الحلقة الاولى

الحلقة الثانية

الحلقة الثالثة

بعد أيام أطلق سراحنا بكفالة وفور خروجنا من السجن استدعانا معاون شرطة الجانب السيد شمسي وابلغنا بوجوب ترك الديوانية والسكن في بغداد فقط والذي يبقى منكم هنا في مدينة الديوانية فالحكومة غير مسؤلة عن حياته وأضاف قائلا أبلغت بقية يهود الديوانية بهذا الأمر وسألته إن كانت الحكومة توافق على إغلاق المعمل وتعطيل عمله عن العمل لكي يتسنى لنا السكن في بغداد أجاب هذه مشكلتكم فأنا كلفت من قبل المراجع العليا لإبلاغكم ولكم ثلاثة أيام فقط تحزمون فيها أثاثكم وأمتعتكم وتغادرون الديوانية ومن يبقى منكم بعد المدة المحددة فعلى مسؤوليته الشخصية. ولم يخف علينا ما ينطوي عليه هذا التحذير من المخاطر لمن يبقى في الديوانية. كان قد تبقى من اليهود الساكنين في مدينة الديوانية سبعة عوائل فقط من أصل (750) نسمة كانوا يسكنون فيها قبل صدور قانون إسقاط الجنسية العراقية عن اليهود الراغبين بالسفر إلى خارج العراق، وعند تلقيهم هذا الأمر أي الجلاء عن البلدة هرعوا إلى بغداد مذعورين لاستئجار دور لسكناهم ثم عادوا وباعوا محلات أعمالهم بمحتوياتها في شبه مزاد علني لضيق الوقت وبأبخس الأثمان، وغادروا مع عائلاتهم إلى بغداد مسرعين قبل انقضاء مدة الإنذار خوفا على حياتهم. وشرعنا أنا ورفيقي بحزم أثاث الدار والأمتعة وأوقفنا أعمال المعمل ثم غادرنا إلى بغداد، ولقد ظننت أن الأمر انتهى بتحديد إقامتنا في بغداد ولم تمض بضعة أيام على إقامتنا هناك حتى تلقينا تبليغا أنا وصاحبي بالحضور إلى متصرفيه لواء الديوانية فورا وتكررت الدعوات ونحن نسافر صباحا ونعود مساء وأحيانا يطلبون منا المبيت في الديوانية ولطالما قضينا الساعات الطوال في المتصرفيه شبه موقوفين وبين اخذ ورد تارة بالتهديد والوعيد وأخرى بالكلام الاعتيادي والموضوع يدور حول تنازلنا عن معمل الطابوق بدون عوض وفي كل مرة كنا نزور فيها مدينة الديوانية وبناء على طلب من الحكومة كانت شرطة الأمن تتعقب خطانا وتمطرنا بوابل من الأسئلة (متى وصلتم، لماذا جئتم، متى تغادرون، ومن ستقابلون إلى غير ذلك) وكأننا أناس هبطوا من كوكب أخر، وفي ذات ليلة كنا فيها نيام في فندق المصايف بناء على طلبهم، دخل علينا شرطيان من شرطة الأمن لطرح الأسئلة التقليدية الأنفة الذكر بعد أن أيقظانا من النوم.
في يوم 31 كانون الأول سنة 1968 وصلنا إلى متصرفية اللواء بناء على طلبهم وبقينا ساعات في غرفة مدير الأملاك بانتظار ما يقرره المسؤلون فقد شكلوا لجنة برئاسة قائمقام المركز مهمتها إيجاد طريقة قانونية لسلب المعمل وبعد مداولات طويلة استمرت حتى ساعات بعد الظهر كملت الطبخة، فاستدعانا قائمقام المركز وطلب منا التوقيع على سجل ووثيقة أعدوهما لهذا الغرض فامتنعنا، وطال الجدل وطلبتُ منه أن يسمح لي بمقابلة متصرف اللواء لشرح موقفنا، فأجاب أن المتصرف يرفض استقبالك، وأخيرا قال لي بحدة (شوف يا هارون عندي أوامر بالحصول على توقيعكم خلال ساعتين بكل الطرق والوسائل الممكنة ثم سيصلكم تعويضا بعدئذ). كان الموقف محرجا فلقد قاومنا الضغوط النفسية القاسية وتحملنا العيش بالسجون والمعتقلات وتلقينا أنواع التعذيب والاهانات والتهديد بحياتنا وحياة عوائلنا من