النظام القانوني هو مجموعة القواعد المشرعة التي تلزم جميع سلطات الدولة والشعب على تطبيقها. ويحتم النظام القانوني وجود سلطة قضائية للنظر في جميع الخصومات حول احكامه وتكون قراراتها ملزمة للجميع، لذا فان النظام القانوني والقضائي مترابط لا يقبل الفصل او التجزأه.

ولاجل ان يكون النظام القانوني شرعيا، لابد ان يعكس ارادة الشعب من خلال ممثليه الحقيقيين، لتحقيق احترامه واستمراريته، وليس ارادات فردية او فئوية او طائفية او عرقية معينة حتى اذا كانت تشكل الاغلبية في المجتمع لانها ستسحق روح المواطنة لدى الافراد.

ويعتمد النظام القانوني بشكل كبير على طبيعة النظام السياسي السائد في الدولة، فهو من اهم وابرز سمات الدولة ومعايير تطورها وتقدمها ووضع حقوق الانسان فيها، وهو القاعدة الاساسية للبناء والتنمية وحماية حقوق الانسان سواءا كانت حقوقا دستورية او مدنية او جنائية او غيرها.

كما يعد النظام القانوني المرتكز الاساسي للنظام القضائي في البلاد الذي يهدف الى اظهار الحقيقة واحقاق الحق ونشر العدل وتطبيق العدالة ودحر الظلم. فالنظام القانوني هو المراة العاكسة لطبيعة النظام السياسي السائد في الدولة. ان الانظمة الديمقراطية الليبرالية هي اختيار الشعب لممثلية في البرلمان على اسس المواطنة الخالصة، فهي تنتج نظاما قانونيا يلبي حاجات المجتمع المتطورة ومتطلبات الحياة المتجددة وما تقتضيه حركة المجتمع المستمرة.

اما في الانظمة الدكتاتورية، ومختلف اشكالها، فان ما يدعى فيها بquot;النظام القانونيquot; هو اختيار الحاكم المستبد او الحزب القائد او الطبقة او الطائفة او القومية الحاكمة والمتسلطة، مما نجد معها هوة كبيرة بين حاجات ومتطلبات المواطنيين وما يفرضه الحكام باطر quot;قانونيةquot; تعبر عن نزعاتهم وسلوكهم الدكتاتوري.

ومهما كانت طبيعة تلك الانظمة السياسية فهي تعتمد الدستور لتحديد ملامح النظام القانوني والسلطات في الدولة مع الاختلاف الكبير في كيفية وضع الدساتير.

وفي العراق، يتمتع النظام القانوني بارث حضاري غزير ما قبل الاسلام وما بعده، ولا بد من القاء نظرة مختصرة على هذا الارث الحضاري التأريخي المعروف والمخلد بين أمم العالم.
فقد شهد العراق ولادة اول الشرائع في العالم، كشريعة اورنمو (2365-2357ق.م)، وشريعة لبت عشتار (1934-1923ق.م) وشريعة حمورابي (1792-1750ق.م). و شريعة حمورابي المنحوتة على مسلته الشهيرة الموجودة حاليا في متحف اللوفر بباريس تحتوي على 282 مادة قانونية تتعامل مع مختلف شؤون الحياة المدنية والجزائية. وقد وضعت هذه الشريعة بعد ان استطاع الامبراطور حمورابي من بسط نفوذه على دويلات واراضي واسعة تمتد من بلاد الشام وسواحل البحر الابيض المتوسط وغيرها من المناطق، واستفاد في وضع شريعته من جميع الشرائع التي سبقته. وكانت شريعة حمورابي تعتبر الفريدة من نوعها واحدث ما انتجته تلك الحقبة الزمنية من التأريخ الانساني.

وبعد ظهور الاسلام قبل حوالي 1400 سنة وفتح العراق، ساد النظام القانوني الاسلامي المستند على احكام الشريعة الاسلامية (القران والسنة النبوية وباقي مصادر التشريع في الفقه الاسلامي). ومع اتساع رقعة الاسلام ونشوء الدولتين الاموية والعباسية، اختلف النظام القانوني والقضائي عما كان عليه في صدر الاسلام، فنشأت المذاهب الفقهية، وكان للعراق النصيب الاوفر منها ومن مدارسها الفكرية. وابتدع العباسيون نظام :قاضي القضاةquot; وهو مازال سائدا لحد الان في بعض الدول الاسلامية، ويعد بمثابة رئيس السلطة القضائية، حيث يناط اليه امر تعيين القضاة في الاقاليم والامصار.

وبعد سقوط الخلافة العباسية وخضوع العراق الى سلطة الامبراطورية العثمانية، استمر النظام القانوني والقضائي على اعتماد مبادئ الشريعة الاسلامية، وما تسمى quot;بالمجلةquot; وهي مجموعة من القواعد التي تنظم الاحكام الكلية وقواعد العقود والملكية وغيرها من الحقوق والالتزامات بالاضافة الى التشريعات الخاصة التي كانت تفسر من قبل نخبة من الفقهاء وفقا لفقه ابي حنيفة. وكانت القوانين الجزائية العثمانية هي المطبقة في عموم ولايات العراق وتحت سلطة الولاة والقضاة العثمانيين.
ولغرض ايضاح طبيعة النظام القانوني والقضائي منذ نشوء الدولة العراقية الحديثة بعد الاحتلال البريطاني للعراق و لحد الان ساقوم بتقسيمها الى المراحل التالية:

المرحلة الاولى: مرحلة الاحتلال البريطاني والعهد الملكي (1917-1958)
بعد سقوط الدولة العثمانية نتيجة للحرب العالمية الاولى سنة 1914 والاحتلال البريطاني للعراق عام 1917، اصدر القائد العام لقوات الاحتلال البريطاني جملة من القوانين والانظمة والاوامر (نظام قانوني للمحتل) لادارة شؤون البلاد ومنها قانون العقوبات البغدادي وقانون اصول المحاكمات البغدادي لسنة 1919، لتحل محل القوانين الجزائية العثمانية، واستمر العمل بهما لحين صدور قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 وقانون اصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971. اما في الشؤون المدنية فقد استمر العمل باحكام المجلة العثمانية ولحين صدور القانون المدني لسنة 1951 الذي اسهمت في وضعه لجنة من كبار فقهاء القانون وكان على رأسهم العلامة المرحوم عبد الرزاق السنهوري. وكانت مصادر هذا القانون، هي مجلة الاحكام العدلية العثمانية والقانون المدني المصري والفرنسي، كما اخذ من مختلف المذاهب الاسلامية، وما زال هذا القانون يعمل به حتى يومنا هذا رغم مضي اكثر من نصف قرن على صدوره لما يتمييز به من فنون في الصياغة ومعالجة شاملة للالتزامات والحقوق وغيرها من المعاملات المدنية على اسس صلدة من الانفتاح.

