بعد انطلاق اول مظاهرات ساحة التحرير في بغداد، كتبت مقالة وصفت بها الاحتجاج بانه بلا هوية. البعض من حسني النية اساءوا فهم ماعنيت، ربما لانهم اكتفوا بقراءة عنوان المقالة، واحدهم كتب مستنكرا : لقد كانت هويته هي الاحتجاج.

ببساطة، ان احتجاجا هويته الاحتجاج لايمكن ان يكون احتجاجا..
ان تحتج يعني ان تعلن رفضك وان تطالب بالتغيير وان تستخدم الاحتجاج كوسيلة ضغط لتحقيق هذا التغيير. واليوم مع دخول العطلة البرلمانية اسبوعها الثاني حيث معظم النواب يسيحون في الخارج للقاء quot;ناخبيهمquot;، ليس بوسعنا سوى القول ان الاحتجاج كان فاشلا، لانه لم يحقق اي من اهدافه.

ربما تبدو سلطة الدولة في العراق اليوم اكثر ضعفا وهشاشة بكثير من سلطة الانظمة الامنية في مصر وتونس وسوريا، لكن طبيعة التحدي الذي يعيشه المواطن العراقي تختلف بما كان يتطلب معه ان يكون الاحتجاج قائم على منظور مختلف. الاحتجاج هو سلاح المجتمع في مواجهة سلطة جائرة او غير مبالية، وبالتالي هو وسيلة المهمشين للضغط من اجل التغيير. الاحتجاج بحاجة لأن يكون قويا ومطاولا وهادفا ومخيفا للاقوياء، فهؤلاء لن يغيروا شيئا ان لم يشعروا بالخوف.
اولى مشاكل الاحتجاج هو انه قابل للتحول الى عربة يصعد فيها من لاتحركهم تلك المطالب ولايعنيهم نظام سياسي اكثر ديمقراطية ونظام اجتماعي اكثر عدالة بقدر ماتحركهم دوافع اخرى. لاشك عندي ان الشعب الايراني عندما ثار عام 1979 كانت دوافعه تحقيق العدالة والحرية، قبل ان تصبح ثورته مطية لسلطة الفقهاء يحكمون باسم الغيب لا باسم الشعب. ولاشك عندي ان مطالب مشابهة قد دفعت المصريين والتونسيين الى ساحات الاحتجاج، دون ان يعني ذلك ان انتفاضتيهما لن تكونا مطيات يركبها الاسلاميون وسواهم، وبدلا من ان تصبحا مقدمة لنظام سياسي واجتماعي ديمقراطي وعادل قد تسلما البلدين الى انظمة اقصائية من نوع اخر، او الى حروب اهلية صغيرة تعتاش على الكراهية الدينية والطائفية.

من السهل ان يشعر الانسان بالسخط، والمهمشون والمضطهدون الذين لايحركهم مثل هذا الشعور والرغبة بحياة افضل هم غالبا من النوع الذي ترسخت في ذهنه عقيدة الاقوياء التي تصور له انه دونهم منزلة ولايستحق ان يسائلهم عن مالديهم من سلطة وثروة. ولكن اكبر تحدي يواجهه الانسان الساخط هو عندما يكون عليه ان يفهم اسباب سخطه وان يضعها في سردية محددة تقدم جوابا للسؤال: لماذا نحن مهمشون او مضطهدون.

هنا يجد الساخط اجوبة مختلفة ويغدو الاختيار بينها هو الذي يحدد طريقه. يقول ارنست غيلنر انه مع انطلاقة اولى مطالب الشعوب الاوربية بالمساواة، كانت هنالك عقيدتان تتبلوران لتعبرا عن تلك المطالب، القومية والاشتراكية. الاولى ارادت من الناس ان يشعروا بانهم متساوون بانتمائهم الى quot;امةquot; واحدة ذات لغة وثقافة (واحيانا رسالة) واحدة، وان مطالب المساواة والعدالة لايمكن التعبير عنها الا عبر هويتها القومية، والثانية نحَت الثقافة جانبا، وجادلت بان التهميش الذي يستشعره الانسان، اي انسان، في مجتمعه مقترن باللامساواة الناتجة عن استئثار اخرين من ذات المجتمع، وربما من نفس العرق واللون والدين، بالسلطة والامتيازات وبنائهم quot;دولةquot; وظيفتها اعادة انتاج النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي يؤبد تفوقهم. انها الطبقة قبل كل شئ. وهذا التصور غير معني بتاتا بالهوية الطائفية او الدينية او القومية للمستفيد كما للمهمش، ففي العمق هنالك معادلة راسخة طرفاها المستفيد والمتضرر.

