الوصف البليغ الذي يمكننا أن نصف به الفساد المالي في العراق هو غول الفساد وهو الحاكم المطلق في البلد، والغول كما جاء في الكتب quot;هو كائن خرافي يرد ذكره في القصص الشعبية والحكايات الفلكلورية يتصف هذا الكائن بالبشاعة والوحشية وغالبا ما يتم إخافة الناس بقصصهquot;، ويستخدم quot;لوصف وحش خيالي أو فوبيا أسطورية لشيء مفترس، ووصف بأنه مخلوق بشع مخيفquot;، واستخدامنا لهذه الكلمة لم يأتي من فراغ، بل من بشاعة وهول الأرقام التي تذكر عن الفساد في العراق.

وآخر كشف في هذا المجال، هو ما كشف عنه نائب عراقي عن أن حجم الفساد المالي والإداري في العراق يصل الى (229) مليار دولار أمريكي، فيما سجلت لجنة النزاهة النيابية (38) ألف قضية فساد، كما جاء في الأخبار، وقال مقرر لجنة النزاهة في مجلس النواب إن quot;الفساد في العراق وصل الى مستويات عالية، وضعته في مقدمة أكثر دول العالم فساداquot;. وصرح نائب آخر أن quot;حجم الأموال المسروقة المسجلة عندنا، في الأشهر الستة الأولى من هذا العام، وصل الى (59) مليار دولار أمريكيquot;. وعن الأشخاص المتورطين في قضايا الفساد أوضح النائب أن quot;أكثر من (25) الف موظف متورطون في قضايا فساد مالي، (40) منهم يعملون في مكتب رئيس مجلس الوزراءquot;.

هذه الأخبار ليست بالمستجدة عن الفساد المالي بالعراق لأن القضايا المالية والإدارية تعد من بين أكبر المعوقات العملية أمام التنمية الاقتصادية وتشير التقارير الدولية الى ان البلاد يحتل الموقع المتقدم في قائمة أكثر دول العالم فسادا طوال السنوات الأخيرة.

والمؤسف عندما نتمعن في هذه الأرقام الغولية، نجد ان رئيس الوزراء نوري المالكي في بداية تكليفه لولاية ثانية لرئاسة الحكومة بعد صراع مرير مع رئيس القائمة العراقية أياد علاوي، وعد في برنامج عمله الحكومي عند أداء القسم في مجلس النواب بـ quot;وضع الية فاعلة في مراقبة الانفاق ومعالجة الفساد الاداري والمالي وتفعيل المواد الدستورية الخاصة بها والتعهد بالالتزام بها ودعم مؤسسات النزاهة والشفافية وابعادها عن الخلافات السياسية والحزبيةquot;، ووعد أيضا بـ quot;ترسيخ دولة المؤسسات وبناء دولة القانون واتباع الاصول الادارية والمؤسساتية وفق مبدأ المواطنة واعتبار الوزارات ومؤسسات الدولة هوية وطنية وملك للشعب وليست هوية لحزب الوزيرquot;. ولكن بيانات الفساد المالي التي تصدر من جهات وشخصيات رسمية تنفي بتنفيذ أي برنامج بهذا الاتجاه للسيطرة على الفساد الديناصوري الجاري لنهب الأموال العراقية.

ولا بد من الاقرار ان اللسان يعجز عن تقديم الكلمات لتفسير حالة الفساد هذه المستشرية في العراق، وبهذا الحجم الكبير من الأموال، لأن المسالة تخرج عن أي اطار انساني أو أخلاقي أو وطني أو ديني، وكأن واقع الحال يقول لنا خلو أهل السلطة من كل هذه الأطر والالتزامات، واذا بالعراقيين يعيشون في قيامة لا حول لها ولا قوة لهم بها، قيامة استعرتها أصحاب الحكم والاحزاب والكتل والقوائم ولا حطب لها سوى نهب وحرق أموال الشعب، والغالبية العظمى من أبناء الشعب في فقر واملاق وفي عوز شديد.

والمفارقة الغريبة ان مجموع الموارد المالية التي دخلت العراق من مصادر النفط طوال سنوات ما بعد سنة السقوط الفين وثلاثة يقدر بـ (300) مليار دولار، ومن هذا الكم الهائل للثروة الوطنية نهب منه (229) مليار دولار، أي ان مجموع ما صرف على العراقيين طوال السنوات السابقة لم يبلغ (71) مليار دولار، وهذا يعني ان نسبة ما صرف من واردات البلاد بلغت (23%) والنسبة العظمى البالغة (77%) من الواردات ذهبت عن طريق الفساد وتلاشت من خزائن الحكومة وقيدت في جيوب وحسابات أهل السلطة وأصحاب الحكم.