وقد اقر المجلس النيابي التأسيسي المنتخب، القانون الاساسي (الدستور) لسنة 1925 الذي حدد ملامح النظام القانوني في العراق، وقد منح هذا القانون جميع التشريعات التي اصدرها القائد البريطاني، قوة القانون، لحين تبديلها او الغائها من قبل السلطة التشريعية (البرلمان).
وأشارت المادة 28 من القانون الاساسي بان quot;السلطة التشريعيةquot; منوطة بمجلس الامة مع الملك، ويتالف مجلس الامة من مجلس الاعيان والنواب، وللسلطة التشريعية حق تشريع القوانيين وتعديلها والغائها.

ويجري انتخاب اعضاء مجلس النواب من الشعب مباشرة، اما مجلس الاعيان فيتم تعيينهم من قبل الملك ممن نالوا ثقة الجمهور، وممن لهم ماض مجيد في خدمة الدولة والوطن، كما نصت على ذلك المواد 31-38 من القانون الاساسي.

كما نص القانون الاساسي على بعض المظاهر الديمقراطية لنظام الحكم، كاستقلالية السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وان المحاكم مصونة من التدخل في شؤونها، وللمحاكم حق مقاضاة جميع الافراد في الدولة بغض النظر عن مكانتهم الوظيفية والاجتماعية، ويحق مقاضاة الحكومة العراقية.
ونص القانون الاساسي على انشاء محكمة دستورية عليا للبت في تفسير القوانيين ومدى موافقتها لاحكام القانون الاساسي، بالاضافة الى محاكمة الوزراء واعضاء مجلس الامة عن الجرائم المتعلقة بوظائفهم (المادة 81)، وتبعا لذلك فان المحاكم العادية هي المسؤولة عن مقاضاتهم عن الافعال التي لا علاقة لها بوظائفهم.

وبالرغم من وجود بعض السلبيات في اسلوب الانتخابات، حيث كانت تزيف من خلال تنظيم قوائم النواب من قبل رئيس الوزراء والداخلية والبلاط الملكي، الا انها كانت اول تجربة دستورية في تأريخ العراق الحديث، وكانت بعيدة الى حد كبير عن المحاصصات الطائفية والاثنية، اذ كان الاساس في الترشيح والانتخاب وتقلد المناصب والوظائف يعتمد في الدولة على المواطنة بالدرجة الاساس.

اما القضاء العراقي فكان هناك quot;مجلس قضاء اعلىquot; يرأسه رئيس محكمة تمييز العراق لادارة شؤون القضاة المهنية، كالترقية والنقل والانضباط وحمايتهم من تدخل السلطة التنفيذية (وزارة العدل). ورغم ارتباط القضاء العراقي في وزارة العدل، الا ان القضاة كانوا يتمتعون بقدر كبير من الاستقلالية الذاتية، ونتيجة لذلك فان القضاء العراقي قد حقق في تلك الحقبة من الزمن، قفزة نوعية في تطوبر النظام القانوني من خلال الرقابة على دستورية القوانين وتفسيرها، بما يخدم تطبيق العدالة، وكان تأريخ القضاء العراقي في فترة الحكم الملكي، يعج بالسوابق القضائية، ويتميز بالشجاعة في اتخاذ القرارات التي تؤشر على مدى استقلالية القاضي ومساهمته في تطوير النظام القانوني. ولا بد هنا من الاشارة الى شجاعة واستقلالية احد القضاة وهو القاضي احمد الطه الذي كان مشرفا على التحقيق في احداث اضراب عمال النفط في كركوك (كاورباغي) في تموز 1946 والتي راح ضحيتها 16 شهيدا و حوالي 30 جريحا. وجاء في قراره، بان المتظاهرين قد استخدموا حقهم القانوني للمطالبة بحقوقهم، وكانوا عزلا من السلاح، وان الشرطة قد تجاوزت عليهم بشكل غير مقبول، وان معظم القتلى والجرحى اصيبوا من الخلف، وان الادارة قد تجاوزت صلاحياتها في حجز البعض من المتظاهرين. ونتيجة للتحقيق قرر القاضي المذكور، اطلاق سراح جميع المتظاهرين المحتجزين، واتخاذ التعقيبات القانونية بحق quot;متصرف لواء كركوك ومدير شرطة اللواء وعدد من ضباط ومفوضي الشرطة لاخلالهم بواجباتهم وتسببهم في قتل وجرح المتظاهرينquot;.

كان النظام الملكي وما تمخض عنه من نظام قانوني وقضائي يتمييز بقابليته للتطور والاصلاح لان العملية السياسية كانت مبنبة على اسس سليمة (معيار المواطنة)، ولو كتب للنظام الملكي بالاستمرار، لرأينا العراق وشعبه ينعم بالاستقرار والتقدم والعيش الرغيد بعد عمليات الاصلاح، لما له من موارد اقتصادية هائلة تتمثل ببحر من النفط ونهري دجلة والفرات والعتبات المقدسة والاثار العملاقة التي لا تخلو منها مدينة.

المرحلة الثانية: مرحلة الانقلابات العسكرية (1958-1968)
ان احتدام الصراع والحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي كان في أوجه في منتصف القرن الماضي، مما تسبب في اشعال الروح الثورية لدى الشباب ولا سيما ان الانظمة الرأسمالية والدول التي تدور في فلكها كانت تستغل الطبقات العمالية بساعات عمل طويلة واجور عمل زهيدة وبدون تقديم اي ضمان اجتماعي للطبقات المحرومة من العمل، مما شجع ذلك على حدوث الثورات والانقلابات العسكرية في مختلف دول العالم ومنها العراق.

