ان مشروع العمق الاستراتيجي لحزب العدالة والتنمية التركي في المنطقة هو تعبير للشراكة الغربية التركية (شرق أوسط أنكلو اميركي تركي) التي يحكمها التوجه الأمريكي الجديد الذي يرمي الى إعادة صياغة أنظمة المنطقة، وبدءا للمخطط يحاول رئيس الوزراء ورئيس الحزب الحاكم في تركيا رجب طيب أردوغان استدراج الحركات الاسلامية انطلاقا من تجربة حزب العدالة والتنمية، ثم الارتماء في أحضان أمريكا والغرب والاعتراف بإسرائيل. تم إعداد ودراسة مشروع العمق الاستراتيجي من قبل الاستخبارات التركية والأمريكية والبريطانية في أنقرة وواشنطن ولندن، وبمباركة من الادارة الامريكية، وحكومة بريطانيا، وتبين ذلك من خلال زيارة الرئيس الامريكي باراك أوباما الاولى الى أنقرة ومدحه للنظام الاردوغاني الاسلامي الليبرالي المعتدل، الذي يمكن ان يقتدى به ويكون نموذجا للمنطقة، وبعدها زيارته الى القاهرة حيث تبين في خطابه استراتيجية جديدة وهي دعم القوى الاسلامية السنية المعتدلة في الشرق الاوسط. في هذا الاطار جاءت زيارة رئيس الوزراء البريطاني الى أنقرة لتعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين وتأكيدا على ذلك قيام أردوغان بزياراته المتكررة الى لندن وكل هذه العلاقات تشير الى إلتزام أردوغان بالخطة الأمريكية الاطلسية الجديدة التي تحاول اعادة رسم الخريطة السياسية والاستراتيجية في المنطقة تحت مظلة الاسلام التركي المعتدل.
ان مفهوم المشروع الانكلو الامريكي التركي يتلخص:
1 التخلص من الانظمة العربية الديكتاتورية ( ما عدا الامراء والملوك) التي أصبحت عبئا على الغرب وأفلست شعبيا، والتي ليست بمقدورها الحفاظ على مصالح الولايات المتحدة والدول الاوروبية، والبديل عن ذلك هو التوجه الامريكي الاستراتيجي بإتجاه التحالف مع التيار السني المعتدل الأكثر قوة في المنطقة ليكون حليفا للولايات المتحدة والغرب ومن خلال ذلك ضمان أمن اسرائيل والاعتراف بها.
2 إبعاد السوق العربية والاسلامية في علاقاتها الاقتصادية مع الصين والهند وروسيا في مجال المنافسة في حال نجاح الاسلام المعتدل ونموذج العثمانيين الجدد في المنطقة، ولجميع هذه الإعتبارات وضعوا الرهان على الدور التركي ونموذج الحكم في أنقرة لأجل تحقيق أهدافهم في العالمين العربي والاسلامي.
أما الجانب التركي الذي يعادي الحركة التحررية الكردستانية بمجملها، فقد تمكن بدوره من استغلال هذه العلاقات مع الغرب، بالأخص مع الادارة الأمريكية وبريطانيا بدعم تركيا في مواجهة ومحاربة حزب العمال الكردستاني وحركة حرية كردستان، اعلاميا وسياسيا ولوجستيا واقتصاديا في تجميد أمواله، ثم امداد تركيا بتقنية عسكرية متطورة لمواجهة الكردستاني، واعتباره حزبا ارهابيا في قائمة المنظمات الارهابية، اضافة الى تسليم عناصر وكوادر حزب العمال الى الدولة التركية ومن جملة الأعمال الاجرامية التي شارك فيها الغرب مع الأمن التركي، هو الهجوم العشوائي الرخيص على مقر الفضائية الكردية roj tv الصوت الكردي الحر، والمنبر الديمقراطي، اضافة الى تهديد نشطاء وكوادر الفضائية، ثم تدمير الاجهزة الرئيسية فيها، ولن تكتفي حكومة أردوغان بهذه الاساليب التآمرية على الكرد، فحسب بل انها تقود حاليا الحملة القذرة في الدول الاوروبية في محاولة غير أخلاقية لإغلاق الفضائية الكردية.
