بالنسبة لي، فقد كان تعدي السلطات البحرينية على صحيفة quot;الوسطquot; في مارس وابريل الماضيين دليل أنه لم يعد عند الحكومة خطوط حمراء تجاه قمع وسائل الإعلام، والمشتغلين بها، وربما لم يعد هناك خطوط حمر حتى تجاه عموم الأجنحة الأخرى، التي اعتبرتها السلطات متفهمة أو داعمة لثورة 14 فبراير.
لقد مثلت quot;الوسطquot; وقد كنت أحد مؤسسيها ورئيسا لقسم المحليات فيها مؤشرا يمكن من خلاله قياس مدى حراك الوضع السياسي والحريات العامة في المملكة. كونها (الوسط) تعتبر جزء فعليا مما كان يعرف بالمشروع الإصلاحي الذي انطلق 2001.
وقد مُنح ترخيصها استجابة لمطلب القيادي الابرز للحركة المطلبية في التسعينات الشيخ عبدالأمير الجمري، ضمن مجموعة خطوات أخرى اتخذتها الدولة لدعم رؤيتها للانفتاح مطلع الألفية الجديدة، ورأس تحريرها ابنه القيادي السابق في المعارضة اللندينة د. منصور الجمري، فيما يملكها مناصفة مستثمرين سنة وشيعة.
ومكنها كل ذلك من أن تخط لنفسها مسارا يمكن وصفه بالمستقل عن السلطة الرسمية.
وإلى حد كبير، فإن quot;تأميمquot; الوسط، بفرض وزارة الإعلام من الناحية الفعلية سيطرة تكاد تكون تامة على ما ينشر فيها، يعني أن الغطاء الهش أصلا الذي كان يوفر للصحافيين مساحة محدودة من الأمان تمكنهم من التعبير عن رأيهم، قد سقط تماما.
ويمكن المضي أكثر بالقول بأن quot;التأميمquot; ذاك قد يعني نهاية رسمية للتسوية السياسية التي تمت في 2011، إذا ما اتخذ في مداه الأوسع، وضُم إليه العديد من الاجراءات الأمنية والعقابية الأخرى التي اتخذتها السلطات ضد المتظاهرين والجمعيات السياسية والحقوقية والعمال والأطباء والنساء، والصحافيين طبعا.
لقد بدأ الهجوم على quot;الوسطquot; مع انطلاق شرارة الاحتجاجات في 14 فبراير، إذ اعتبرتها السلطات quot;نشرة دوار اللؤلؤة quot;، حيث مركز المتظاهرين.
بيد أن النقد اللفظي ضد quot;الوسطquot; تحول عنفا فعليا، حين أقدمت quot;مجموعات مجهولةquot; فجر يوم الثلثاء (15 مارس 2011) على مهاجمة مطبعة الصحيفة، والحاق أضرار بالغة بها.
كان ذلك بعد يوم واحد من دخول القوات السعودية والإماراتية إلى الأراضي البحرينية تحت مسى درع الجزيرة لمساعدة الشرطة والجيش البحريني على السيطرة على حركة الاحتجاجات الحاشدة.
وشنت هذه القوات، في 16 مارس 2011، مدعومة بالدرك هجوما داميا على دوار اللؤلؤة، انتهى بإخلائه، ونسف نصب اللؤلؤة الذي يرمز للعلاقات المتينة بين دول مجلس التعاون الخليجية الست.
بعدها اتخذت الحرب ضد quot;الوسطquot; مسارا أكثر تشددا، بعرض تلفزيون البجرين مطلع ابريل الماضي برنامجا خاصا يتهمها quot;بنشر أخبار كاذبةquot;.
أعقب البرنامج، إصدار هيئة شئون الإعلام قرارا بإيقاف صدور الصحيفة مؤقتا، ما اضطر رئيس تحريرها د. منصور الجمري إلى تقديم استقالته، بيد أن ذلك لم يمنع السلطات من إحالته إلى النيابة العامة، مع مدير التحرير وليد نهويض ورئيس المحليات عقيل ميزرا، كي يكتمل مشهد العقاب.
وطبعا لم تعد quot;الوسطquot; كما كانت، ليس لأن رئيس تحريرها قد تغير فقط، فقد تم تعيين رئيس تحرير متوازن من بين ملاكها هو عبيدلي العبيدلي، لكن الضغوط التي مورست وتمارس ضد الصحيفة لا تمكنها من المضي بنفس المساحة من حرية التعبير.
إن ذلك لا ينطبق عن الوسط فقط، بل على عموم المجتمع السياسي والمدني، الذي بات مكبلا بسبب تطبيق قانون الطوارئ، والذي اعلن عن رفعه بداية يونيو المقبل، لكن ذلك على الأرجح لن يغير من واقع التضييق السياسي والأمني على المجتمع وفعالياته المختلفة.
وتشير التقارير الموثقة إلى quot;وفاة اثنين من (المحسوبين على جسم) الصحفيين أثناء احتجازهما، فضلا عن استمرار الاعتقال والتعذيب والتهديدات التي يتعرض لها الصحفيون ونشطاء حرية التعبيرquot;، كما جاء في بيان موقع من نحو 40 منظمة حقوقية. ويضيف البيان إلى أنه بعد يومين من القبض على كريم فخراوى، أحد مؤسسي صحيفة الوسط، وزكريا العشيري، مدون، فإنمها قد توفيا في ظروف غامضة في السجن.
كما تعرض أكثر من 60 صحافيا بحرينيا للفصل التعسفي والإعتقال والتهديد، إضافة إلى اعتقال فريق أخبار سي إن إن لعدة ساعات، وتقييد الصحفيين الدوليين في تحركاتهم، وطرد المراسلين، آخرهم مراسل وكالة رويترز فريدريك ريشتر، المقيم في المنامة منذ 2008، بسبب ما تسميه حكومة البحرين quot;افتقار رويترز للتوازن في تغطية الحملة الأمنية الأخيرة على احتجاجات المعارضةquot;.
كل ذلك لا يدع مجالا للشك بأن واقع الحريات الصحافية في البحرين بات سيئا للغاية، ولا يمكن المؤسسات الصحافية من القيام بأدوارها التي ينتظرها القارئ، فيما لم يبدو أكيدا سقوط التسوية التي تمت في 2001 بين المعارضة والحكم، ما يوجب البحث عن تسوية جديدة، يرجح أن طبخها يحتاج وقتا أطول مما يعتقد.
صحافي وكاتب بحريني
التعليقات