قتلوها! هكذا بكل بساطة قطعوها باستبداد، وأنهوا تنفسها المتواصل وحفيف أوراقها الخضراء. أشجار عتيقة في حيَنا، كنا نراقب ما سيحدث لها أنا وزوجي وأولادي كلما مررنا بموقع تعمير فيلا كبيرة على الطريق إلى النهر. كنا ننظر إلى الأشجار الباسقة التي مكنتها كهولتها أن تزداد شموخا وضخامة. وهي كانت تنظر إلينا وتستعرض بلطف حميم تجاعيدا تشد العيون لتفاصيل لغتها الساكنة، بينما تخبئ داخل التفافاتها ذكريات السنين.كل شجرة في حارتنا لها شخصيتها المستقلة. فرغم تعدد أنواعها وأديانها وطوائفها إلا أن كل واحدة منهن لها شخصية مميزة لن تتكرر في تاريخ الكون. تقاطيع جذعها وطريقة امتداد أغصانها بانتظام فوضوي تجعلها حدثا فريدا لن يتكرر. كل واحدة منهن بصمة خضراء على تضاريس الكوكب. كل شجرة حية تتنفس وتتفاعل وتخبئ الذكريات بحياء داخل قلبها الأبيض. كيف يقطعونها بحجة فسحة صناعية. يا لهم من مجرمين مترفين. بالأمس كنا نتمشى في الحي وكانت صديقتي السورية الشابة، المعمارية والفنانة التي تهتم بالبيئة، ميسان مأمون، بجانبي ونحن نمر من موقع المجزرة، فلم أتمالك إلا أن ذكرت لها المأساة وافتقادنا للأشجار، فتألمت و تفاعلت معي. وقالت إن فن المعمار ليس الذي نبنيه بتدمير ما حولنا، ولكن فن المعمار الحقيقي هو فن التفاعل مع المحيط وفن تفعيل الحياة. لما نظرنا باتجاه موقع المجزرة، قالت كان يمكن أن يتأقلموا مع الأشجار بدل أن يقطعوها ويصمموا البيت حولها. ولكن كما ظل زوجي يكرر خلال الأيام الماضية كانت الأشجار بعيدة عن العمار الذي كنا نرى تطوره كلما خرجنا للتمشي في المساء. كانت صديقات الحياة بعيدة عن البيت الجديد بما يكفي ليكفوا أيديهم عنها. ربما ما أغضبنا أننا سنرى فسحة خضراء صناعية مكان تلك الحكيمات الخضروات، صديقات الحي الوفيات. مجزرة بيئية من أجل شخص استيطاني مترف. وقعت على كلماته تلك مع بدء الثورات العربية. تنفست بعمق حينها وتنهدت. رغم كل الاهتمام البيئي في كندا، تظل أخطاء بيئية كبيرة تحدث، لأن الوعي البيئي على الكوكب كله في بداياته، و له درجات إلتزام مختلفة أيضا. أسميها إلتزام، وبعضهم قد يرى تفكيرنا تطرفا. وسأقدم لكم مثالا ولكل منكم أن يحدد موقعه من إعراب وضعه البيئي (فأنا أعتبر نفسي معتدلة ولكن من يقطعون الأشجار سيكون لهم رأي مختلف). في الحي الذي كنت أعيش فيه سابقا قبل سنوات، قامت البلدية بإبادة جماعية لقسم رائع من غابة جميلة مكتظة بأشجار كبيرة على طرف شبه جزيرة في الجنوب الغربي من المدينة. لماذا؟ حتى يفتحوا سوقا صغيرة، بني البشر الاستيطانيين، وذلك لتنافس السوق الصغيرة التي قبلها بشارعين. آآآآخ. ولك، كم بنطلون وقميص تحتاجون؟ وكم كركوبة تريدون جمعها على طاولاتكم؟ ألا يكيفيكم ما عندكم؟ تلك كانت إبادة جماعية لمجتمع كامل من أشجار رائعة لدعم بعض الكراكيب. والآن جيراني ارتكبوا قتل أشجار كان يمكن أن تعيش وتزيد منظر بيتهم جمالا. طبعا رغم الأخطاء، ما يزال الوعي البيئي الكندي يتمتع بمحاسن. فقد حرصت مدينة مونتريال على الحفاظ على غابة الجبل الملكي الكبيرة في وسط المدينة والتي هي بمثابة الرئة التي تنقي الهواء بينما تصحرت مدن عربية كثيرة من داخلها وخارجها. وتقوم حاليا بتحويل حافلات النقل العمومي إلى أنواع تستعمل الطاقة الكهربائية، وخطوات أخرى عديدة أتمنى أن أرى مثيلاتها يصير من أوليات مجتمعات المنطقة العربية. هذا ليس حلما أو خيالا. هذا هو الوضع الطبيعي الذي علينا تحقيقه والوصول له بسرعة كبيرة بعد سقوط النظام في سوريا... عندنا قفزات ضفادع تنتظرنا. لن نمر بمراحل بل سنقطع مراحل. سنقفز من فوقها، سنختصر المعاناة وسنختزل الزمن، نحن وكل الضفادع السورية الخضراء. ولأني رأيت المراحل الأسطورية التي قطعها الشعب السوري في أربعة أشهر واختزاله أحيانا عمل أربعين عاما في ساعات، صرت آمل أن تكون سوريا بداية السلام العالمي بين بني الإنسان، وأن تكون هي الأولى التي تقدم أبجدية السلام العالمي وتنهي عهد قتل الإنسان وتقدم أبجدية أخلاقية جديدة كما فعل أجدادنا وقدموا أول أبجدية كتابية للإنسانية. وعندها سيبدأ تاريخ فجر جديد على هذا الكوكب، لأنه حينها نحن والضفادع والأشجار والنمل والأزهار سنعيد السلام فيما بيننا في سوريا وعلى بقية الكوكب. وعندها سنسمع أحلى سيمفونية سلام من أرق حفيف وأروع نقيق.
