لا يشك المراقب المحايد، ولو قليلا، في أن للمتظاهرين البحارنة مطالبَ عادلة ومشروعة، حالهُم فيها كحال التوانسة والمصريين والليبيين واليمنيين والعمانيين والسوريين. وجلُ هذه المطالب لم تخرج، في بداية التظاهرات، عن الإصلاح السياسي وتحويل البحرين إلى دولة دستورية يكون الشعب فيها مصدر السلطات، وتحقيق المساواة والعدالة، ومحاربة الفساد، قبل أن يرتفع سقفها، ردا على عنف السلطة، أو ربما بإيحاء من )دولة أجنبية(، كما تصفها حكومة البحرين، لتصل إلى المطالبة بإسقاط النظام. وكان يمكن لحكومة البحرين أن تمتص غضب المتظاهرين وتستجيب لكل مطالبهم أو بعضها، بدل استخدام القوة والبطش بالمتظاهرين وأشعال هذا الحريق الكبير الخطير.

إلى هنا والمسألة تبقى وطنية بحرينية داخلية قابلة للحل، مهما تباينت المواقف بين الحكومة ومعارضيها. ولكن دخول إيران على الخط بحملاتها التحريضية الكاسحة أفقد تلك المطالب صفتها الداخلية المشروعة، وحَوَل أصحابها إلى طابور إيراني خامس، رغما عنهم، وهم ليسوا كذلك.

بعبارة أخرى، إيران قتلت المتظاهرين البحارنة، وأطفأت جذوة انتفاضتهم العادلة، وأفسدت عليهم حياتهم، إلى زمن قادم طويل.

إيران التي قمعت معارضيها الإيرانيين (الشيعة) بهمجية بالغة، ومنهم إسلاميون من داخل الخيمة الخمينية نفسها، واستخدمت ضدهم أبشع أنواع القمع والردع والإرهاب، بأكثر مما فعل القذافي وسيف الإسلام بالشعب الليبي الأعزل البريء، تخرج هذه الأيام على العالم، دون حياء، مدافعة عن الديمقراطية في البحرين وعن حقوق الإنسان وعن حرية الجماهير في التعبير عن آرائها ومطالبها المشروعة، وتستنكر وتستهجن استخدام القوة ضدهم.

أحمدي نجاد، نفسُه، ذلك الديكتاتور الخارج من سراديب الحرس الثوري الإيراني الإرهابي بامتياز يتوعد قادة البحرين والسعودية بمصير صدام حسين.

وإيران فعلت مثل هذا تماما في انتفاضة العراقيين العفوية الوطنية الصادقة في العام 1991. فحين اندلعت الانتفاضة تعبيرا عن غضب مختزن ضد ظلم الديكتاتور وأعوانه، ورغبة في إسقاطه، وإقامة النظام البديل الديمقراطي العادل العاقل، دخلت إيران على الخط ايضا، ورفعت عناصرُ مخابراتها المندسة بين المنتفضين العراقيين صور الخميني، وتعالت الهتافات الطائفية المتعصبة لتجعل من الانتفاضة محاولة إيرانية لحكم العراق، كما تفعل هذه الأيام. الأمر الذي جعل العراقيين العلمانيين والديمقراطيين السنة والشيعة، معا، يبرأون منها ويكفون عن المشاركة فيها. ليس هذا وحسب، بل ألحقت إيران بتدخلها التخريبي الأهوج في الانتفاضة ضررا فادحا آخر بالعراقيين. فقد جعلت القوات الأمريكية الزاحفة نحو العاصمة لإسقاط الديكتاتور تتوقف على بعد أميال محدودة من بغداد، وتتخلى عن هدف إسقاط النظام، موحية للطاغية بعدم ممانعتها في استخدامه طائراته السمتية ودباباته لوأد الانتفاضة.

بعبارة أخرى، إيران أقنعت أمريكا ودول الخليج العربية بأن شيطان بغداد الذي تعرفه ضعيفا مقصوصَ الجناح ومنزوع َ الأنياب والأظافر وغير قادر إلا على شعبه الأعزل البريء أفضلُ لها وأقلُ إضرارا بمصالحها وأخفُ شرورا من الشيطان الآخر الذي تعرفه أيضا وتعرف مشاريعه الجهنمية التي يخبؤها لكل دول المنطقة. يومها بدأ غض الطرْف الأمريكي والعربي عن دبابات النظام وطائراته وهي تدك المدن والقرى على رؤوس ساكنيها الأبرياء، وتنثر أشلاء مئات الشهداء في العراء، وتدفن مئات أخرى في مقابر جماعية، على مرأى العالم ومسمعه، دون أن يتحرك أحد من دعاة حقوق الإنسان، في الغرب والشرق لحماية المدنيين من همجية الديكتاتور. يعني أن إيران ذبحت المنتفضين العراقيين وأجلت الطاغية على صدورهم عشر سنوات أخرى دامية.

