعم كان مطلوباً اقتلاع النظام الفاسد من جذوره، ولكن ما كان يجب أن يمنح المصريون أنفسهم الحق في نصب المشانق للمذنب والبريء على السواء. تحولت مصر في الأسابيع الأخيرة إلى ما يشبه السيرك الذي يتلون فيه الجميع بألوان فاقعة فقط لجذب الأنظار. لعب الإعلام دوراً سيئاً هنا لأنه أكال الاتهامات للجميع من دون موضوعية أو أسانيد. وكان أسوأ ما شهده الإعلام هو التحول المقزز والصارخ لبعض إعلاميي نظام مبارك الذين غيروا في لحظة واحدة دفة توجهاتهم السياسية حتى ينافقوا ويتملقوا الثورة، وراح بعضهم يستخدم أساليب رخيصة لفبركة تقارير عن أملاك رجال النظام السابق بغرض تحويل الأنظار عن دورهم المشين خلال الثلاثين عاماً التي قضاها مبارك في السلطة. والمؤسف أن الكثيرين ممن نصبوا أنفسهم جلادين لنظام مبارك الفاسد نسوا أو تناسوا تاريخهم الذي لا يقل فساداً.

أما الإخفاق الثامن للقوات المسلحة فكان محبطاً للغاية لكل المصريين الشرفاء لأنه أنهى عملياً أمال الكثيرين في بداية جديدة لمصر. كان هجوم القوات المسلحة على عدد من الأديرة القبطية في الأسابيع الثلاثة الماضية أمراً مسيئاً ليس للقوات فحسب ولكن للثورة ولمصر كلها. تركت القوات المسلحة كل المهام الجسام الملقاة على عاتقها وهاجمت الأديرة التي لم تشكل يوماً تهديداً لمصر. لم تكن القوات المسلحة عادلة حين هاجمت الأديرة عديدة ولأن الكثيرين من المصريين قاموا بما قام به رهبان الأديرة من بناء أسوار حماية في أعقاب الانفلات الأمني الذي شهدته مصر في الأسابيع الخمسة الماضية، ولكن القوات المسلحة لم تهاجم أحداً بالمدرعات والقاذفات والذخيرة الحية باستثناء الرهبان في أديرتهم. وكان قبيحاً إطلاق جنود عشرات الرصاصات على اللوحة التي تحمل أسم الدير في إهانة متعمدة للمسيحيين. لم تكتف القوات المسلحة بذلك وأنما امتد إخفاقها هنا ليشمل الوقوف في موقف المتفرج من أحداث قرية quot;صولquot; التابعة لمركز أطفيح بمحافظة حلوان التي هاجم فيها متطرفون من أهالي القرية كنيسة وأشعلوا بها النيران.

إخفاقات القوات المسلحة التي تناولتها هنا تشير إلى الحالة المتردية التي بلغتها هيبة الدولة المصرية اليوم. لم يكن مفاجئاً خروج مئات الألوف من العمال والموظفين في تظاهرات واعتصامات فئوية، ولم يكن مفاجئاً كذلك هجوم متزامن قام به الألاف على مباني قوات أمن الدولة في عدد المحافظات بغرض الاستيلاء على ملفات الجاهز. من المؤسف أن يستبيح البعض مصر المرهقة في الوقت الذي تسعى فيه جاهدة للنهوض من الكبوة الطويلة التي وضعها فيها العسكر قبل نحو ستين عاماً. لقد استأمن المصريون القوات المسلحة على وطنهم ولكن لأن هذه تفتقد الخبرة السياسية اللازمة فقد فشلت في اختبارات مهمة سيحدد ما تفضي عنه مكانة مصر في العقود القادمة. كنت من الذين سعدوا بدور القوات المسلحة في عزل نظام حسني مبارك، ولكن ما كشفت عنه الأسابيع القليلة الماضية لا يبشر بالخير. نريد من القوات المسلحة أن تحافظ على هيبة الدولة المصرية بألا تسمح بتجاوز الخيط الرفيع الذي يفصل بين الحرية والفوضى وبين الحيادية والسلبية وبين الحنان والتدليل. نريد لمصر أن تنهض سريعاً من دون أن تقع فريسة لمن لا يريدون لها الخير.

[email protected]