دعوة نظام الرئيس السوري بشار الأسد إلى حوار وطني، لم تكن مفاجئة أو مستبعدة، خصوصا و أنها تأتي في سياق ما يراه هذا النظام و يرسم سياسته وفقها، حرب فعلية بين طرفين، بين السلطة السورية و جيشها و أجهزتها الأمنية و مجموعات تابعة لها بالغة التطرف الطائفي و الإجرامي ممن يطلق عليهم الشبيحة من جهة و بين أغلبية الشعب السوري الثائرة بشكل سلمي لكرامتها وحريتها، من جهة أخرى.
سمة السلمية التي أسبغها الشعب السوري المنتفض على الاحتجاجات السورية، لم تمنع النظام السوري من أن يتعامل مع موضوع التظاهرات بوصفه تهديدا يستحق مواجهته إشعال حرب حقيقية مكتملة الأركان، من آثارها المعروفة،انه حين يتعذر في مرحلة ما منها،الحسم لطرف على آخر، كما هو حاصل الآن في سورية،بعد فشل الحل العسكري والأمني في القضاء على تلك الاحتجاجات،أن يذهب المتحاربون إلى التفاوض، لكن بعد أن يسعى كل منهما إلى تسجيل انتصارات على الأرض،على حساب الآخر، فيدخل إلى عملية التفاوض بسقف مرتفع و معنويات عالية على حساب خصمه، في هذا الأثر بالذات يوجد ما يفسر لجوء النظام السوري،في الأسبوعين الأخيرين،إلى استخدام العنف الطاغي،و استهداف العزل بالأسلحة النارية، و هدم البيوت المأهولة بالسكان في بعض الأحيان، لقد أراد نظام الرئيس بشار الأسد أن يعمل في مجتمعه القتل وسفك الدماء، أن يعتقل و يروع، حتى يحسن موقعه التفاوضي مع المعنيين بالتظاهرات السلمية و المشتغلين في الحقل العام، لذلك فالتفاوض هي المفردة ذات الدلالة الأصدق و الأبلغ عن ما يسميه النظام حوارا، على أن فهم نظام الرئيس السوري لفشل المعالجة العنفية للانتفاضة المطالبة بالحرية في سورية، و دخول النظام مجبرا إلى عملية التفاوض لا يعني حصول أي تغيير في موقعه أو بنيته و هياكله، و بالتالي مصالحه و إراداته بوصفها العوامل التي ستملي عليه موقفه وسقوفه في المفاوضات المزمع عقدها، و التي ستحدد بدورها الاتجاه الذي ستذهب اليه الأحداث و معها طبيعة المسار الحالي ووجهته و نتائجه.
و لان مصالحه و بنيته تفرضان عليه الالتفاف ما استطاع على مطالب الحركة الاحتجاجية السلمية في سوريا فإن نظام الرئيس السوري بشار الأسد على ما يبدو لا ينوي من خلال دعوته المزعومة إلى الحوار، الانفتاح على الشعب و تحقيق مطالبه الجذرية في الإصلاح، بل سيوظف النظام دخوله تلك المفاوضات، و دعوته إليها، في تحرير صورة للداخل السوري و للعالم الخارجي على حد سواء،تتلخص بأنه يتجه لإحداث تغييرات حقيقية و تطبيق إصلاحات ديمقراطية تلبي حاجة المجتمع السوري و تستجيب لمطالب المتظاهرين، إنه يراهن في إعطائه الانطباع السابق، بالنسبة للداخل السوري، على إحداث الانقسام بين المتظاهرين أنفسهم من زاوية و بينهم و بين قوى المعارضة من زاوية ثانية و بين أطراف المعارضة ذاتها من زاوية ثالثة، في حال حصول ذلك الانقسام، سيتمكن النظام من توظيفه في ضرب حركة التظاهرات السلمية المطالبة الديمقراطية و إضعافها و تصعيب وصولها إلى السقف الأدنى من أهدافها. للصورة التي يرغب تصديرها إلى الداخل السوري أيضا فائدة كبيرة في تقوية مواقف المساندين للنظام و المدافعين عن الوضع القائم وفي تعظيم آثارهم في المجتمع و الشارع،،سواء من هؤلاء الذين يتخوفون فعلا و يتشككون بالمتظاهرين و مطالبهم لأسباب مختلفة،أو من أولئك الداعمين التقليدين المنتمين إما إلى شبكة المصالح المرتبطة بدوائر السلطة أو إلى القطاع الطائفي و المذهبي المعروف بولاء أغلبيته الساحقة إلى النظام و أهله، كل تلك التداعيات ستؤدي في حال حصولها إلى تقويض العوامل المتوقع أن تساهم في مشاركة المترددين أو غير المشاركين حتى الآن في الاحتجاجات الحالية من خلال إشعارهم بعبثيتها و جوانبها الضاربة للسلم الأهلي، لا سيما و أن ما تسعى إليه هذه التظاهرات مع الكلف الباهظة يمكن بالفعل تحقيقه دونها، وفقا لرسالة النظام لهم بالطبع عندما يتبنى الحوار و الإصلاح..!
