النهاية والبداية
يقلد الناس بعضهم بعضا حتى وهم لا يشعرون بذلك. وعليه فالإنسان السويّ يأخذ بما هو نافع ومفيد ويترك ما عداه وكذا الشعوب، ونقيضه(ها) يفعل عكس ذلك. من هنا يصبح من حقنا أن نسأل: إذا كانت البشرية المتحضرة اليوم وهي تتسابق فيما بينها في مجال العلوم الصرفة والإنسانية والأصعدة الثقافية كافة، وكذا الحصول على التقنية الخاصة بالفضاء الخارجي، وفك طلاسم الجينات البشرية والحيوانية والنباتية، والبحث عن الطاقة البديلة، تنفق أموالا طائلة في البحث والتقصي والخلق والإبداع ومحاولة الكشف عن الجديد، بحيث انخلقت آلية للتطور ولدت اندفاعا لا يمكن إيقافه، أقول: لماذا نحن سكان البلدان العربية غائبون ومغيبون عن هذا الواقع؟ إذا كنتُ طرحت هذا السؤال مرارا وتكرارا قبل ثلاثين سنة وأعدته فيما بعد، فلنضعه جانبا وننتقل منه إلى ما هو أبسط، لكنه أكثر مرارة وتدميرا ونسأل أيضا: حسنا، إذا كانت الشعوب المنظمة والمتطورة قد مرتْ قبلنا بتجارب دموية ندموا على فعلها وأخذوا يكفرون عن ذنوبهم بالانتقال إلى مرحلة جديدة تصان فيها كرامة وحقوق وحرمة الإنسان، وحقه في اختيار الملبس والمأكل والدين والملة والطائفة والحزب وحرية التجمع وتداول السلطة سلميا. إذن، بعد صراعاتهم المريرة ذات الخلفيات الاقتصادية، القومية، الدينية، والطائفية التي استنزفت لقرون قواهم البشرية والاقتصادية والبيئية ودمرت بلدانهم، أفاقوا من كبوتهم بعد أن استشعروا مضيعة الوقت والروح والمال، فتوصلوا إلى ضرورة خلق مرحلة جديدة متحضرة تعتمد على مبدأ التعايش السلمي فيما بينهم، والاحتكام لمبدأ الخلق وروح التنافس العلمي والاقتصادي والثقافي ومن ثم التكنولوجي. على سبيل المثال، كانت مراجعة الذات من قبل الغرب ومن ثم تطوره، مصحوبة بعملية غربلة ونقد شديدين للماضي ومراجعة مستمرة للحاضر، بحيث خضعت كافة المسلمات الفكرية والقناعات الأيديولوجية والدينية والمذهبية الموروثة والسائدة لتلك العملية المتواصلة المتنامية من الشك وإعادة النظر.
أسأل، إذا كانت العوامل القومية والدينية والتناحر الطائفي، قد سببت في إلحاق دمار كبير بالآخرين قبلنا، فلماذا نريد بوعي وبدونه أن نسلك نفس الطريق متتبعين بداياتها الأولى المدمرة، بدلا من أن نضع عرباتنا على الخط السريع وفي آخر نقطة وصلتها البشرية؟ لماذا نتفنن في تصدير القتل والدمار والتخلف والفتاوى المخزية؟ لماذا نريد أن نمر خطوة، خطوة في طريق سيئة مدمرة مجربة من قبل الآخرين ممن نبذوها واحتقروها تماما؟ لماذا ندمر أنفسنا مع سبق الإصرار والترصد؟ أسأل، لأنني أستشعر الخطر المحدق بنا منذ عشرات السنين، مما دعاني إلى التنبيه إليه مرارا، ولست الوحيد في هذا المجال.