وقع الانقلاب العسكري في العراق في 14 تموز 1958، الذي الغى القانون الاساسي لسنة 1925 بهدف تنظيم المجتمع على نحو جديد وبغطاء لنظام قانوني ينسجم مع اهداف الانقلاب. وقد اصدر قادة الانقلاب، الدستور المؤقت لسنة 1958 الذي اعد على عجل وبشكل مقتضب جدا واعلن ان النظام السياسي في العراق نظاما جمهوريا. وقد قتل افراد العائلة المالكة بشكل انتقامي ووحشي لا مبرر له، كما قتل ومثل بجثث البعض منهم وكرئيس الوزراء نوري السعيد والامير عبد الاله.

وكأي ثورة او انقلاب، فان الشرعية الدستورية تأتي من التسميات التي يطلقها قادة الانقلاب quot;كمجلس قيادة الثورة او المجلس الوطني للثورة..وغيرها من التسمياتquot; باعتبارهم قاموا بهذا الانقلاب اوالثورة تلبية للارادة الشعبية في التغيير، ومنحوا لانفسهم الحق في اصدار الدستور المؤقت والتشريعات كغطاء لنظام قانوني جديد.
وبموجب الدستور المؤقت تم دمج السلطتين التشريعية والتنفيذية بسلطة واحدة هي quot;مجلس الوزراءquot; الذي خول اصدار التشريعات بقوة القانون، كما اعطى هذا الدستور الحق للقائد العام للقوات المسلحة صلاحية اصدار الاوامر والقرارات والمراسيم التي لها قوة القانون ايضا.

واستمرت السلطة القضائية على وضعها السابق تحكمها قوانينها الخاصة في ممارسة اعمالها، حيث كان مجلس القضاء الاعلى الذي يرأسه رئيس محكمة تمييز العراق يدير شؤون القضاة المهنية ويرتبط ماليا بوزارة العدل.

الا ان التهميش للسلطة القضائية بدأ مع هذا الانقلاب، نتيجة لتدخل السلطة التنفيذية (مجلس الوزراء) في شؤون السلطة القضائية، بحكم كونه قابضا على السلطة التشريعية، وذلك من خلال سلب اختصاصات هذه السلطة عن طريق تشكيل محاكم خاصة محرمة دوليا خارج نطاق التنظيم القضائي العراقي، كالمحكمة العسكرية الخاصة (محكمة الشعب) والمحاكم العسكرية العرفية، لمقاضاة المدنيين عن افعال نصت عليها مختلف القوانين العقابية كما اشارت الى ذلك قوانينها الخاصة.

كذلك اصدر مجلس الوزراء، قانون التبليغات القانونية للعسكريين رقم 106 لسنة 1960 الذي منح حصانة واسعة جدا للعسكريين من التعقيبات القانونية عن الجرائم التي ترتكب خارج نطاق الوظيفة، امام المحاكم الجزائية المدنية. ونتيجة لذلك اصبح العسكري يتمتع بمكانة اعلى من المواطنيين الاخرين، حيث لا يمكن القاء القبض عليه عند اعتداءه على مواطن في الشارع او المقهى او الملهى الا في حالات الجناية المشهودة وفي هذه الحالة يجب تسليمه الى اقرب سلطة عسكرية (الانضباط العسكري) ولا يمكن مقاضاته امام اي محكمة مدنية الا بموافقة الدائرة القانونية في وزارة الدفاع، واذا كانت الجريمة واقعة من عسكري ضد عسكري فان المحاكم العسكرية هي المختصة ومهما كانت جسامة الجريمة المرتكبة والقوانين العقابية التي تحكمها، وسنرى ان هذا القانون قد كرس مجددا في ظل الاحتلال الامريكي وحكوماته المتعاقبة.

ورغم الارتباك والفوضى التي عمت البلاد في فترة الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم بسبب الصراعات السياسية العنيفة والمصالح الاقليمية والدولية، الا ان القضاء العراقي حافظ على تماسكه الى حد ما، ولكن العد التنازلي في ضعف واضمحلال النظام القانوني والقضائي قد بدأ فعلا.

وفي يوم 8 شباط 1963 قاد القوميون والبعثيون انقلابا عسكريا دمويا راح ضحيته الالاف من العراقيين واطاح بحكم قاسم الذي قتل مع مجموعة من الضباط بدون محاكمة رغم تسليمهم لانفسهم للانقلابيين وايغالا في الانتقام رميت جثثهم في نهر دجلة..!

وقد حل المجلس الوطني لقيادة الثورة محل القائد العام للقوات المسلحة ومجلس الوزراء، ووضع الدستور المؤقت الثاني لسنة 1963 الذي اعتبر المجلس الوطني لقيادة الثورة، جهازا ثوريا لقيادة الشعب و القوات المسلحة..! واستحوذ على جميع السلطات والاشراف على ادارة الدولة وكافة المسؤولين بما فيهم رئيس الجمهورية. وعمت الفوضى والارتباك والتعسف وتهميش دور القانون والقضاء بشكل لم يسبق له مثيل، حيث ارتكبت انتهاكات خطيرة على ارواح وحريات المواطنيين من قبل المليشيات المسلحة التابعة لحزب البعث الحاكم (الحرس القومي) واستمرت دوامة القتل خارج القضاء والتعذيب والاعتقالات والابتزاز لمدة تسعة اشهر وهي فترة حكم البعث الاولى.

وفي 18 تشرين الثاني 1963 قاد الرئيس الراحل عبد السلام محمد عارف انقلابا عسكريا، وصدر الدستور المؤقت الثالث الذي منح سلطات واسعة جدا لرئيس الجمهورية واضحى القابض على السلطتين التشريعية والتنفيذية (المادة 63)، وله الحق بتعيين اعضاء مجلس الوزراء (رئيس الوزراء والوزراء).

استمر القضاء العراقي في هذه المرحلة، خاضعا الى مجلس القضاء الاعلى مهنيا ووزارة العدل ماليا، ولكن تدخل السلطة التنفيذية بصفتها التشريعية لم ينقطع وخاصة في تشكيل المحاكم العسكرية الخاصة (العرفية) لمحاكمة المدنيين عن بعض الجرائم التي حددتها تشريعاتها الخاصة، وفي ذلك سلب لاختصاصات القضاء العراقي. كما استمر العمل في قانون التبليغات القانونية للعسكريين رقم 106 لسنة 1960 في منح العسكريين الحصانة من الملاحقة القانونية عن الجرائم كما اوضحنا، مما اضعف دور القانون والقضاء وبالتالي ادى الى تراجع مستمر للنظام القانوني ككل.