فشل الاحتجاج العراقي حتى هذه اللحظة، اولا في ان يتحرر من تأثير الاجندات الطائفية والقومية، وثانيا في ان يطرح منظور عملي يقوم على سؤال واضح وجواب واضح : ماهي المشكلة وماهو الحل. معظم وسائل الاعلام التقليدي والالكتروني المعنية بالشأن العراقي اليوم هي جزء من منظومة الصراع السياسي الذي تحكمه التنافسات الطائفية والقومية والاقليمية، جزء كبير من هذا الاعلام ممول من اطراف خارجية او دول اقليمية او احزاب سياسية وبالتالي يعبر عن ملامح الصراع السياسي الراهن حيث السلطة او اكبر قدر منها هي الغاية. هذا الاعلام يحاول ان يتعامل مع اي حدث، بما في ذلك الاحتجاجات، من زاوية المصلحة السياسية التي يعبر عنها، ولذلك فانه غير معني بمطلب المواطن العادي، او من اسميه بـ quot;المحتج النقيquot; الذي يعبر عن السخط الاجتماعي الحقيقي على الاهمال والتجاهل والاقصاء والتهميش بمواجهة طبقة سياسية اخذة بالتحول تدريجيا الى اوليغاركية متعددة الاعراق والطوائف والايديولوجيات، تريد ان تفرض ابجدية صراعها على عموم المجتمع مهمشة سخط ومعاناة العاطل الباحث عن عمل، والفقير الساعي لاطعام عائلته، والمنكوب الباحث عن دولة تحفظ ماتبقى من كرامته. تحاول تلك الطبقة السياسية ان تفرض قاموسها هي، فلاتغدو المشكلة هي معاناة هؤلاء بل الاوزان النسبية للاعبين السياسيين في صفقة الحكم، يسايرها في ذلك اعلام تأسس على هامش صراع الاقوياء، وظيفته تمثيل خطاباتهم والتعبير عن مصالحهم والطعن بخصومهم، احيانا بدموع تماسيح يذرفها على الفقراء والمحرومين. الا نتذكر ان الكثير من احزاب السلطة الراهنة صعدت الى عليائها الراهن باسم المحرومين؟

في ظل هذا المشهد تجلى اسفاف الراكبين موجة السخط ليجعلوا الرؤية اكثر تشوشا حينما بدا ان الانتقال من جنة الاوليغاركية في المنطقة الخضراء الى عالم المحتجين في ساحة التحرير لايتطلب سوى عبور جسر الجمهورية. يضيع صراخ quot;المحتج النقيquot; عندما يتقمص رجال السلطة خطابه فيحولون صوته الى اداة ضغط في صراعهم مع بعضهم، فينتهي احتجاجه الى نتائج مغايرة تماما لاسباب انطلاقه.

خرج شباب الموصل متظاهرين غاضبين حد احراق مبنى المحافظة، لم يخبرنا الاعلام المنهك بتفسير اي شئ يحصل في العراق بطريقة تخدم quot;صاحب الامتيازquot;، ماالذي اراده شباب الموصل، ماكان مطلبهم تحديدا، ولماذا وجد بعضهم برفع العلم السابق وسيلة للتعبير عن هذا المطلب، لماذا احرقوا مبنى المحافظة، وكيف بين ليلة وضحاها انضم المحافظ اليهم؟. ان يعبر المحافظ من مكتبه في المبنى المحترق الى ساحة الاحتجاج، ان يكون من السهل تماما تغيير المعسكر من الضد الى الضد، يعني اننا امام تشوش كبير حيث يمكن ببساطة خلط الشكاوى الانسانية المشروعة بالترهات القومية والطائفية فيتحول المحتج النقي الى اداة في صراع امراء الطوائف ومندوبي الاستخبارات الخارجية. يشبه الامر كثيرا عبور بعض النواب الى ساحة التحرير في بغداد وانضمامهم الى المحتجين وكأنهم متحررين من مسؤولية فشل مؤسسة هم مدرائها.