بلا شك ان حكومة أردوغان مدعومة من الرأسمال العالمي بشكل غير مسبوق، وشريكة مخلصة لواشنطن ولندن في تطبيق المشروع الغربي في العالم العربي والاسلامي بإسلوب ديماغوغي تمكنّها من إستقطاب الوعي العربي والاسلامي، وذلك نتيجة الفراغ السياسي للأنظمة العربية بسبب إنشغالها لاستمرارية السلطة والبقاء في الحكم، فأنستها معاناة شعوبها والقضايا العربية العالقة كمشكلة فلسطين والعراق ولبنان، فدخلت الدولة التركية في هذه المعركة لتقوم مقام الانظمة العربية، وتعوض عن تخاذل قياداتها، فتمكنت ايديولوجية حزب العدالة والتنمية واستراتيجية العثمانيين الجدد من استثمار هذا الموقف لتصدير نموذج الاسلام الليبرالي المعتدل الى السوق العربي والاسلامي ودخول البيت العربي، مدعومة من دولة قطر ومن منظمة الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وجماعة فتح الله غولان العميلة للولايات المتحدة.
لتحقيق استراتيجية العثمانيين الجدد لجأ أردوغان رئيس الوزراء التركي الى:
1 مزايدة سياسية في تبني تركيا للقضايا العربية في المحافل الدولية ومزايدة على دور مصر في القضية الفلسطينية، والمصالحة الوطنية بين حركتي فتح وحماس، والدفاع عن قطاع غزة خلال تعرضه للحرب الاسرائيلية، ومحاولة فك الحصار عن غزة بإرسال اسطول الحرية الى القطاع، ذلك الاسطول الذي تم حجزه من قبل اسرائيل بعد مقتل وجرح العشرات من الاتراك على سفينة مرمرة، وليس أخيرا رد أردوغان العنيف على اسرائيل في مؤتمر دافوس وفيما يتعلق بمدينة القدس.
2 محاولة المصالحة بين سورسا والعراق لضمان المعبر الى دول الخليج وتقوية جبهة أهل السنة والتركمان، والصمود امام المنافسة الاقتصادية والسياسية لنظام الملالي في ايران، وتقوية التحالف الأمني ضد الحركة التحررية الكردستانية، وممارسة الضغط السياسي على حكومة اقليم كردستان بخصوص مدينة كركوك والموقف من حزب العمال الكردستاني.
3 تقوية العلاقات الثنائية في إطار نظرية داود اوغلو للعمق الاستراتيجي التركي مع الأنظمة العربية الديكتاتورية رغم معاناة شعوب هذه الدول من المغرب العربي الى مشرقه، لأجل بسط نفوذه السياسي والاقتصادي والثقافي ونشر الاسلام التركي، مع إلغاء تأشيرات الدخول وفتح الحدود ورفع الحواجز الجمركية كل ذلك تحت ستار النموذج التركي للاسلام المعتدل الذي يعبرعن مسيرة الاستعمار الاسلامي للعثمانيين الجدد وفي خدمة المصالح الامريكية والغرب في المنطقة.
4 العلاقات التركية الايرانية المزيفة تنظر إليها حكومة أردوغان بإزدواجية المعايير، الاولى مصالح تجارية واقتصادية ومد خطوط الغاز ( مشروع نبوكو) عبر أراضي تركيا، ثم العلاقات الأمنية في محاربة الحركة التحررية الكردستانية، وإظهار السياسة المرنة تجاه ايران ليقنع العالم العربي والاسلامي بحسن النوايا. أما الثانية مواجهة المحور الايراني السوري وحزب الله اللبناني في الخفاء، الذي يعبر عن الحقيقة التاريخية القديمة والحديثة وهو انهما، أي تركيا وإيران، عدوان كبيران مذهبيا واثنيا في المنطقة، وهما الآن يتنافسان استراتيجيا وسياسيا في إنشاء المحاور كما ظهر ذلك بكل وضوح على الساحة اللبناية والسورية والعراقية.
5 بعد الإحتلال الأمريكي للعراق أصبحت سوريا معزولة عن محيطها الاقليمي والدولي وتعرضت للضغوط السياسية والاقتصادية، وبحكم هذه الظروف لجأت الى فتح الباب أمام الحكومة التركية وبناء علاقات جيوسياسية واقتصادية وثقافية معها، وتطورت هذه العلاقات لصالح حكومة أردوغان في إلغاء تأشيرات الدخول وفتح الحدود ورفع الحواجز الجمركية وإنشاء مجلس تعاون استراتيجي أمني لمحاربة الحركة التحررية الكردستانية. وهكذا تحولت سوريا الى ساحة مفتوحة لتحقيق أهداف أردوغان في نجاح مشروعه للعمق الاستراتيجي التركي.