وبشكل عام فان فترة الانقلابات العسكرية السابقة التي استمرت عشر سنوات، كانت السلطة تلجأ الى احالة المعارضين للنظام السياسي الى المحاكم العسكرية الخاصة لمقاضاتهم، وحماية العسكريين من التعقيبات القانونية عن جرائمهم امام المحاكم الجزائية المدنية، مما همش دور القضاء ومساهمته في انعاش وتطوير النظام القانوني. وكانت التشريعات التي يصدرها الحكام تخضع للمزاج الشخصي وغالبا متناقضة مع مصالح المواطنيين، مما شكلت نقاطا سلبية في تطوير النظام القانوني.

ولا بد من التأكيد هنا بان القاضي العراقي كان من الكفؤين ومن خيرة رجال القانون الذي اختار هذه المهنة شغفا بتطبيق العدالة، لذلك كان يعتز باستقلاليته في اتخاذ القرارات رغم جميع الصعوبات التي كان يواجهها نتيجة للانقلابات العسكرية ولا يتوانى قيد شعرة من ترك القضاء، اذا ما شعر بوجود تدخل في شؤونه او اي اخلال في تطبيق العدالة.

المرحلة الثالثة: مرحلة الحزب القائد والقائد الضرورة (1968 ndash; 2003)
كان النظام القانوني في ظل حكم حزب البعث العربي الاشتراكي القائد، لا يختلف كثيرا عن النظام القانوني للانظمة الشمولية الفاشية، كنظام هتلر (1933-1945) الذي خول نفسه اصدار التشريعات المختلفة بموجب قانون الصلاحيات المطلقة Enabling Act لعام 1933 والذي اعطى الحق لهتلر، اصدار القرارات بقوة القانون لترسيخ نفوذه واستبداده وتحقيق طموحاته.

كما لا يختلف كثيرا عن النظام القانوني الذي كان سائدا في الانظمة الشيوعية الشمولية، حيث لاتوجد سلطات ثلاثة في الدولة، وانما هناك سلطة سياسية واحدة يقودها الحزب، وان الاجهزة الاخرى، التشريعية والتنفيذية والقضائية، عبارة عن وظائف لخدمة اهداف القيادة السياسية.
النظام القانوني في ظل حكم حزب البعث في العراق، هو نظام هجين للنظامين الفاشي والشيوعي. الرئيس الراحل صدام حسين هو quot;القائد الضرورةquot;، كما كان هتلر وموسوليني وستالين، وحزب البعث هو الحزب القائد، كما كان الحزب الشيوعي والحزب النازي.

لقد جاء الدستور المؤقت الرابع لعام 1970 الذي تحول الى دستور دائم فيما بعد بقرار من مجلس قيلدة الثورة، لغرض تكريس جميع السلطات والصلاحيات التشريعية والتنفيذية بمجلس قيادة الثورة، باعتباره الهيئة التشريعية العليا الذي يحق له اصدار القوانيين والقرارات التي لها قوة القانون (المادة 42)، كما منح الدستور المذكور رئيس الجمهورية (صدام حسين)، حق اصدار القرارات التي لها قوة القانون.

وبموجب قانون اصلاح النظام القانوني رقم 35 لسنة 1977، تحولت السلطات في الدولة الى وظائف لخدمة اهداف القيادة السياسية، وهي السلطة الوحيدة في الدولة التي تقوم بتعيين الاجهزة التشريعية والتنفيذية والقضائية للقيام بوظيفتها في تنفيذ خيارات القيادة السياسية (حزب البعث القائد). وبعبارة اخرى، ان السلطة في الدولة واحدة، ولغرض ممارسة نشاطاتها اعتمدت على اجهزة مختلفة ومن بينها quot;الجهاز القضائيquot; للقيام بالوظيفة القضائية. وتطبيقا لهذه النظرية، فقد جرى حل مجلس القضاء الاعلى برئاسة رئيس محكمة تمييز العراق، وحل محله quot;مجلس العدلquot; برئاسة وزير العدل، وبذلك اصبح القضاة المدنيين، موظفين تابعين لارادة القائمين على الوظيفة التنفيذية (وزارة العدل) شأنهم شأن اي موظف تابع لهذه الوزارة.

ونتيجة لتحول الجهاز القضائي الى وظيفة لخدمة اغراض القيادة السياسية في الدولة، تشرذم القضاء الجنائي وتوزع على وزارات ومؤسسات الدولة العسكرية والامنية بغية احكام السيطرة من خلاله على جميع المواطنيين، ويمكن تلخيص هذا الواقع على الشكل الاتي:

اولا: قضاء محكمة تمييز العراق المرتبط بوزارة العدل: كان القضاء الجنائي التابع لهذه المحكمة مهمش تماما بحكم انتماء اغلبية الشعب العراقي اما للجيش او قوى الامن الداخلي او الامن او المخابرات او الجيش الشعبي، وجميع هذه المؤسسات تخضع للقوانين العقابية العسكرية وقانون اصول المحاكمات العسكرية لسنة 1941 وبالتالي فان الجرائم التي ترتكب بين منتسبي هذه المؤسسات تخضع في حسمها للقضاء العسكري مهما كانت جسامة الجريمة وطبيعة القانون العقابي بما فيه قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969، وسواءا ارتكبت اثناء اداء الوظيفة او خارجها.

ثانيا: قضاء محكمة التمييز العسكرية وقوى الامن الداخلي والمشتركة بينهما: وترتبط هذه المحاكم بالوزير المختص (وزير الدفاع او وزير الداخلية)، ولها اختصاصات واسعة جدا بموجب المادة 19 من قانون اصول المحاكمات العسكرية، فهي تقوم بتطبيق جميع القوانيين العقابية العسكرية واي قانون عقابي اخر، عن الجرائم التي يرتكبها منتسيبوا هذه المؤسسات فيما بينهم سواء كانت اثناء الوظيفة او خارجها. ويلاحظ ان اختصاصات هذه المحاكم اوسع بكثير من اختصاصات المحاكم الجنائية المدنية، لان الاخيرة ليس لها الحق في تطبيق القوانين العقابية العسكرية، بينما المحاكم العسكرية وقوى الامن الداخلي، تطبق القوانيين العسكرية واي قانون عقابي اخر..!

