موت الثقافة أم تخلفها

لا أومن بإشاعة موت الثقافة العراقية والعربية عموما، إنما أثق بإدقاعها وسطحيتها وتخلفها حصرا، وما هو عابر وسطحي لا قيمة له. لأنها تعمل داخل لا وعي العقل الجمعي أفقيا دون الدخول في العمق، بنية وتفصيلا وتأويلا وتحفيزا. فهي على هذا الأساس quot;ثقافة ماضوية إحيائيةquot; في جلها، تقوم على دغدغة المشاعر ومناشدة الذاكرة. من جانب آخر، لستُ ممن يعتقد أن العراق قد انتهى تماما، بل أثق بأنه قد تعرّض للخراب في زمن الديكتاتورية، وجرت بعد 2003 محاولات فك قيوده، وتسليمه صخرة سيزيف ليحملها، ولكنه ظل يتبرم ويئن ويتأوه، غير أنه لم يكلّ عن مواجهة مصيره المحتوم في الخروج من غرفة الإنعاش ولو بعد مائة سنة.
لستُ مؤرخا ولا باحثا اجتماعيا ولا قارئ فأل في مجال الثقافة، لكنني إنسان يكسب زاده المعرفي باعتباره كاتبا وأكاديميا ومثقفا متابعا وراصدا لمجريات الأحداث، يحاول أن يستشرف ويجتهد في أمور كثيرة باستقلالية قدر المستطاع، مهتم بالتفاصيل أكثر من الكليات، وفي مقدمتها ما يخص العراق. غير أن الاهتمام بالتفاصيل لا يعني البتة رعاية توافه الأمور، بل يعني النبش في ما هو غير طاف على السطح لأهميته.

الثقافة والمصداقية الغائبة
كان العنوان أساسا هو: البرلمان العراقي بين تمساح الديوانية ومسلسل الحسن والحسين، لكنني استعضت عنه بالعنوان المعلق في البداية. فوراء هذا العنوان الجديد أسباب كثيرة، على أن أهمها هو أن البرلمان العراقي السابق والحالي والذي سيليه هو نتاج ممارسة سياسية، اجتماعية، وجماهيرية عراقية. وما هذه الممارسة سوى انعكاس لوجه من أوجه الثقافة السائدة في المجتمع العراقي. وهو بمعنى آخر نتاج ما يرشح من ثقافة ووعي جماعيين يتحكمان في العقلية العراقية على الصعيدين الفردي والجماعي. بعبارة أخرى لو كانت تقود السلطة جماعة سياسية ومخططون من اليابان أو كندا أو السويد لكان تعاملها مع الأحداث مغايرا تماما، ولكانت نظرتها إلى الثقافة والحياة وفق معايير أخرى، ولكانت المصالح العليا للبلاد هي التي تتحكم في كل تصرفاتهم، ولكان الكذب في حدوده الدنيا والسرقة كذلك ومن يقل شيئا يتحمل عواقبه. إذن، نحن بصدد مصداقية السياسي العراقي الغائبة.
كل مرحلة هي بحجم قادتها السياسيين وعقول أبنائها الضالعين بتسيير دفة الأمور. لكن يبدو أن المرحلة الراهنة بمشاكلها ومأساويتها تفوقت على قدرة العقل السياسي والاجتماعي المحلي على التصدي لها، لأن إرادة التفكير الحر والنظر إلى مصير البلاد بعين الحرص تمت مصادرتها في زمن الطغيان والديكتاتورية التي رهنت مصير البلاد والعباد بمصير ونزوات الفرد وحزبه. وحين آلتْ الأمور إلى تنظيمات وقوى سياسية اتضح لنا أنها في غالبيتها عبارة عن quot;لملومquot; لا يستند إلى فكر وكفاءة وتنظيم حر، يشتركون في لعبة جرّ الحبل والصراع على الكراسي ونهب الدولة وتعطيل مؤسساتها، في ظل عملية إفراغ بيت الجميع بتدميره وسرقته. وإلا فهل من واجب برلمان بقضه وقضيضه أن ينظر في فيلم أو كتاب أو قصيدة أو مقال مهما كان ويترك ما يؤلب الناس ضد الحكومة والدولة جانبا؟
