الصراع على السلطة
تتخذ الأوضاع في العراق أبعادا وأوجهها متعددة، شرسة وانفعالية في بعض مفاصلها، تدعو غالبية المواطنين ومعظم المراقبين للقلق والحذر والتوجس من انزلاق البلاد إلى الشلل التام. على أن ما يجمعها ثلاثة أشياء هي: أن ما يجري ذو خلفية سياسية، يعني ثمة صراع مرير واضح على السلطة يحركها خفية وعلنا يصعب على مديريه التحكم بجميع حلقاته مما يجعله منفلتا فيبدو أحيانا وكأنه صراع عشائري، أو أنه يقاد من قبل شياطين وليس من قبل سياسيين انتخبهم الناس ليخدموهم ويُؤدوا واجبهم الوطني. أما من يقول: إن هذا الصراع ليس سياسيا على السلطة والمواقع فهو يخدع نفسه لا غير. ومن يكرر حاليا: إنه صراع طائفي فإنما يريد تمرير طبخته وأخذ حصته من السلطة. لأنه كيف يمكن لهذا الطرف السياسي أو ذاك أن ينفذ برنامجه وسياسته بدون سلطة؟ وإلا أصبح كمعلم في صف فارغ. ثانيهما، يتمثل في تناقض الطموحات والمساعي والرؤى السياسية لهذه القوى المتصارعة التي تجتر شعاراتها وأساليبها وأخطاءها السابقة بدون مراجعة للذات وللبرامج. ثالثهما، معظم quot;المنازلاتquot; لا علاقة لها بمصالح البلاد العليا ولا بهيبة الدولة أو الحكومة كما أنها لا تحتكم في مجملها لقانون ودستور، لأنها تلجأ إلى أساليب صراع مفتعل ومكشوف، يجعلنا في ظل مجريات الأحداث شهودا على quot;مصارعة أميركية حرةquot;، تجعل معظم الأطراف مدعاة للتندر...
يسعى البعض مثلا لتأجيج صراعات جديدة وإحياء عداوات قديمة اصطنعتها الأحداث في غضون السنوات الثلاثين الأخيرة، بغية تقزيم الخصوم لتحقيق مآرب سياسية وسواها. مثل هذا الوضع لا يخدم الدولة بل يشفي غليل أجندات إقليمية ودولية ومحلية، ترى في تشتت العراقيين مصلحة لها.
حان الوقت لكي يفهم سياسيو العراق أننا بحاجة على سياسة متوازنة معتدلة ذكية بعيدة النظر، هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى، أن لا مصلحة للبلاد في إثارة الحساسيات مع أحد، خصوصا مع دول الجوار، وعلى العراقيين أن يدركوا حقيقة أن البلاد غير بعيدة عن سطوة النفوذ الأميركي إطلاقا، لذا ومن أجل مصلحة البلاد العليا أن توضع العلاقة مع هذه القوة العظمى في أبعادها وإطارها الآني والإستراتيجي الصحيح بما من شأنه خدمة مصالح البلاد العليا ومستقبل العراقيين، بدون مزايدات وشعارات فارغة وتشنجات وسعي لكسب سياسي رخيص على حساب مستقبل البلاد، طالما أن مصير جيلنا والذي قبله قد تمت استباحته من قبل السابقين واللاحقين. إن الولايات المتحدة الأميركية تتحمل مسئولية أخلاقية وتاريخية في مساعدة العراقيين في الخروج من النفق المظلم.