ثالثا: قضاء المحاكم الخاصة: شكلت محاكم خاصة لسلب ما يمكن من اختصاصات المحاكم الجزائية التابعة لمحكمة تمييز العراق. وهذه المحاكم تفتقر لابسط المعايير الدولية ومعايير العدالة وهي تتوزع كالاتي:
bull;قضاء محكمة الثورة: شكلت هذه المحكمة بعد انقلاب 1968 وحددت اختصاصاتها بالجرائم الماسة بامن الدولة الداخلي والخارجي المنصوص عليها بالمواد 156-222 من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969، والجرائم الواقعة على السلطات العامة المنصوص عليها بالمواد 223-116 من القانون المذكور..وغيرها من الجرائم التي يقرر رئيس الجمهورية احالتها الى هذه المحكمة. وكانت قرارات هذه المحكمة قطعية غير قابلة للطعن امام اي محكمة اخرى..!
bull;
bull;قضاء المنظمات الحزبية: بموجب قراري مجلس قيادة الثورة المرقميين 55 و 74 لسنة 1994، تم منح قيادات الشعب ومجالس الشعب صلاحيات حجز الاشخاص مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على ثلاث سنوات، اذا ما اشترى او باع عملة اجنبية خارج المكاتب المجازة..وتكون خمس سنوات في حالة العود. وكذلك منحت صلاحيات غلق محلات البيع بالجملة والمفرد وحجز اصحابها لمدة ستة اشهر. وان الطعن بتلك القرارات يكون امام قيادة الفرع التي يكون قرارها قطعيا.
bull;
bull;قضاء الوزارات والاجهزة الامنية: وهي محاكم شكلت خارج تشكيلات المحاكم العسكرية وقوى الامن الداخلي، كالمحاكم الخاصة في وزارة الدفاع والداخلية والامن العامة والمخابرات والامن الخاص بموجب قرارات مجلس قيادة الثورة المرقمة 1752 في 29/11/1980 و 11 في 23/8/1994. تنظر هذه المحاكم الاستثنائية بجرائم محددة بقرارات مجلس قيادة الثورة، ولا تخضع لدرجات التقاضي المألوفة، بل يتم الطعن بها امام الوزير المختص او رئيس المخابرات او مدير الامن العام او رئيس جهاز الامن الخاص..انه امر عجيب غريب حقا..!!
bull;
bull;قضاء الصلاحيات الخاصة: كانت بعض قرارات مجلس قيادة الثورة تمنح بين الحين والاخر، رؤساء الوحدات الادارية وبعض ضباط الشرطة والموظفين صلاحيات قاضي جنح لغرض انزال بعض العقوبات بحق الاشخاص، وبذلك سلب لبعض اختصاصات المحاكم الجزائية واهدارا للعدالة.
bull;
تبعا لما تقدم، فان ما اصطلح عليه quot;بالوظيفة القضائيةquot; قد وزعت بين الوزارات ومختلف المؤسسات الامنية والحزبية، ولا توجد مرجعية موحدة للطعن بقرارتها بل كانت تحت السيطرة المباشرة لرؤساء الاجهزة التنفيذية المختلفة. وهذا الواقع جعل النظام القانوني لهذه الفترة، لا يمثل الا ارادة الحزب وقائده الضرورة الدكتاتوري.

المرحلة الرابعة: مرحلة الاحتلال الامريكي وحكوماته المتعاقبة (2003 ndash; ولحد الان)
تعرض العراق الى الاحتلال البريطاني سنة 1917، والاحتلال الامريكي سنة 2003، وان الفرق بين الاحتلاليين شاسع. الاحتلال البريطاني حصل نتيجة للحرب العالمية الاولى واندحار الامبراطورية العثمانية، وقد سلخت الولايات الثلاثة (بغداد-الموصل-البصرة) من الدولة العثمانية وشكلت منها quot;الدولة العراقيةquot;، مما استوجب بناء مؤسسات جديدة كالجيش والشرطة وسلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية، وغيرها من المؤسسات.

بينما نرى ان الاحتلال الامريكي للعراق قد حصل بدون غطاء شرعي من الامم المتحدة (مجلس الامن) وخرقا لميثاق الامم المتحدة وفكك البنية التحتية للدولة العراقية وخصوصا المؤسسات الحيوية كالجيش والشرطة والامن باوامرمن الحاكم المدني للاحتلال (بريمر)، فالغزو الامريكي ndash; البريطاني، احظر معه الدمار والفوضى والفساد والجريمة المنظمة للسيطرة على العراق والشرق الاوسط واعادة تشكيل خارطتها الجيوسياسية بما يتناسب مع مشروع الشرق الاوسط الصهيوني الجديد، وجعل الامن سائبا تحت رحمة جرائم قوات الاحتلال والجريمة المنظمة لعصابات طائفية وغيرها قامت بجرائم قتل وسرقات واغتصاب واختطاف و حرقت الاخضر واليابس.

وشكلت قوات الاحتلال نواة العملية السياسية (مجلس الحكم) من القوى السياسية الطائفية والاثنية الوافدة معه بموجب اللائحة التنظيمية رقم (6) لسنة 2003 بهدف تفتيت اواصر مكونات المجتمع العراقي على تلك الاسس البغيضة، والتشاور مع هذا المجلس في كيفية ارساء دكتاتورية الطوائف والاثنيات التي لا تمت باي صلة مع الديمقراطية التي يتشدقون بها، والتي نشهد تداعياتها الخطيرة بالوقت الحاضر.

وبحكم تعيين السفير بريمر مديرا لسلطة الائتلاف المؤقته في العراق الذي اصبح القابض على جميع السلطات (التشريعية والتنفيذية والقضائية) بموجب اللائحة التنظيمية رقم (1) لسنة 2003، فقد اصدر مجموعة من اللوائح والقرارات المنتهكة للقانون الدولي وما نصت عليه اتفاقيات جنيف بشأن البلدان الواقعة تحت الاحتلال، التي حرمت على المحتل اجراء التغيرات على هياكل الدولة وتشريعاتها، مما اعطى مثالا صارخا لطبيعة دكتاتورية واستبداد قوات الاحتلال في العراق.

ولما كان السفير بريمر قابضا على السلطة القضائية، فان القضاء العراقي بجميع قراراته مرهون لارادة الاحتلال، اذ اصدر الامر المرقم 17 لسنة 2003 الذي بموجبه، تتمتع القوات الامريكية وحلفائها وجميع العاملين معها من اجهزة امنية ومقاولين وغيرهم بالحصانة من التعقيبات القانونية ضدهم امام المحاكم العراقية، مما شجع هذه القوات بارتكاب ابشع الجرائم الدولية بحق المواطنيين العراقيين العزل، ومما خلقت جوا من التذمر الواسع بين الناس والشعور بان هذه القوات جاءت لتدمير البلاد والعباد وبمساعدة وتعاون الوافدين معها من القوى والمليشيات الطائفية والاثنية.