هذا إلى حد كبير ما يلخص أهداف النظام السوري من دعوته إلى الحوار و تفاوضه مع معارضيه في الداخل السوري، أما ما يريده نظام الرئيس السوري من أثر لدعوته تلك على الخارج فيتلخص وفقا لما يبدو حتى الآن من انعدام الرغبة و الإرادة لديه في إدخال إصلاحات جذرية على نظامه السياسي، في العمل على كسب الوقت اللازم لإخماده جذوة التظاهرات، قبل وصول علاقته مع المجتمع الدولي إلى نقطة اللاعودة والحئول دون اتخاذ مجلس الأمن أو القوى الدولية النافذة إجراءات عقابية بحقه قد تهدد وجوده في السلطة و تقود إلى نهايته سياسيا.
بالنسبة للمفاوضات بحد ذاتها، النظام و دون أن يتوقف تماما عن عمليات القتل و استخدام الجيش في حصار المدن أو دخولها، سيجهد على إدخال المفاوضات المرتقبة في متاهات و تفاصيل و تحديدات تترافق مع امتناعه الإعلان عن سقف زمني تستغرقه عمليات التفاوض،سيوسع ما استطاع دائرة الأطراف التي يريد أن يفاوضها لتشمل الفعاليات الاقتصادية و المجتمعية و الأهلية و ربما الفنية و الأدبية و المثقفين و من ثم المعارضة quot;الوطنيةquot; تلك التي يخضعها مع بقية الفئات الأخرى لتحديداته الذاتية، كل ذلك من أجل أن يتيسر له التعاطي مع المطالب المقدمة إليه، باستنساب شديد يتناغم مع رغبته من أجل الوصول إلى المرحلة التي يتحقق فيها الهدوء و إنهاء التظاهر السلمي من قبل المتظاهرين، و التي تضمن له استمراره في إدارة البلاد وبقائه على وضعه و مواقعه في ذات الوقت. كمحصلة لن ييأس النظام السوري من محاولاته إضعاف القوى الفاعلة في التظاهرات السلمية،سيسعى إلى تفتيتها و ضرب مواقعها و كسر ديناميتها و تعطيل تنظيمها و حراكها ما وسعه ذلك، لن يتورع عن توظيف أسلوب المفاوضات و الحوار الذي دعا إليه مع غيره من الأساليب الدموية من اجل تحقيق ذلك الهدف.
النظام السوري يعتبر أن الحاصل بينه و بين غالبية شعبه هذه الأيام إنما هي حرب حقيقية يشنها على أعدائه، و أن عليه أن يكسبها بكافة السبل المتوفرة،أو يحتويها بأقل الخسائر الممكنة، فهم ما تقدم من المعارضة السورية و من قبل الثوار السلميين و هو ما تدل عليه كافة المؤشرات الصادرة عنهما، يفرض عليهم تعاملا واعيا و دقيقا مع تلك الدعوة،لا بد من رفضها جملة وتفصيلا، إنها دعوة ليس لها أفق، و هي ليست من الحوار في شيء، للحوار مقدمات و شروط لا يبدو أن النظام السوري حريص على توفيرها، هذا إن لم يكن حريصا على العكس تماما من ذلك.
بهذا المعنى، الهدوء أو لجم القتل و العنف على نحو النسبي الذي استخدمه النظام و أجهزته الأمنية ضد المتظاهرين و الحاصل منذ أمد قريب جدا مرشح للتلاشي، و هو ليس في واقع الأمر إلا هدنة مؤقتة و نسبية، في حرب طويلة و معقدة يعد لها النظام، لكن و لسوء حظه لن يكسبها أبدا، لاعتبارات و حيثيات مهمة، لا يتوفر هنا المكان أو المناسبة للمرور إليها و مناقشتها، لكن ما يمكن قوله هنا هو أن النظام السوري سيخسر معركته ضد الشعب السوري بكل تأكيد و حتمية و لو بالمعنى المفتوح للكلمة، ببساطة لأنها معركته ضد التاريخ الظافر لتحقق الحرية في سورية و المنطقة.
رئيس حزب الحداثة و الديمقراطية لسورية
- آخر تحديث :
التعليقات