سبق وأن ذكرنا في مقالات سبقت تشكيل الحكومة الحالية، بأن حكومة تتشكل على قاعدة quot;العراضات والهوسات العشائريةquot; أو على أساس quot;شعيط ومعيط وجرّار الخيطquot; لن تنجح إطلاقا. لقد ثبت، في فترة وجيزة، بالأدلة القاطعة صحة ما ذهبنا إليه. وعليه فأما أنْ يُصار إلى تشكيل حكومة لها مقومات الحكومة في ممارسة مهامها وخدمة البلاد، فتكون مسئولة بالكامل، أمام الشعب ورب العباد والتاريخ، يمكننا محاسبتها إن فشلت وتعثرت، وشكرها إن نجحتْ، أسوة بكل الممارسات الديمقراطية في العالم، وأما أن نبقى نرضي هذا الطرف أو ذاك فتعم الفوضى ويصبح من السهولة التنصل من المسئولية، ونبقى نلوك في مناسبة وغيرها شعار: الحفاظ على مشاركة الجميع في السلطة. إن مثل تلك المشاركة أمرٌ نبيل، لكنه طوباوي في الواقع السياسي العراقي الراهن الذي يتطلب الوضوح والدقة وسرعة اتخاذ القرارات وتنفيذها. لقد أصبح الوضع السياسي العراقي الراهن متشنجا ومثيرا للسخرية والتندر في المحافل الدولية والعربية الخاصة والعامة. إذ يبدو الحكم وكأنه جامعة تضم طلابا(بعضهم مبعوثون أجانب) لا تجمعهم شراكة سوى الدروس والامتحانات وبعد انتهائهم ينفضون ليذهب كل واحد إلى بيته. هل على الحكومة في أي مكان كانت، أن تكون بمثابة الجامع والجامعة أو البازار؟ ثم أين هي أسرار الحكومة والدولة وخصوصيتها إذا كان كل شيء مباحا ومكشوفا؟
كيف يا ترى يمكن قيادة دولة تم تدميرها بالكامل بطريقة quot;الحكم بالجملةquot;؟ كيف يمكن إعادة بنائها في ظل صراع الإرادات العنيف وحتى اللامسئول والضغوطات الهائلة داخليا وإقليميا ودوليا؟ كيف يمكن محاربة الفساد والمفسدين وتعديل الدستور وإصلاح مؤسسات الدولة وفصل السلطات واستقلالية القضاء؟ كيف يمكن بناء اقتصاد مدمر وتقديم الخدمات لشعب يئن تحت ساطور واقع مرير ومخلفات ماض قريب بغيض بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى وقبح؟ كيف يمكن ضمان أمن الناس وتخليص البلاد من الإرهاب وكواتم الصوت؟ متى تنفذ سياسة إعادة الكفاءات الكبيرة التي بدونها لا يمكن التعجيل بإعادة تعمير البلاد ونهوضها؟ كيف يستطيع العراق مواجهة التحديات الإقليمية وشحة مياهه ومنافذه البحرية ومحاصرته من كل صوب وحدب طالما بقي السياسيون يتقاتلون على الكراسي بطرق بدائية؟
كيف ومتى يمكننا مواجهة الإرث الثقيل من الخراب البيئي والنفسي والجسدي والعقلي الذي تعرض له الإنسان العراقي عبر الأربعين سنة الأخيرة؟ كيف ومتى يمكننا الشروع بإعادة اللحمة للنسيج الاجتماعي العراقي المزركش المتعدد الأعراق والأديان والملامح الذي جرى تقطيع الكثير من خيوطه؟
أعتقد جازما، أنه لو حكم العراقَ اليوم نبيٌ أو فريق من الأنبياء لفشل في حكمه، في ظل التجاذبات والتناحرات القائمة في واقع quot;حكومة الشراكة الوطنيةquot; الحالي.

أربعة سيناريوهات تنتظر العراق
يبدو أننا أمام السيناريوهات التالية:
السيناريو الأول: يتمثل في ترشيد أو كما نسمع quot;ترشيقquot; الحكومة الحالية. يعني تقليص عدد الوزارات التي ضربت رقما قياسيا عالميا في الترهل وانعدام الكفاءة. غير أن مثل هذا المسعى سيصطدم بفكرة quot;الشراكة الوطنيةquot; التي تستشهد بها شرائح سياسية معينة بمناسبة ودونها، ولا أعتقد أنها ستقبل بهذا الحل الذي سيفقدها بعض المناصب. وسبب رفضها يعود إلى أنها تحالفات لقوى متعددة، متنوعة ومختلفة المشارب(جمعت بعضها الصدف) هي بدورها تريد أن تكون فاعلة بهذا القدر أو ذاك. إلا إذا تنازلت كافة الأطراف عن نسبة من الامتيازات التي حصلت عليها بعد تشكيل الحكومة. وهذا السيناريو له مزالقه ومخاطره المتمثلة ببقاء العلة ذاتها. أقصد، أسباب المشاحنات والتشنجات والغيرة وانعدام الثقة بين الأطراف المتنفذة والتنصل من تحمل المسئولية. في ظل مثل هكذا حكومة هل سأل السياسيون أنفسهم: كيف يمكنهم التوجه إلى الانتخابات المقبلة، ووفق أي برامج؟ هل ستكون بناء على مبدأ quot;حكومة الشراكة الوطنيةquot;، يعني حكومة المحاصصة، وإذا كان الجواب بلا، فأين هي المعارضة؟ ثم لماذا على الناخبين أن ينتخبوا كل هذه الشرائح غير المتجانسة؟ أليس من حقهم أن يحصروا أصواتهم في ثلاثة أحزاب أو أربعة بدلا من مائة؟

السيناريو الثاني: إبقاء الوضع على ما هو عليه الآن بترقيعه، حتى لو تم سد الشواغر في التشكيلة الحكومية الحالية. وهذا ما لا يستطيع الناخبون أن يتحملوه، نظرا لأن الحكومة ستبقى تشكيلة معطلة وبالأحرى quot;لَملوماquot; تعاني من الشلل وغياب التضامن وسلامة القصد وانعدام الثقة بين الأطراف المشاركة فيها والتي يعود قسم منها إلى ما قبل الانتخابات، والآخر وليد فترة ما بعد الانتخابات. كل ذلك سيدفع البعض لتصيد الفرص التي من شأنها التنكيل بالحكومة ودفعها للانهيار.