وبعد مرور عام على الحكم الدكتاتوري المباشر لقوات الاحتلال الاجنبية، قامت بوضع قانون ادارة الدولة لسنة 2004 الذي صادق عليه اعضاء مجلس الحكم، بغية اضفاء الشرعية المزيفة على الحكومات والمؤسسات الطائفية والاثنية التي ستعتمد في ادارة شؤون البلاد، ولكي يكون النواة الرئيسية للدستور الدائم فيما بعد.

واشارت المادة الثانية من القانون المذكور بان الفترة الانتقالية تتكون من مرحلتين:
الاولى: تبدأ من 30 حزيران 2004 ولغاية 31 كانون الثاني 2005 بتشكيل حكومة مؤقته برئاسة د. اياد علاوي، وقد جرى تسليم السلطة شكليا الى علاوي لتكون الاسس الطائفية والعرقية استحقاقات دستورية غير قابلة للمناقشة او اجراء اي تعديل عليها.

الثانية: انبثاق الحكومة الانتقالية في موعد اقصاه 31 كانون الثاني 2005 من قبل جمعية وطنية منتخبة والتي ستستمر لحين اقرار دستور دائم للبلاد وتشكيل حكومة دائمية بعد استفتاء عام على الدستور (في ظل الاحتلال)، وكان د. ابراهيم الجعفري رئيسا لهذه الحكومة الانتقالية، حيث جرى ترسيخ وتجذير الولاءات الطائفية والاثنية، وتشكيل مؤسسات عسكرية وامنية من مجاميع المليشيات الطائفية والاثنية، واضحى الصراع الطائفي والاثني حقيقة واقعة تمارس على جميع الاصعدة في مؤسسات الدولة وحتى داخل اروقة المدارس الابتدائية، وتحول الشارع العراقي الى مسلسل رهيب من عمليات القتل الطائفي على الهوية، و اتخذ ابعادا اجرامية غير مسبوقة.

ولم تمتلك هذه الحكومات اية صلاحيات تذكر سوى ما جاء بالملحق لقانون ادارة الدولة العراقية الذي حدد صلاحيات الحكومة العراقية للفترة الانتقالية بالعمل على تحقيق الرفاهية والاعمار والتنمية الاقتصادية للشعب العراقي..ولا يجوز لها ان تقوم باعمال تؤثر على مصير العراق المستقبلي كابرام الاتفاقيات والمعاهدات او تحريك قطعات عسكرية. وكانت هذه الخطوة من قبل قوات الاحتلال هي لتهيئة اتباعها والمتعاونيين معها في كيفية ادارة الدولة العراقية في ظل الدستور الدائم الذي ستتولى اعداده وفق خارطة الطريق المرسومة في quot;قانون ادارة الدولة العراقية لسنة 2003quot;.

وكنتاج لهذه العملية السياسية التي خطط لها بشكل محكم بعد الاحتلال العراقي للكويت عبر مؤتمرات ابتداءا من مؤتمر فينا (1992) ومرورا بمؤتمر صلاح الدين (1993) ومؤتمر لندن (2002) وانتهاءا بمجلس الحكم (2003)، وما تبع ذلك من الحكومات والمؤسسات المتعاقبة على اسس المحاصصات الطائفية والعرقية، انبثق الدستور الدائم ليلبي ما تطمح اليه سلطة الاحتلال في تقسيم البلاد، وكما اشرنا، ان قانون ادارة الدولة هو الذي حدد ملامح الدستور الدائم وافترض حقائق على الارض لم يقم عليها اجماع عراقي، لاسباب لصبحت معروفة، وبالتالي فان ملامح النظام القانوني العراقي الحالي وفق ما جاء به الدستور الدائم، قد خطط له منذ الشروع بعقد المؤتمرات في تسعينات القرن الماضي وما تمخضت عنه العملية السياسية بعد احتلال العراق.

الدستور الدائم الحالي، استخدم عبارات في ديباجته تتضمن مفاهيم طائفية وعرقية من شأنها ان تؤجج روح التفرقة والكراهية بين مكونات المجتمع والتي ستستمر على مدى الاجيال القادمة.

ولم يحدد الدستور الدائم هوية الدولة العراقية التي يشكل العرب اكثر من 80% من شعبه وهو مقتبس من قانون ادارة الدولة العراقية، وذلك من شأنه تفتيت الدولة العراقية وهذا ما خطط له الاحتلال. ولغرض تحقيق تلك المآرب وضع الدستور اليات لتنفيذها وجعل السلطة التنفيذية اقوى من السلطة التشريعية التي يقتضي ان تكون هي الاقوى كما هو الحال في جميع الدول الديمقراطية، حيث منح حق تقديم مشروعات القوانين الى مجلس النواب لتشريعها للسلطة التنفيذية حصرا (رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء)، واجاز لمجلس النواب تقديم مقترحات القوانين فقط (المادة 60)، مما فسح المجال امام السلطة التنفيذية بعدم الاخذ بمقترحات مجلس النواب في اعداد مشروعات القوانين المقترحة. وهذا امر quot;مقصودquot; لجعل السلطة التنفيذية، تتحكم بمقدرات البلاد وقد يدفع ذلك باتجاه التقسيم والحرب الاهلية او الانفراد بالسلطة.

وان تعيين وزيرا للدولة لشؤون مجلس النواب، يصب في منع الرقابة المباشرة من قبل مجلس النواب على اداء الحكومة، ولا سيما ان هذا الوزير لا يسمح بالرقابة الا من خلاله.
ومنحت المادة (78) من الدستور صلاحيات القائد العام للقوات المسلحة، لرئيس الوزراء، وهوشخص يقود حزب الدعوة الطائفي بالوقت الحاضر والنتيجة واحدة في قيادة اي حزب اخر لمجلس الوزراء لان العملية السياسية مبنية على اسس المحاصصات الطائفية والاثنية. وبحكم تمتع القائد العام للقوات المسلحة بصلاحيات واسعة وخطيرة جدا من خلال سيطرته وتعيينه لقادة الفرق وتشكيلات وصنوف القوات المسلحة والامنية والسجون والمعتقلات التي تديرها، فانه يتحكم بمصير البلاد والعباد.