ليوناردو دافنشي في بدايات عصر النهضة كان كتب أنه سيأتي يوم في المستقبل يسبب قتل حيوان انتفاض الناس وهز ضميرهم.
اليوم عندما كنت أحدث أختي أروى بما حدث لصديقاتي الخضراوات الباسقات، قالت، سيأتي يوم في المستقبل يسبب فيه قطع شجرة نفس الارتكاس الذي يسببه قتل إنسان. لم تكن تعرف كلام ليوناردو. كان ليوناردو سيسر لكلامها، ولأننا عبر القرون نتواصل لنوسع دائرة الحياة وقداستها. قالت لي كيف يقتلون كائنا حيا عاش مثل البشر سبعين سنة. ولكن تلك الأشجار في حينا، قلت لها، كانت أعمر وأقدم بكثير. وأنا في لحظتها نظرت نحو الأشجار التي تقف في الطرف الخلفي لحديقتنا، فانتابني شعور بالحنو تجاهها، وحدقت فيها كثيرا. لا أريد أحدا أن يلمس هذه العملاقات التي تقف بيننا أنا وجارتي العجوز النرويجية فيسلمار. هذه الأشجار صديقاتي، وهي أول شيء أحب النظر إليه عندما أفتح عيني في الصباح، صيفا أو شتاءا. محملة بأوراق خضراء، أو عارية تتلحف ببياض الثلج. أراها من غرفة نومي، من حمامي، من مطبخي. هي تعرف أخباري كلها. نتحادث ونتجاذب أطراف الحديث لسنوات. وهي كانت قبلي هنا، وستبقى بعدي كثيرا إن لم يأت أحد بفكرة تقدمية لتطوير الحي والقضاء على أجمل كائناتها. نعم أنا رجعية. فأنا أريد أن تعيش هذه الأشجار ولا أريد quot;التطويرquot; وquot;الحداثةquot; ولا كل الخراب الذي يأتي مع هذه الكلمات التي في أكثر الأحيان أشد خواء وتلويثا من بوري صوبية... ذكرني كل هذا بقطع الأشجار التي زرعها خالي وخالتي على أطراف الطريق في قريتنا في الجولان في سوريا، والتي قامت بقطعها الدولة -نفس الدولة التي تقطع الطرق بين المدن وتقتل مواطنيها الآن- من أجل تعريض الطريق ووضع رصيف كبير في قرية بسيطة صغيرة كانت أجمل بطريقها الريفي الصغير، الذي لم يكن يشكو حتى من تشققات. ولكن تعريض الطرق في الدول الشمولية أفضل صرف لميزانيات مسروقة من وضع هذه الأموال في إعمار مكتبات أو مشاريع تشجير أو برامج لتفعيل العمل الجمعي الثقافي أو الحراك السياسي.
يقال لنا دائما في لحظات الحنين الماضوي العروبي أن هارون الرشيد كان يأتي من بغداد للرقة لا تمسه الشمس من كثافة ظل الأشجار على quot;الهاوي ويquot; العباسي. لا يهمني أمر الرشيد كثيرا الآن. ما يهمني أن يصبح الطريق من بغداد لدمشق مخضرا مفتوحا لا يمرر السلاح والإرهاب، بل الاوكسجين والظل والجمال. اليوم قبل الغد. وأن تصير سوريا رمز الأمان لمن حولها.
أقول لكم هذه الخواطر، لأن قطع هذه الأشجار الباسقة في الحي ولو أنها كانت قليلة هز ضميري وأزعجني بشدة، هذه والقصص التي قبلها. هنا في كندا وفي سوريا، ولن أدخل الآن في المجازر والإبادة الجماعية التي تحدث لغابات الأمازون، لأنه حينها لن ننام هذه الليلة، لقد خرجت مني تنهدة كبيرة لمجرد كتابتي لهذه الجملة وتذكري لتلك البقعة التي هي بمثابة إحدى رئتي الكوكب. أحببت أن أكتب لكم هذه الخواطر، لأن هذه هي القضايا التي يجب أن تؤرقنا في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين: حقوق الحيوان والنبات وحقوق الغابات والأشجار الباسقات. هذه يجب أن تكون همومنا. أليس عارا أننا في عام ٢٠١١ ما يهز الضمير السوري هو قطع جذوع البشر وليس الشجر. أليس عارا أن الضمير العالمي في سبات شتوي بينما نحن في صيف اشتد قيظه الدكتاتوري. آخ، و٢٣ مليون آخ. ولكن أنا لا أتحدث عن خيال وأحلام. أنا أتحدث عن واقع اقترب تحقيقه، وبدأنا نشم نسمات ظلها يهفو إلينا. وهذا ما أريد أن أراه في سوريا الجديدة، وهذا ما سأعمل له، وهذا ما سأدعو بعضنا لنحققه، أن تكون حياة الأشجار مقدسة نتجادل فيها لأن دماء البشر وكرامتهم قد صار مفروغا من قداستها. أريد أن تكون مشاغباتي السنوات القادمة في سوريا عن ضرورة الاخضرار للأراضي السورية، وليس عن أزمة الاحمرار من دماء الشهداء النقية.
ما زلنا ننتظر اليوم الذي ينتهي فيه قتل الإنسان من هذا الكوكب يا ليوناردو. ونعتذر لك أنه لم يتحقق بعد. ولكنه قادم قريبا، وقريبا جدا...ولا تتفاجأ يا ليوناردو إن كان السوريون هم من ينجح في شد البشرية لعهد جديد.
- آخر تحديث :
التعليقات