إن مسلسلquot; الحسن والحسينquot;عمل بالمقاييس الفنية عاد وغير متماسك في كثير من مفاصله. ولا أعتقد أنه يستحق أن يناقش برلمانيا، على الأقل، صيانة لحرية التعبير ومن أجل تربية عقلية عراقية مرنة متسامحة حتى لو كان الفيلم من شأنه أن يثير حفيظة البعض، من جهة، ولضعفه فنيا وفكريا من جهة ثانية. لا يخفى على المطلع اللبيب على بعض صفحات التاريخ الإسلامي، كيف جانبَ هذا المسلسل الحقائق والوقائع التاريخية. من جانبنا، نرى في السيناريو مغالطات تاريخية وكذب وتمويه لجملة من الحقائق الغرض منهquot;تسكين وعي المشاهد وتطييب بعض الخواطرquot;. أما على صعيد التمثيل فهو ضعيف، كما وأن الإخراج لم يتميز بألمعية توازي المبالغ الضخمة التي خصصت له، حتى أن المخرج لم يكلف نفسه مشقة رسم وتصوير وإحكام مشاهد المعارك التي لا تعرف فيها مَنْ يقاتل ضدّ مَنْ. إضافة إلى ذلك، تم نزع شهوة السلطة عن بعض الأطراف(باعتبارها السبب الأساس لشق صفوف المسلمين وقتل بعض صحابة الرسول وأهله) وإلقاء مسئولية خلق الفتنة على كاهل نظرية المؤامرة المتمثلة بدور مبالغ فيهquot;لليهودquot; عبر شخصية ابن أبي سبأ الذي أثارت الكثير من اللغط حذفا وإضافة وأسْطرةً! مؤامرات تجري خارج البيوت: في الأسواق والساحات العامة، في شبه جزيرة العرب وفي العراق، والمسلمون غافلون عنها! عجبا لهذه المؤامرة التي قادها شخص واحد ضد أمة بكاملها واستطاع في النهاية أن يحقق مآربه في تمزيق أوصالها!

الاتجاه الواحد=البعد الواحد
كنتُ وما زلتُ أعتقد أن جوهر الثقافة، ما هو إلا نتاج دوائر وحلقات بالغة الخصوصية متعددة المستويات والتعقيد والتشابك. دوائر من الأفراد والتجمعات والمؤسسات الخاصة التي تسعى إلى إنتاج ثقافة عميقة ذات قيمة وديمومة بغض النظر عما إذا عُرف المصدر أو لم يُعرف. أقصد أن للثقافة محركها الداخلي، فلنقل مولدها الآلي الذي يشغلها. بعدها تأتي المؤسسات الرسمية: إنْ كان تعاملها مع الفكر والثقافة والمجتمع وأهله بصدق وجدية وعمق انعكس ذلك على عمل quot;المنتجين الفعليينquot; وعضده، وتلاقح معه وتفاعل، وتطور البلد في هذا المضمار، وإنْ تم تسطيح الفكر والمعرفة والعلم والثقافة جرى تشويه وتقزيم الثقافة وحرفها عن مسيرتها الحقيقية وبالتالي أدى إلى جمودها وتكلسها بله انهيارها.
ما جرى على صعيد الثقافة العراقية هو أنها عبر الخمسين سنة الأخيرة لم تنبن على أساس نوعي- كمي تصاعدي، متعدد الأبعاد، لأن quot;ثقافة السلطةquot; اعتمدت أساسا على إشاعة ممارسةquot;الاتجاه الواحدquot; وquot;الزيّ الواحدquot;، وكانت توجه من قبل أفراد ومؤسسات مسيسة وقبلية في عقلها ونظرتها للأحداث والعالم. إذن، فهي تقع ضمن نطاق ما أسميه(one way ticket). يعني، أنها تخدم غرضا محددا لا مشروعا ورؤيا، وأنها آنية في خطابها وقصيرة النفس، بحيث تقرأ النص ولا تعود إليه، وتشاهد ولا تحب العودة إلى ما رأيته، وأنْ تسمع ولا تُصغي، وأنْ تأكل وتقيء ما أكلته، وأنْ تمارس طقسك تحديا وحسب طلب الجماعة، لا جرّاء إيمان عميق به وبرسالته، وهكذا. هكذا فعل النظام الديكتاتوري حتى 2003.
لكن ما يجري اليوم على صعيد الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية العراقية لا يخرج عن نطاق كونه امتدادا لما سبق من حيث التسطيح وأحادية النظرة وتسليط غير الأكفاء والمنتفعين والوصوليين على مقدرات الناس. إن تعدد عناوين الصحف والمجلات والقنوات التلفزيونية طالما أنك إنْ قلتَ أو عرضتَ شيئا مخالفا للسائد هلكتَ، لا يعني حريتها ولا علامة على عافيتها وارتقائها.، ويكفي أن تتصفح ما تنشره وتشاهد ما تراه من مسلسلات هابطة، وبرامج عقيمة.