وتشير التقارير للمنظمات الانسانية الى همجية التعامل مع المعتقلين في المعتقلات السرية التابعة لمكتب رئيس الوزراء التي يمارس فيها شتى صنوف التعذيب والاغتصاب والقتل والابتزاز المالي والاخلاقي، وبالرغم من كونها معتقلات محرمة دوليا ويقتضي ان تكون خاضعة للاشراف العدلي و القضائي وفيها كل مقومات احترام حقوق الانسان. وان هذا الواقع ينذر بشؤوم كبير لمستقبل العراق، وان تداعيات هذا الشؤوم في مطالبات المحافظات في العراق بالاستقلال الذاتي، ما هو الا انعكاس لهذه السياسة المرسومة والممهدة لتقسيم الوطن على اسس طائفية وعرقية مدمرة.

ان النظام السياسي الطائفي الحالي،يسعى كأي نظام دكتاتوري شمولي، لترسيخ مواقعه في السلطة من خلال احتواء السلطتين التشريعية والقضائية لان احتوائهما والسيطرة عليهما ينهي اي توجه نحو الديمقراطية وبالتالي يعزز السيطرة على النظام القانوني والقضائي بالشكل الذي يخدم اغراضه ومصالحه السياسية الطائفية.

وكما اشرنا، ان الدستور اعطى الحق للسلطة التنفيذية فقط في اعداد مسودة القوانين، وان السلطة التنفيذية، حددت رقابة مجلس النواب المباشرة من خلال تعينها وزيرا للدولة لشؤون مجلس النواب، وتبعا لذلك فان مجلس النواب يفتقد لاهم مبررات وجوده كسلطة تشريعية ورقابية..!؟ ناهيكم من الهيمنة الطائفية والعرقية الواسعة على اعضاءه التي تصب في المحصلة النهائية لمصلحة تجذير النزعة الدكتاتورية والاستبدادية للطائفة الحاكمة التي تسيطر على جميع مفاصل القوات المسلحة والامنية في الدولة.

وبسبب هذا التهميش للسلطة التشريعية والاستبداد في اتخاذ القرارت التعسفية من قبل رئيس مجلس الوزراء والسيطرة على الجيش وقوى الامن الداخلي وبناء اجهزة عسكرية وامنية خاصة في ولائها لحزب الدعوة، فان السلطة القضائية اصبحت الاضعف في هذه المعادلة خوفا من التصفيات الجسدية التي يتعرض لها القضاة، حيث اعلن الناطق باسم مجلس القضاء الاعلى مؤخرا، بتعرض 43 قاضيا للاغتيال منذ سنة 2003 ولحد الان، وهناك اسباب اخرى سنوضحها لاحقا.
نظريا، يشير الدستور الى استقلالية السلطة القضائية من جميع النواحي (الادارية والمهنية والمالية) ولا سلطان عليها لغير القانون، الا ان الواقع العملي يشير الى عكس ذلك.
القضاء العراقي يعاني من الفشل والاحباط في الجانب المهني، ويرضخ لارادة السلطة التنفيذية (رئيس مجلس الوزراء) بشكل كامل وملحوظ، وتنخره المواقف والقرارات الطائفية على حساب تحقيق العدالة، كما اشارت الى ذلك صحيفة quot;نيويورك تايمسquot; بعددها الصادر يوم 15/7/2011، لذا فان القضاء العراقي يمر بأسوأ مرحلة من تأريخه منذ نشوء الدولة العراقية سنة 1922 ولحد الان، ويمكن القول بعدم وجود قضاء عراقي من الناحية العملية، بالمعنى الدقيق للكلمة.

اثبتت الوقائع، ان القضاء العراقي في ظل رئاسة المحمود، اصبحت اداة لانتهاكات حقوق الانسان والتستر على الجرائم الخطيرة كالقتل والتعذيب والاغتصاب والفساد المالي والاداري والاعتقالات والمداهمات العشوائية بدون قرارت قضائية التي ارتكبتها قوات الاحتلال وحكوماتها المتعاقبة وعلى وجه الخصوص الحكومة الحالية.

ويمكن تلخيص بعض مظاهر عدم استقلالية القضاء العراقي وتبعيته للاحتلال والسلطة التنفيذية، وابتعادة عن رسالته السامية في تحقيق العدالة كالاتي:
اولا: بموجب الامر المرقم 17 لسنة 2003 الصادر من الحاكم المدني quot;بريمرquot; وكذلك الاتفاقية الامنية المبرمة بين قوات الاحتلال و الحكومة الحالية لسنة 2008، تتمتع القوات الامريكية وحلفائها والعاملين معها بالحصانة من التعقيبات القانونية ضدهم امام المحاكم العراقية، مما شجع هذه القوات ارتكاب ابشع الجرائم الدولية، الا ان القضاء العراقي لم يحرك ساكنا، ولم يتخذ اي اجراء ضدهم حماية لارواح المواطنيين العراقيين وحقوقهم، لا بل لم نسمع اي استنكار لهذه الممارسات البربرية وذلك هو اضعف الايمان.

2- المادة الاولى من قانون اصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 النافذ، تعتبر من اهم واجبات الادعاء العام تحريك الدعوى عن الجرائم التي يعلم بها امام المحاكم المختصة، كما ان تفتيش السجون والمعتقلات بشكل دوري يقع من صلب واجباته، الا انه لم يحرك ساكنا ازاء اخطر الجرائم والاعتقالات العشوائية بدون مذكرات امر بالقبض والتوقيف القضائية والتعذيب البربري و مداهمة وتفتيش المساكن بدون قرارت قضائية وسرقة الممتلكات العامة والخاصة وجرائم التزوير والاحتيال والاغتصاب بحق الرجال والنساء في المعتقلات وجرائم الفساد المالي والاداري التي تزكم الانوف والتهجير القسري لملايين المواطنيين خارج وداخل العراق..وغيرها من الجرائم المحرمة في الدستور والقوانين العقابية العراقية والدولية، مما شجع ذلك على تمادي السلطة التنفيذية واجهزتها القمعية في الاستمرار على ارتكاب تلك الجرائم.
3- عدم اتخاذ التعقيبات القانونية من قبل القضاء بحق مسؤولي السلطة التنفيذية التي تدير المعتقلات السرية والمرتبطة بمكتب رئيس الوزراء والتي تمارس فيها شتى انواع الانتهاكات لحقوق الانسان حسب ما اكدته تقارير المنظمات الانسانية العراقية والدولية.