وإيران اليوم تكرر نفس الحماقة ولم تتعض ولن تتعض. فهي بدفاعها المستميت عن (الحقوق المشروعة) للمتظاهرين البحارنة أثبت التُهم التي أطلقتها الحكومة البحرينية على زعماء المتظاهرين بالعمالة والتخابر مع دولة أجنبية لإسقاط النظام. يعني أن أحمدي نجاد، بدموع التماسيح التي راح يذرفها بحرارة، يريد أن يقول إن شباب ميدان اللؤلؤة وشيوخَه ونساءَه هم رعاياه المشمولون بعطفه وحصانته وبركاته، وبالتالي فهم (حصانُ طروادة) إيراني يريد أحمدي نجاد ركوبه لغزو دولة البحرين وجعلها، كما هو العراق اليوم، كوكبا سابحا في فضاء دولة الفقيه.

بعبارة أخرى، بين سندان دولة الملالي ومطرقة الحكومات الخليجية سالت دماء المتظاهرين الأبرياء في البحرين، وسوف تسيل في السعودية، وقد تسيل في لبنان، وفي دول عربية أخرى عديدة.
ويقول المراقبون المحايدون إن غالبية شيعة البحرين كانت معتدلة وعاقلة ومتنورة، وميالة إلى الحوار مع الحكومة، على طريقة خذ وطالب. لكن القلة من المتشددين الموالين لحكومة إيران غلبت الأكثرية المعتدلة، وحولت التظاهرات إلى مواجهات طائفية بين شيعة وسنة، وعنصرية بين فرس وعرب، مع الأسف الشديد.

الأمل الكبير أن تصبح تجربة البحرين الدامية بداية صحوة حقيقية لدى الحكومات العربية في الخليج، وفي غيره أيضا، فتقوم بسد المنافذ التي تتسلل منها إيران إلى داخل مجتمعاتنا الآمنة، برفع الضيم عن شيعة هذه الدول، وإجراء أقصى ما يمكن من إصلاحات دستورية واقتصادية وتنموية تردم الهوة بينهم وبين أشقائهم الآخرينز بهذا وحده تبطل حكومات الخليج مفعول الطوابير الخامسة الإيرانية الحقيقية وتفادي الفتن الأعظم القادمة.

شيء آخر. إن أحمدي نجاد يرتكب نفس الخطأ الاستراتيجي القاتل الذي ارتكبه صدام حسين حين أراد أن يحول الصراع (المصالحي) (السلطوي) بينه وبين الخميني إلى صراع قومي طائفي بين الأمتين العربية والفارسية، ويؤجج الأحقاد والثارات التي دفنها الإسلام، من زمان.

إنه يلعب بنار ٍ لا هو ولا شعوبُ إيران و لا الشعوبُ العربية تتحمل المزيد من حرائقها ودمارها وأضرارها البعيدة. فقد ذاقت منها الأمرين في العهود الماضية، وما تزال.
مع الإقرار بأن لجماهيرالأمتين مصالحَ متبادلة متشابكة لا تنفصم، ثابتة وراسخة، ينبغي إبعادها عن الاستغلال السياسي.

وينسى أحمدي نجاد وحكومته أن الزمن لم يعد يسمح بولادة امبراطورية فارسية جديدة في المنطقة. لأسباب عديدة منها، بل في مقدمتها، أن العالم اليوم تحكمه مصالح دولية متشابكة يصعب اختراقها وفرضُ الأمر الواقع عليها، وقد فشل من قبله شاه إيران وصدام حسين والخميني نفسُه في تغيير موازين القوى في المنطقة، ودفعت شعوبنا كلها، بقدْر أو بآخر، ثمن ذلك الطموح غير المشروع.

كما أن هناك عائقا آخر أمام اندفاع المد القومي الفارسي يتمثل في نمو ثقافة الحرية في الأوساط الشعبية في المنطقة، بما فيها إيران ذاتها، وشيوع الفكر التقدمي المعارض لهيمنة الفكر السلفي الديني.

ومع التطور الهائل في وسائل الاتصال العصرية الحديثة أصبحت مهمة أيقاظ الأحقاد القومية العنصرية أكثر صعوبة، وأكثر عرضة للفشل والانحسار.

والمعارضة الشعبية الواسعة الشجاعة التي انبثقت من داخل النظام الإيراني ذاته، تعبير صارخ عن التحولات القادمة في ظروف الطقس السياسي والثقافي والاجتماعي في عموم الإقليم، الأمر الذي يضع نظام السلطة الدينية في إيران أمام تحديات لم تكن في حسابه من قبل.

وانسجاما مع حركة التاريخ، ومع جهود القوى الدولية الفاعلة لمواجهة المد الفارسي المعتمد على أحلام غير قابلة للحياة في العصر الحديث، فقد بدأ الزمن يعمل ضد طموحات الرئيس الإيراني وحكومته، ويحولها إلى أوهام، رغم أنه يكابر ويرفض الاعتراف بهزيمة أحلامه على أرض الواقع.

ويُفترض أن تكون الإجراءات العسكرية التي اتخذتها دول الخليج العربية للحد من تدفق الأذرع الإيرانية إلى داخلها، عبر مواطنيها الشيعة، كافية لإقناع الحكام الإيرانيين بعبثية سياساتهم التوسعية، وبضرورة الاستدراك العاجل، ومراجعة الذات، والتخلي عن سياسة لي الذراع، والعودة إلى منطق العصر الحديث، منطق التفاهم والتعاون والتناغم، لتعزيز استقرار أمن المنطقة، باعتباره الضمانة الوحيدة للأمن الوطني الخاص لكل دولة من دولها، وإيران منها بل في مقدمتها، بكل تأكيد.