الطائفية والهمجية وتزييف الحقائق
تبدو لي الفتن الطائفية أخطر بكثير من الحروب العادية، ومن الاستعمار، بل حتى من الحروب الصليبية. بالنسبة للحروب تبدأ لكي تنتهي ذات يوم. فأما أن يهزم هذا الطرف ويفوز خصمه أو العكس أو التعادل بدون أهداف ولكن بخسائر فادحة كما حصل للعراق وإيران في حرب الثماني سنوات. لقد لاحظنا أن الاستعمار وقبله الحروب الصليبية قد وحّدت الملل والطوائف والأديان على اختلافها من أهل المنطقة بوجه الغزاة، دفاعا عن خصوصيتهم وأوطانهم. أصبح هناك خندقان: المعتدي وابن المنطقة- المُعْتَدَى عليه، ولا أريد أن أبالغ بدور المتعاونين مع الغريب المعتدي(يطلق عليهم أحيانا الطابور الخامس)، لأنهم متواجدون بهذا الحجم وذاك في كل زمان ومكان. بفضل ذلكم التلاحم تم طرد الصليبيين ودحر الاستعمار وتحرير البلدان، ولولا التخلف العقلي والثقافي وخيانة أو تذبذب وعقم الأنظمة السياسية في المنطقة لكنا لمسنا قطاف الاستقلال التام منذ زمن مبكر.
لكن، كيف يمكن التخلص من محق التخندق الطائفي والمذهبي حينما تروج له شرائح وأوساط متنفذة من أهل المنطقة؟ أوساط تفتي بالملاحقة والقتل والتكفير والتخوين والبحث عن السحرة والمشعوذين والمفسدين والمخالفين عقيدة، ومذهبا، وطائفة، وسياسة، وملبسا ومأكلا؟ كيف يمكن لملمة الفخار بعد تكسيره وتهشيمه؟ حينما تقاتلَ الآخرون قبلنا على خلفيات دينية وقومية وطائفية، كما حصل في إسبانيا وفرنسا وبين فرنسا وألمانيا وبين هتلر والمناهضين له، على سبيل المثال لا الحصر، لم تكنْ هناك قوة ذات وزن من خارج أوروبا(باستثناء اليابان غير القوية وقتها) تدعم ذلك التناحر وتطيل من أمده فتجني ثماره لصالحها.
ما يجري في البلدان العربية أمر مختلف تماما ومخيف. فالبلدان العربية مستضعفة متخلفة وخصومها أقوى منها، لذا فإن عواقب الفتن الطائفية يمكن أن تقضي على المنطقة وتطلعات شعوبها برمتها. هنا، إذن يكمن الخطر الذي اشرنا إليه. نحن داخل الحي الواحد، المنطقة الواحدة، المدينة الواحدة، والبلد الواحد، العشيرة الواحدة، يمكن أن يكون انتماؤنا الطائفي أو المذهبي أو الفكري أو حتى القومي مغايرا وهذا أمر طبيعي. لذا فمسألة إذكاء الفتن على أساس المذهب والطائفة يمكنه أن يقوضنا من الداخل بلا استثناء.
إن الجهل بالدين وتفسيره بطريقة انتقائية ملتوية قد تحرفه عن جوهره وتجعله فرعونا وليس عونا، مدعاة نقمة وليس رحمة، ممرا للتخلف لا للتآلف والتواصل والتراحم. كل حاكم أو فقيه أو مواطن لابد وأن يكون من هذا المذهب أو ذاك، من هذه القومية أو تلك. إذن فنحن مختلفون لكن معيار العدل والإنصاف واحد. حينما يطبق معيار الطائفة الواحدة على بقية الطوائف والأديان فرضا يكون مدعاة للفرقة والازدراء. لنتخيل: لا يُعيّنُ شخص في موقع في الدولة، ولا يعقد مهرجان ثقافي أو مؤتمر علمي أو قضية ويدعى المعنيون إليها من خارج نطاق الولاء والانتماء الطائفي أو السياسي وإن تم ذلك فإنما بغرض التحييد(ربما لشراء الذمم) وذر الرماد في العيون. قد يأتي يوم يخاف المرء أن يكون اسمه من قبيل عمر، وعباس، وحسين، وعثمان، وفاطمة، وعائشة، وقد يلحق بالقائمة محمد، وعلي، وموسى، وعيسى، ومريم...!