الكثير من الساخطين في الموصل سقطوا ضحية المروية الطائفية الشوفينية التي تخبرهم ان معاناتهم ستنتهي بالتخلص من حكم quot;الشروكية والايرانيينquot;، تماما كما ان الكثير من اهل الجنوب امتنعوا عن الاحتجاج لانهم أُخبِروا بان احتجاجهم سيقود لعودة البعثيين. الم تكن اعداد المشاركين في مظاهرات دعم الشعب البحريني (وهو يستحق كل الدعم) في المدن الشيعية اكبر من حجم الاحتجاج المدفوع باسباب عراقية. هل يعني ذلك شيئا غير ان تمزقات الهوية عندنا اعقد من ان تحل بالخطاب الساذج المتعالي على الواقع والسابح في رومانسية quot; الوحدة والتضامنquot; تلك التي باسمها يتم شتم الملايين ووصفهم بالتخلف لأنهم لم يجاروا quot;عبقريةquot; من الذين يخفون وراء quot;وطنيتهم الرنانةquot; روحا تضيق بأي مغايرة لما يعتقدون بصحته. |

عندما تتقمص مواقع الكترونية ووسائل اعلام معروفة بنزعاتها العنصرية والطائفية وتبعياتها لاطراف خارجية دور المعبر عن صوت الاحتجاج، يغدو من السهل مصادرته لصالح تلك الاطراف على حساب صوت quot;المحتج النقيquot;.

الاحتجاج لابد ان يعلن مسبقا عن المشكلة ويطرح لها حلا، فينجح في استقطاب اولئك المهتمين بتلك المشكلة والمؤيدين للحل الذي يطرحه، واما اصحاب الهواجس الطائفية او القومية او الحزبية فيذهبون مع من يشاركهم سخطهم الطائفي او القومي او الحزبي، مما يحرر المحتج النقي من ان يصادر صوته او يشوش ليخدم غايات لاتعنيه. سيكون ذلك ممكنا بتحديد هدف واضح ومعلن ومحدد مهما كان صغيرا ومتواضعا، فالطبقة السياسية تخشى الوضوح وتستثمر الضبابية والتشويش. ليكن مثلا احتجاجا ضد الرواتب والامتيازات الضخمة للمسؤولين التنفيذيين والبرلمانيين، وليكن مثلا من اجل تغيير القانون الانتخابي بما يضعف سلطة الاحزاب الراهنة، وليكن مثلا للمطالبة بالغاء منصب نائب الرئيس، او بانتخابات مبكرة. هذا النوع من المطالب لايمكن التشويش عليه، وسيكون النجاح بتحقيقه مدخلا لمطالب اخرى، فتراث الاحتجاج العالمي حافل بعبارات اخرى غير quot;الشعب يريد اسقاط النظام quot;. دعونا لاندعي تمثيل الشعب بلا تخويل، ونقول مانريد بعد ان نعطي انفسنا اسما ولانختفي وراء تلك الكلمة الكبيرة الخالية من المسمى : الشعب.
السياسيون يدعون جميعا انهم يريدون التماهي مع مطالب الشارع، لكن ان عجز الشارع عن صوغ مطالبه بلغة واضحة تجعل من المستحيل عليهم عبور الجسر الى حيث الاحتجاج، سيكون بامكان كل منهم ان يدعي انه مع مطالب المواطنين، لم لا مادام المواطنون لايمتلكون مطالب واضحة.

الطبقة السياسية العراقية تميل الى التعميم والتعويم، سلاحها عدم الوضوح، واللعب على كل حبل متدل، بهذه الطريقة يكون السياسي سياسيا في غابتنا الجدباء. لكي نحتج من اجل حقوقنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يجب ان لاندلي بالحبال لهم، لانلعب لعبة التعميم والتعويم، ونقول بالضبط مانريد، عازلينهم جميعا في جنة الاوليغاركية، فربما تلك هي الطريقة الوحيدة لكي نوحدهم على هدف، فوحدتهم ضرورية لنفهم حقيقة المشكلة وليغدو صعبا على نداءات التآزر الطائفي او العرقي من ان تخترق صفوف الساخطين من اجل العدالة. وحدة الطبقة السياسية ضرورية لوحدة المحتجين، فاحتجاج لايوحد الطبقة السياسية سيوظف في صراع اركانها مع بعضهم حول من يأخذ اكثر، صراع يريدون ان يوحوا عبر خطاباتهم بانه صراع يمثل quot;المجتمعquot;، عبر اعادة تعريف الاخير من كونه مجموع لافراد لهم حقوق سياسية واقتصادية واجتماعية، الى مجموع لطوائف واعراق واقاليم لاتعرف لغة غير لغة القطيع حيث الجميع متساوون في انهم لايمتلكون وجودا مستقلا عن هذا القطيع.