4- مساهمة القضاء العراقي في تعزيز الانقسامات الطائفية والعرقية وتعميق التناقضات بين مكونات العملية السياسية من خلال ابدا اراء واتخاذ قرارات مخالفة للدستور ومنحازة للحزب الطائفي الحاكم، كما حصل عندما اصدرت المحكمة الاتحادية رأيا بسلب حق الكتلة الفائزة بالانتخابات من تشكيل الحكومة، وعدم دفع الهيئة التمييزية بعدم شرعية هيئة المسائلة والعدالة التي مارست صلاحيات خطيرة بالاجتثاث بدون غطاء دستوري او قانوني.
5- عدم اعتراض مجلس القضاء الاعلى على تشكيل المحاكم الجنائية الخاصة التي تفتقد للمعايير الدولية والتي جاء تشكيلها خارج التنظيم القضائي العراقي، والتي ادانتها منظمة العفو الدولية والمنظمات الانسانية الاخرى، كالمحكمة الجنائية العليا (المختصة) المرتبطة بمجلس الوزراء بموجب الامر المرقم 48 لسنة 2003، وكذلك المحكمة الجنائية المركزية للعراق المشكلة بموجب الامر المرقم 13 لسنة 2003 الصادرين من الحاكم المدني (بريمر). المحكمة الاولى تنظر في جرائم غير موجودة اصلا في القانون الجنائي العراقي مما تتعارض مع القاعدة الشرعية القانونية quot;لا جريمة ولا عقوبة الا بنصquot;، والثانية سلبت اختصاصات المحاكم الجنايات والجنح للنظر في جرائم وفق ما يدعى quot;بقانون الارهاب رقم 13 لسنة 2005quot;، الا انه في الواقع قانون لارهاب الشعب العراقي، لاحتواءه على نصوص فضفاضة يمكن ان يجعل اي فعل من الافعال، من جرائم الارهاب، مما يتناقض ذلك مع ما تستوجبه الاحكام العامة للقانون الجنائي، بان يكون وصف الفعل المحرم بشكل دقيق لا يقبل التأويل مطلقا.
6- بموجب قانون اصول المحاكمات الجزائية العسكرية رقم 30 لسنة 2006 وقانون اصول المحاكمات الجزائية لقوى الامن الداخلي رقم 17 لسنة 2008، استحدثت محاكم عسكرية وقوى امن داخلي ومشتركة بمختلف درجات التقاضي، خارج اطار التنظيم القضائي العراقي، مما سلب اختصاص محاكم الجنايات والجنح، لان هذه المحاكم لايقتصر اختصاصها على الجرائم العسكرية او المهنية فقط كما اقتضاه الدستور بالمادة 99، وانما تعدى ذلك بكثير، حيث اصبح اختصاصها النظر في جميع الجرائم التي تنص عليها القوانيين العقابية بما فيها قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 النافذ التي يرتكبها العسكري او رجل الشرطة ضد اقرانه الاخرين، وسواءا كانت الجريمة متعلقة بالوظيفة او بدونها (المادة 4 اصول محاكمات جزائية لقوى الامن الداخلي والمادة 4 اصول محاكمات جزائية عسكرية)، وهذه الاحكام هي نفس الاحكام الواردة في قانون اصول المحاكمات العسكرية رقم 44 لسنة 1941 وتعديلاته وذيوله الخاصة بقوى الامن الداخلي.
كما جاءت هذه القوانين بنفس احكام قانون التبليغات القانونية للعسكريين رقم 106 لسنة 1960 الذي منح الحصانة للعسكري ورجل الشرطة والامن من التعقيبات القانونية عن اية جريمة يرتكبها حتى اذا كانت خارج نطاق الخدمة وضد المدنيين، اذا لم يوافق الوزير المختص على احالته الى المحاكم المختصة (المواد111، 112، 113 من قانون اصول المحاكمات الجزائية لقوى الامن الداخلي)، وتكون قرارات الوزير بوقف التعقيبات القانونية بمثابة البراءة عن التهمة المسندة للمتهم..!!!!


وقد اعادت هذه القوانين نفس الاحكام الشاذة الواردة في قانون اصول المحاكمات الجزائية العسكرية قبل 70 سنة التي جعلت العسكري ورجل الشرطة والامن بمنزلة اعلى من المواطنيين الاخرين بل منحت لهم الحصانة التي لا يتمتع بها اي دبلوملسي او قاضي او موظف في الدولة..!!؟؟


وبالرغم من مخالفة هذه النصوص لاحكام الدستور المعمول به بشكل واضح وصريح وخاصة احكام المادة 99 منه، الا ان مجلس القضاء الاعلى متغافل عنها ولم يحرك ساكنا لان مهمته على ما يبدو المشاركة في تدمير العراق وليس بناءه وتطوير نظامه القانوني..!


7- صدرت قرارات قضائية باسقاط الحصانة البرلمانية عن بعض النواب من طائفة معينة، عن تهم اثبتت الهيئات الدولية بطلانها، بينما اغمض القضاء العراقي اعينه واصم اذانه عما ترتكبه فرق الموت والارهاب.

ان تداعيات الوضع الراهن، وسعي حزب الدعوة للانفراد بالسلطة وبناء دكتاتورية بغيضة وخطيرة من خلال الاحتواء والسيطرة على السلطة التشريعية (البرلمان)، وبدعم متهالك من الاجهزة القضائية، ينذر بمخاطر جسيمة لا يحمد عقباها، كما أكدناها سابقا بمقالات عديدة، ونؤكدها الان، فالحرب الاهلية تطرق الابواب ومستقبل العراق والمنطقة على كف عفريت، ولا يوجد اي حل او خلاص الا بتدخل الامم المتحدة وابطال العملية السياسية وبناء عملية سياسية جديد على اسسس المواطنة وليس المحاصصات الطائفية والعرقية، واحالة مرتكبي الجرائم الدولية والفساد المالي والاداري الى محكمة الجنايات الدولية لتحقيق العدالة واعادة ما اغتصبوه وسرقوه من عقارات واموال الى خزينة الدولة العراقية.

رئيس جمعية الحقوقيين العراقيين-بريطانيا