قال تعالى: quot;يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبيرquot;(الحجرات: 13). إن الكتب السماوية حافلة بالآيات الداعية إلى الخير والتفاهم وليس إلى قتل الإنسان وذبحه وتسخير المتطوعين والأموال وإصدار الفتاوى بملاحقة البعض للبعض الآخر تحت ذريعة quot;الخروج عن الدينquot; أو عن quot;الأعرافquot; أو quot;السلف الطاهرquot; أو أن quot;خلافة الرسول ينبغي أن تكون بيد هذا لا ذاكquot; وكأن على التاريخ أن يعود القهقرى ويتم صياغته من جديد بحجج واهية موهمة وخيالية محضة من قبيل quot;إحياء الخلافة الإسلاميةquot; أو إعادة ترتيب الأمور من جديد. أقول: لن تعود الخلافة مطلقا، والماضي تاريخ لا غير، فلم مضيعة الوقت والجهد والمال والأرواح، بدلا من التفكير بالاهتداء بالقيم الإنسانية الحضارية والتفكير ببناء حياة جديدة تستحق العيش لا الندب والبكاء والتحسر على الأيام الخوالي؟
ثمة أصوات وجماعات إسلامية تقض مضاجعنا، ما تزال تؤمن بالطرق والأساليب الفاشية والبربرية، حتى أنها مستعدة باسم الدين لأن ترتكب أبشع ما ارتكبته النازية من تطهير عرقي ومذهبي، بتسويق فكرة quot;هلاك ثلث الأمة لنجاة ثلثيهاquot;! لعلّ من بين أخطر الممارسات المتفشية وسط quot;فقهاء الظلامquot; هو اعتقادهم بامتلاك الحقيقة دون سواهم. حتى أصبحنا نشم رائحة الموت والكافور من خلال السعي لتحويل الطائفة الفلانية والمذهب الفلاني إلى كيان يرقى إلى مصافي الدين ذاته. لقد دخلت الكراهية إلى المناهج الدراسية في بعض البلدان العربية بمباركة المفتي ورجل السلطة. يدل ذلك بلا لبس على أن النظام العربي برمته لا يمكنه بمواصفاته الراهنة سوى أن ينتمي إلى العصور الخوالي. لذلك بدأ بالانهيار بهذه الصورة المشرفة لمستقبل المنطقة والمخزية للمتشبثين بالسلطة وبالكراهية.

كرهُ الآخر= كرهُ النفس
هناك مصاهرة وعلاقة جدلية ما بين الفقيه التقليدي والحاكم المستبد. يبدو أن أنظمة الحكم لا تبتعد كثيرا عن المنطق الذي يحكم القبيلة والعشيرة والعائلة والقرية بالاستناد إلى فكرة الأبوة والمشيخة. لم تتزحزح طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم منذ قرون. ذات العلاقة جيرها كلٌّ من الفقيه والسياسي لصالحهما فمنحا نفسيهما لقب الوسيط بين الناس ورب العباد، فأخرجا ذاتيهما شيئا فشيئا من دائرة المساءلة باعتبارهما quot;وسيطين نزيهين معصومينquot;.
إن الذي يكره الآخر المختلف لابد وأنه يكره نفسه أيضا. ومن يغالي في التمترس في حدود طائفته وملته ومنطقته وتقديسها لن يرى أبعد من أرنبة أنفه. ثم من قال: إن الإسلام وحده يمتلك الحقيقة المطلقة؟ لا يملك الحقيقة إلا الله، وما الأديان برمتها سوى صور لتبيان تلك الحقيقة. فدورها إذن هو تبصير بني الفانية بذلك، دون فرض الوصاية عليهم. إن الناطق الرسمي باسم الإنسان هو فقط مقدار ما يمتلك في داخله من نور ومنفعة وإنسانية وحب الخير ونشر محبة الآخرين وليس انتماؤه لهذه الطائفة وتلك، لهذا الدين وذلك.