في بداية الأمر ساهمت تركيا في تخفيف الضغوط الخارجية على سوريا ورفع العزلة تدريجيا عنها، ثم لعبت دور التقارب السوري الامريكي والوسيط الوحيد في المفاوضات بين سوريا واسرائيل. ان أبعاد هذه العلاقات تطورت بالتلازم مع توجه الاستراتيجية الامريكية المدعومة من أردوغان في المنطقة، في محاولة لإبعاد سوريا عن المحور الايراني، لأنها البوابة الوحيدة لتغلغل النموذج التركي للاسلام الاردوغاني الى العالم العربي. ومن أهم الأركان لهيمنة العثمانيين الجدد للعمق الاستراتيجي التركي بمباركة أمريكية والدول الغربية.
ان أهمية الموقع الجغرافي لسوريا في المنطقة جعل منها ان تكون ساحة حرب نفسية وسياسية واقتصادية مخفية بين تركيا وايران. ان نظام الملالي هدد أثناء الثورة التي لا زالت مستمرة من أي تدخل خارجي في الشؤون الداخلية لسوريا، وهي رسالة موجهة لحكومة أردوغان الذي صرح بدوره بأنه ينظر الى الموقف في سوريا من منظور نظرته للاوضاع الداخلية التركية، ويذهب الى أبعد من ذلك بالقول بأن الاوضاع في سوريا هي شأن داخلي تركي أو ما يشابه ذلك. الجدير بالذكر هنا ان اي تدخل خارجي في سوريا سوف يؤدي الى كارثة إقليمية دون معرفة نتائجها.
ان حكومة أردوغان تورطت في مأزق جديد ومعقد في علاقاتها مع الدول العربية بعد الإنتفاضات الشعبية والشعارات الثورية في أكثر من بلد. وقد يكلف أردوغان القدر الكبير من الخسارة السياسية والشخصية والنفسية داخل تركيا، والاستراتيجة على المستوى العربي والاسلامي، بسبب تعرض العلاقات التركية السورية لنكسة قوية فتحولت الى جدار عازل لا يمكن للدولة التركية اختراقه للعبور منه الى البيت العربي في لبنان والاردن ودول الخليج، وأصبح جدارا يٌمثل العلاقات الاستراتيجية للمحور الايراني الذي يمتد من طهران الى بيروت مارا ببغداد ودمشق.
المحاولة الاخيرة لأردوغان هي ممارسة الضغط على النظام السوري عن طريق حلفائه من الدول الغربية وأمريكا، ومؤتمرات المعارضة السورية في اسطنبول، ثم دعمه الغير محدود وبكل الوسائل المتاحة له للاخوان المسلمين، كبديل للنظام السوري لاجل تحقيق اهداف العثمانيين الجدد ولكن: تجري الرياح بما لا تشتهيه السفن، وهذه هي حالة أردوغان، الوريث الجديد لثقافة الاسلام العثماني والساعي لاحياء العثمانية التي أرهقت شعوب المنطقة عن طريق الظلم والجهل واضطهاد القوميات والمجازر الجماعية بحقها. ان شبيبة الثورة في البلدان العربية لا يمكن لها ان تنسى ذلك التاريخ الدموي الذي مارسه العثمانيون بحق شعوبهم، وسوف يرفضون تكرار تلك المأساة وخضوعهم للعثمانيين الجدد أصدقاء اسرائيل تحت راية الاسلام الليبرالي المعتدل المدعوم أمريكيا وغربيا. وهكذا تفشل استراتيجية أردوغان والعمق الاستراتيجي لداود اوغلو على صخرة الاخوة للشبيبة العربية الكردية في دفاعها عن الديمقراطية وتحرير المنطقة من الانظمة الديكتاتورية التي تعاملت وتتعامل معها حزب العدالة والتنمية التركي الديماغوغي العنصري المدعوم من الغرب واسرائيل.
الدكتور احمد رسول
طبيب ومحلل سياسي
التعليقات