فلنقل بوضوح، بناء على المعطيات المتوفرة: هناك من يسعى لتصعيد المواقف والأوضاع في البلاد وتأزيمها لغايات تكتيكية وإستراتيجية لم يعد الناس بغافلين عن دوافعها وأهدافها.
السيناريو الثالث: حل مجلس النواب والحكومة وإجراء انتخابات برلمانية جديدة. وهذا الحل يبدو للوهلة الأولى بمثابة البلسم الشافي والأكثر جذرية، لكنه من الناحية العملية، سيكلف البلاد أموالا طائلة في الوقت الذي يهدر فيه المال العام من خلال الفساد المستشري من جهة وترهل مؤسسات الدولة من ناحية أخرى. وإذا ما تركنا quot;التكاليفquot; التي لا يكترث إليها غالبية السياسيين، فما علينا سوى التركيز على الخلاصة، يعني إلى ماذا ستفضي هذه الانتخابات المفترضة؟ هل تعلّمَ الناخب العراقي في غضون سنة ونيف شيئا جديدا يتمثل في انتخاب مرشحين حقيقيين ويرمي بالموجودين خارج العملية السياسية؟ لست منحازا إلى الجواب، بنعم في هذه اللحظة، لأن غالبية الشعب ما زالت مقسمة من حيث الولاء الطائفي والمذهبي والديني والقومي والمناطقي والعشائري. كما وأنه لم تولد تنظيمات ولا نخب سياسية جديدة مؤهلة لسد الفراغ السياسي حاليا. نحن نحتاج إلى دورة انتخابية لكي يتأكد ويقتنع الناخبون تماما من فشل هذا الحزب أو التحالف أو التكتل ونجاح ذاك، ناهيكم عن غياب المعارضة الفعلية ذات البرنامج والمشروع السياسي الواضح في الساحة إذا ما استثنينا بعض القوى غير المقررة أساسا. ثمة سبب آخر ربما يمنع التوصل إلى إجراء مثل هذه الانتخابات ألا وهو موقف غالبية القوى المؤثرة التي تتوجس من زوالها من الساحة وبالتالي سترفض التصويت برلمانيا على إنجاح هذه الفكرة.
السيناريو الرابع: تشكيل حكومة أغلبية سياسية بعيدة عن التخندق الطائفي والفئوي والحزبي تضم الأطراف الراغبة في المشاركة في حكومة أغلبية يكون هدفها نقل البلاد إلى مرحلة جديدة من التلاحم ووضوح البرنامج والمسئولية، بعد أن تتعهد قوى الأغلبية بالعمل الجماعي كفريق إداري وليس حزبيا، وفي حالة فشل هذا الوزير أو المسئول تجري محاسبته واستبداله بآخر أكفأ منه. إن من شأن هذا السيناريو أن يوضح المسئوليات ويخلق معارضة برلمانية بناءة تراقب عمل السلطات التشريعية والتنفيذية ورئاسة الجمهورية.
في ظل حكومة من هذا النوع يمكن محاسبتها شعبيا وبرلمانيا، ويمكن للمعارضة البرلمانية حتى المشاركة في التظاهرات السلمية. أما أن تشارك في الحكومة وتشترك في معارضتها في السر والعلن فهذا نفاق سياسي وعبث لا يمكن تقبله إطلاقا؟ أن تشارك، يعني بوضوح لا يقبل اللبس: أن تتحمل مسئولية الإخفاق والنجاح. لأن مفهوم الشراكة يعني في كل شيء وليس فقط في جني المكاسب. بناء على ذلك، نرى أن السيناريو الأخير قد يشكل مدخلا سليما لتأسيس واقع سياسي عراقي جديد، ووضع اللبنات الأولى على طريق خلق نخبة سياسية حاكمة في البلاد يمكن التعويل عليها واحترامها داخليا وخارجيا، تكون مسئولة عن نجاحها أو فشلها. في كل دول العالم المتحضر يريد الناخبون أن يروا مَنْ عمل بجد وإخلاص فخدمهم، ومن لم يعمل لكي يحاسبوه عبر صناديق الاقتراع. أما الآن فلا يمكننا أن نضع مسئولية تدهور الأوضاع والخدمات في البلاد على طرف دون سواه في ظل مشاركة الجميع في السلطة.