دوائر وأنساق ثقافية
إنْ شئنا موضعة وشخصنة تلك الدوائر والحلقات لقلنا إنها لا تخرج عن ثلاث، تعميما لا حصرا، ليست بالضرورة مترابطة ولا متفاعلة فيما بينها،هي: دائرةquot;ثقافة السلطةquot;، ودائرة quot;ثقافة المعارضة المستنيرةquot;و دائرةquot;الثقافة الدينيةquot;. كانت هذه الدوائر تتقاطع وتتلاقى بمحض الصدفة لكنها تتصارع في السرّ والعلن، تتبادل بنسب وأحجام متفاوتة أساليب المكر والتمويه والخداع وتسويق الذات، لكنها تشترك في أسّ واحد يحمل فيروس التدمير. لسبب بسيط هو أن كل طرف أراد (يريد) إلحاق الهزيمة بالآخر. مثلا، حاول الرئيس بحملته الإيمانية في التسعينيات(راجع قرار مجلس قيادة الثورة رقم 82 لسنة 1994) تخدير الناس والتهام أو تحييد دائرة quot;الثقافة الدينيةquot; المعارضة، وكسب عطف الجماهير، لكنه لم ينجح حتى النهاية، كما ولم ينجح في بلع الدائرة الثانية، ربما لأن معظم رموز الدائرتين المعارضتين آنذاك كانتا تعملان خارج الحدود.
لقد انتهتْ غير مأسوف عليها ثقافة quot;الزى الواحدquot; بمجرد سقوط حارسها وحاميها، لكن ممثليها من الأحياء راحوا ينتشرون هنا وهناك، حتى أن بعضا منهم عاد للعمل في مجال الثقافة والمعرفة رسميا تحت راية هذا الطرف وقبة تلكم الطائفة. بيدَ أنّ زوال الرعاية الرسمية في ظل ظروف تفكيك الدولة العراقية ومؤسساتها العلمية والثقافية قاد هو الآخر إلى غياب مؤسسات السلطة التقليدية الراعية لمنابرها ومؤسساتها الثقافية. هناك محاولات لتحريك الجو لكنها تبقى ضعيفة وغير جدية وذات بعد واحد كذلك في ظل الانحدار العام.
لا يمكن للثقافة العراقية أنْ تنهض باستنادها على لون واحد، وطرف واحد، وتوجه واحد، وفرد واحد، ورؤية واحدة مهما كانت طبيعة الشعارات التي تنطلق منها، بدون الاعتراف نظريا وتطبيقيا بتعددية مرجعيتها التاريخية على كافة الأصعدة، والتسليم بهذا الأمر والسعي الحثيث لتهيئة كافة مستلزمات هذا الفهم ونجاحه.
أما بالنسبة لدائرة quot;ثقافة المعارضة المستنيرةquot; التي لعبت دورا لا يستهان به في فضح وتعرية رؤيا وممارسة ثقافة السلطة الرسمية قبل 2003 فقد وجدت نفسها تتعرض للتفكك والضعف بحيث تراجعت إلى الصفوف الخلفية بعد مرور سنتين على الإطاحة بالثقافة الرسمية السابقة في 2003. ثمة أسباب وراء هذا التقهقر، لعل من بين أبرزها بتصورنا هو: انشغال معظم القوى المعارضة آنذاك بالصراع الراهن على السلطة وتخندقها تحت مسميات الطائفة والقومية والمنطقة، بعد أن زال القاسم المشترك المتمثل في عدوهم السابق. لم يبق من تلك القوى المعارضة سوى اليساريين المنزوين في الصفوف الخلفية الذين لم يدخل ممثلوهم البرلمان في الانتخابات الأخيرة لأسباب لا يعلمها إلا الضالعين في العلم. ثانيا، عودة دائرة quot;الثقافة الدينيةquot; إلى الساحة رسميا واستحواذها على معظم المراكز التي جرى إعادتها للحياة في السنوات الأخيرة. ثالثا، تشرذم المثقفين العراقيين، خصوصا، ذوي المشروع الثقافي، وتعرضهم لخيبة ماكرة مدمرة بسبب انغلاق الأفق الثقافي والسياسي مرة أخرى بعد 2003. كما لم يعد مثقفو الخارج الذين كانوا يحلمون بتحولات إيجابية وينظرون إلى سقوط النظام السابق على أنه فرصة لبناء الثقافة الوطنية الحق، على أساس أن الثقافة منظومة فكرية معرفية إبداعية اجتما-سياسية ذات بعدين: نظري- إنتاجي وآخر عملي ndash; تطبيقي يؤديه الأفراد والجماعات والمؤسسات على حد سواء. لا يمكن لمؤسسة واحدة وصالون ثقافي أو عشرة أن تنهض بمهمة تنوير المجتمع بكامله. إنها ضرورية لكنها لا تكفي وحدها.