وبغض النظر عن التفاصيل ومن خلال تحليل هذا الواقع الكارثي يتبين ان السلطة تسير على مسار خال من كل المقومات الوطنية والأخلاقية والانسانية والدينية، ونظرة الاستعلاء والتعالي المشهودة في سلوك وممارسات الحكم على المستويات الحكومية والحزبية دليل وبرهان صارخ على هذا المسار المخيف، وهذا النوع من النهج المتبع في ادارة السلطة العراقية جعل أهل السلطة مركبة من مجموعة من المسؤولين والاغنياء الفاحشين والاثرياء المارقين يمثلون الطبقة الفاحشة التي نهبت وتنهب الثروات الهائلة للعراقيين المغلوبين على امرهم، وانتهاج السلطة لهذا النهج الكارثي من السلوك يلاحظ فيه تنافرا وتباعدا شديدا بينهم وبين الفقراء والمستضعفين والمحتاجين والمعوزين والمساكين والعاجزين، وهذا التنافر رسخ تقسيما طبقيا للمجتمع العراقي حيث قسمه الى أقلية فاحشة ثرية وأغلبية فقيرة تعيش على هامش الحياة، وهذا التقسيم الطبقي أدخل الواقع العراقي في أزمات متلاحقة في كل مجالات الحياة، وفوق هذا فان هذه الأقلية الفاسدة لم تقف عند حد نهب الأموال فقط بل ذهبت الى أبعد من ذلك حيث تبدي مظاهر العظمة المفرطة والترف الباذخ والاستعلاء والتكبر واذلال الناس والتعامل وفق عبودية جديدة مع الآخرين، وهذه المظاهر واضحة كل الوضوح في الممارسات السياسية والحياتية والاجتماعية للمسؤولين وفي مقراتهم الرسمية والحزبية وفي ظل حالة لم نشهد لها مثيل في دول منظومة المجتمعات الديمقراطية السائدة في العالم، ولا في منظومة الدول الدكتاتورية التي بدأت تترنح وتسقط أوراقها الذابلة بفضل ربيع الثورات الشبابية للشعوب التي هدمت جدار الخوف وأزالت ستار الاستبداد وشقت جدار القمع.

المهم في الامر يتبين ان الحالة العراقية تعيش وتتعامل مع أرقام رهيبة عن الفساد، (25) الف موظف متورط، (24) الف شهادة مزورة، (229) مليار دولار ذهب في مهب الريح ولو حول هذا المبلغ الهائل الى ذهب لحصل كل عراقي على نصف كيلو غرام، وتبخر مواد البطاقة التموينية في عهد الوزراء السابقين والتي كلفت أكثر من (14) مليار دولار، وهدر (12) مليار باسم الكهرباء، وضياع (9) مليار في مجال النفط، واختفاء (17) مليار في عهد الحاكم الامريكي بول بريمر، وغيرها وغيرها من الارقام المخيفة التي اشارت وتشير اليها التقارير الصحفية العراقية.

في الختام، يبدو ان هول الارقام يبين ان العراق يعيش في عالم من الغول بالرغم من وجود هيئات باسم النزاهة وجهات باسم المفتشية ولجان نيابية ورقابية تحت رقابة برلمانية أو حكومية أو قضائية، ولكن مع وجود هذه المؤسسات فان الحالة السائدة التي تتحكم بها أهل السلطة ما هي الا محاصصة مالية وليست سياسية وباتفاق الجميع من حاكم الى معارض ومن ديني الى ملحد ومن راسمالي الى اشتراكي ومن تقدمي الى رجعي، وتجمع كل هذه التناقضات والأضداد في العلمية السياسية والاتفاق على النهب والفساد ما هو الا دليل على أن الغول هو السيد والحاكم المطلق في العراق وهو المرشد الأعلى الفعلي لأهل السلطة، ولكن هذا المارد هو العنصر الوحيد الذي تتفق عليه الأغلبية ان هذا الغول هو السبب الحقيقي لضياع البلاد وتقسيمه وفق مصالح ومنافع الأطراف العراقية.

كاتب صحفي - بغداد
[email protected]