المسؤلين عن حماية أرواح المواطنين ومحظور علينا السكنى في بلدتنا لإدارة شؤون العمل وكلما استدعينا إلى مدينة الديوانية لم نكن نعرف ما يخبئونه لنا هناك كما وسئمنا السجون ومراكز التوقيف وكان علينا تحدي رغبة الحكومة التي لم تتورع من إزهاق الأرواح البريئة على أعواد المشانق وداخل السجون في الوقت الذي تأكد لنا أن الحكومة مصممة على عدم التراجع عن طلبها وكان، شريكنا ابن أخي السيد عزت ساسون معلم قد خولنا التصرف حسبما يقتضيه الوضع دون تعريض حياتنا إلى الخطر، وهنا تكررت نصيحة الشيخ سلمان عندما قال لا يمكنكم مقاومة رغبات الحكومة، فوجدنا أن لا مفر لنا من التوقيع فوقعنا مكرهين دون أن يتاح لنا قراءة ما وقعنا عليه، ورجوت القائمقام أن يسمح لنا ببيع الطابوق الجاهز الموجود في المعمل بغية تسديد ديوننا فرفض، وهكذا سلبوا هذا المشروع الذي كان يساوي ثروة طائلة دون تعويضنا بأي شيء ولم تصلنا أية تعويضات كما وعدوا، غير أننا علمنا بعد مدة بان المسؤلين في اللواء شكلوا لجنة لتقدير ثمنا لمعمل الطابوق موضوع البحث وان هذه اللجنة قدرت مبلغ خمسة ألاف دينارا عراقيا ثمنا للمعمل بطاقة منشأته وأفرانه وأدوات العمل المختلفة مع الطابوق الجاهز للبيع والذي في مراحل الإنتاج بالإضافة إلى الأرض المشيد عليها والبالغة مساحتها 650 دونماً وقد أودعوا المبلغ في خزينة اللواء أمانة ولا بد أن المبلغ ينتظرنا حتى الان، علما بان هذا المبلغ المقدر لا يساوي ثمن ماكينة من مكائنه إلا أن السلطات أرادت بهذه اللعبة إضفاء صفة شرعية على استيلائها على المعمل.
غادرنا الديوانية بعد توقيعنا بسيارة شريكي ونحن في أقصى حدود الانفعال والمرارة، فقد خسرنا مورد الرزق الذي كافحنا من اجله وتحملنا التعب والعرق تحت الشمس المحرقة سنين طويلة في سبيل تطويره وتوسيعه حتى أصبح من خيرة معامل الطابوق بتنظيمه ووفرة وجودة إنتاجه ووظفنا كل ما لدينا من أموال وتحملنا أعباء الديون بغية تطوير وتوسيع إنتاجه أردناه شغلة العمر فذهبت الأموال والجهود كلها بجرة قلم، كنا في غاية التأثر والألم، ولم اصدق أننا نصل إلى بغداد سالمين دون أن نتعرض لحادث طرق فقد لاحظت أن زميلي يقود سيارته وهو في غاية الانفعال والتأثر.
وصلنا بغداد ولله الحمد سالمين وحسبت بان ملاحقاتنا ستنتهي بحصولهم على ما أرادوه غير أن الأمر لم ينته عند هذا الحد فقد استدعينا أنا وولدي أخي السادة عزت وصالح إلى شرطة الأمن في بغداد بين الحين والأخر للتحقيق معنا عن كيفية حصولنا على المال للعيش وهم الذين اغتصبوا مصدر رزقنا وكيف نعيش بدون عمل، علما بان وصول تبليغ شرطة الأمن يبعث الخوف والفزع بجميع أفراد العائلة.
انقضت أربع سنوات تقريبا على هذه الحوادث المرعبة ونحن بدون عمل ننتظر الفرج والفرج هو تمكننا من مغادرة العراق وفي 21 كانون الثاني 1972 طارت بنا الطائرة إلى استانبول وصحبتي زوجتي سيلفيا وولدي ايلي وساسون ومنها إلى إسرائيل فطوينا بذلك صفحة طويلة من حياتنا المليئة بالذكريات منها الحلوة الطيبة ومنها المريرة المؤلمة وفتحنا صفحة جديدة في إسرائيل ارض الميعاد بلد الحرية والقانون.

أنتهى

(1)الطوب = المدفع
(2)مكوار = عمود صغير في راسه مثلث كرة من القير ويستعمل للقتال.