كانت دائرة quot;الثقافة الدينيةquot;(باستثناء بعض الدراسات والأبحاث الفقهية والمكتبات الخاصة والمؤسسات الدينية)، تركز على جانبين: مواصلة الصمود بوجه السلطة وتقوية الجانب الإعلامي الذي ndash;حسب تصور الملتزمين به- يمكنه أن يدعم العمل السري ذي الطبيعة السياسية في سعيه لتقويض هيمنة ثقافة السلطة وبالتالي دحرها. وثانيا، تشجيع الناس لممارسة الطقوس والشعائر التي من شأنها خلق شعور عام وممارسات ذات طبيعة مغايرة للخط الرسمي، طالما أدت إلى التقاطع مع السلطة والدخول في مواجهات غير متكافئة، بهدف إبقاء جذوة التحدي والمغايرة والرفض.

الفولكلور الثقافي والوجبات السريعة
الغريب في الأمر، أن السلطة كانت بتصرفاتها الدعائية- الإعلامية وتسطيحها للثقافة والحياة قد خلقت من حيث تدري ولا تدري quot;فولكلورا ثقافياquot; وليس ثقافة حية، قائمة على مبدأ الاختلاف والتشابه والتصادم والتلاقي والتفاعل. لقد خلقت تلكم quot;العقليةquot;(أضع العقل بين قوسين) صورة مهلهلة ساخرة للسلطة، بحيث عبرتْ فعلا عن مستواها، لكنها دمرت المجتمع ومسخت كرامته وأفرغت حياته من محتواها الإنساني والروحي.
في المقابل حصل شيء مشابه نرى تداعياته اليوم عبر ممارسة الشعائر والطقوس والمهرجانات التي تشبه الوجبات السريعة في مفعولها، بشكل مبالغ فيه بدلا من التركيز على جوهر الأشياء والقضايا المفصلية سواء الدينية منها أو السياسية والاجتماعية، وتقديم ما تعرض له الناس من مظلومية من خلال التركيز على قيم التسامح والانفتاح وعلى المبادئ الدينية والوطنية الأساسية ذات الطبيعة الطويلة الأمد(العمل على ما هو استراتيجي وليس آني بروح منفتحة تستقطب لا تنفر)، بدلا من ممارسة التهريج والندب والبكاء والاستعراضية بغرض الكسب السريع، في مقابل ما يتعرض له المجتمع من ضيق أفق وذبح وتهجير على الهوية.
إن فكرة الكسب السريع غير مضمونة إطلاقا وذات مردود خطير في عواقبه. الكسب السريع فقاعة وهو بمثابة الضجة الإعلامية التي تعقبتْ التمساح الذي ظهر في الديوانية. هل هو وحيد أم بصحبة زوجة وأطفال وربما أقارب وأصدقاء، حتى أننا لم نسمعْ أحدا سأل عن مصيره: هل سيوضع في المتحف أم أن المساحي والسكاكين قد أخذت منه وطرا!
أقول: إن برلمانيين يضعون مسلسلا تلفزيونيا عاديا، رغم حساسية موضوعه، في محاضر مجلس النواب لمناقشته أمام الملأ، وأجهزة الإعلام المحلية والدولية، ثم إصدار قانون بمنعه، إنما هو انعكاس لممارسة عقلية التوافقيات التي شلت البلاد وخلّفتها، وهو في جوهره طفحٌ لوعي ثقافي ndash; اجتماعي سائد مرتبك ومتدهور، لم يفقْ بعدُ من التزييف والدمار والانهيار الذي أوصله إليه النظام السابق، ولا من الأوضاع المزرية التي أعقبت الإطاحة به بفضل الاحتلال.
يبقى السؤال الملح والمؤلم الذي يحمل جوابه في عبّهِ: هل تقع الثقافة العراقية اليوم فعلا بين فكي تمساح الديوانية وسيوف مسلسل الحسن والحسين الهزيل؟