إن ما تم تحبيره عن quot;النجاساتquot; وquot;كيفية الوضوءquot; وquot;البحث عن الهلالquot; وquot;أهوال يوم القيامةquot; يفوق آلاف المرات ما كتب فيما من شأنه رفعة الإنسان وتقدم الأمة وصيانة حقوق الناس واحترام رأي واجتهاد الآخر. هل نسينا ما قاله الخليفة الراشد عمر بن الخطاب(رض): quot;ثلاث تثبت لك الودّ في صدر أخيك: أن تبدأه بالسلام، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحبّ الأسماء إليهquot;. ما يجري اليوم هو عكس ذلك تماما، يعني التفنن في ركل الآخر وتشويهه وإيذائه، وقتل الإبداع فيه، وملاحقته في بيته وطريقة تعامله مع عائلته، وتكفينه بالبراقع والموانع وهو حي، بل والسعي لمحوه من الوجود. أما الحجة فدائما جاهزة: quot;الاقتداء بسيرة السلف الصالحquot;، أو quot;تنقية الأمة من الشوائب والملاحدة والكفرة والمنحرفينquot;. فهل من المعقول، أنّ رب العالمين لم يخلق غير فئة محدودة صالحة، عاشت وماتت، وما علينا سوى اقتفاء أثرهم ومتابعتهم بشكل أعمى وهم في قبورهم رماد، ثم فرض أساليب ينبغي على المؤمن تطبيقها بقوة الحديد والنار، وبخلاف ذلك فهو منحرف وزنديق وما شابه ذلك. ألم يقل الغزالي ذات يوم: quot;وكان في الصحابة عشرة آلاف فما خفّ أيام الفتنة أكثر من أربعين رجلا!quot;(كتاب آداب العزلة). إذن فما هو هذا التاريخ غير المتجانس الحافل بالكذب والرياء الذي نُدعى إلى اقتدائه؟ كل شيء خارج الكتب المقدسة هو تأويل وتفسير واجتهاد قد يصيب وقد يُخطئ.
إن ما يدفع المسلمين اليوم إلى وحل التخندق الطائفي الذي أصبح اليوم لدى الشعوب المتحضرة في عداد الممارسات التي تنتمي إلى الماضي السحيق المتخلف الهمجي، هو صنيع عوامل عديدة لعل من بين أهمها نذكر ما أشار إليه الفقيه أبو عبد الرحمن طاووس(654-725م) حينما سئل، بعد أن اعتكف في بيته، عن السبب فقال: quot;فساد الزمان وجيفُ الأئمةquot;. ونقول أيضا، تحكم البداوة وضعف وتخلف وتحجر المنطقة فتدهور مناعتها، بحيث سيطر العامل الخارجي على سواه في تسييرها وتشويه الحقائق لديها. كيف يمكننا فهم أنفسنا والآخر بدون توفر حسن النية، بدون الانفتاح وحب المغامرة، لا الانكفاء والتواكل على الأحاديث والخطب الرنانة المندثرة. نرى حتى وإن توفر دفق من الاستعداد وحسن النية فإنه يوضع في غير محله، كما فعل (السيد قطب) ذات يوم قائلا: quot;حينما كنا طلابا في أمريكا كنا نمارس عزلة شعورية، تُشْعرنا أننا لا ننتمي لذلك المجتمع من حيث الأخلاق والثقافةquot;. إنه لأمرٌ غريب، أنْ يحجرَ المثقف أو طالب العلم والمعرفة نفسه ويتمترس في حدود ضيقة مرسومة له سلفا. إن تفسير ذلك يعود إلى انعدام الثقة بالنفس أولا وبالآخر ثانيا. لأته لو كان المرء واثقا من نفسه لما عرضها لانعزال مضرته أكبر من منفعته. لأن مثل هكذا انعزال يعني غير ما ذكره السلفُ في مديح العزلة بغرض المعرفة والتأمل والعبادة. قال ابنُ سيرين: quot;العزلة عبادةquot;.
أين ذهبت يا ترى محبة الإنسان التي غمرت قلوب المؤمنين الأوائل؟ أخاف أن تكون نبوءة الإمام علي بن أبي طالب قد بدأت تتحقق، قال: quot;يأتي يومٌ على الناس زمانٌ لا يبقى فيهم من القرآن إلا رسمُه، ومن الإسلام إلا اسمُه، ومساجدهم يومئذ عامرةٌ من البناء، خرابٌ من الهدى، سكّانها وعُمّارُها شرُّ أهلِ الأرض، منهم تخرج الفتنةُ، وإليهم تأوي الخطيئةُ؛ يَرُدّونَ مَنْ شذّ عنها فيها، ويَسوقونَ مَنْ تأخرَ عنها إليها. يقول اللهُ سبحانه: فبِي حَلَفتُ لأبْعَثَنّ على أولئك فتنةً تتركُ الحليمَ فيها حيرانَ، وقد فعلَ، ونحنُ نستقيلُ اللهَ عثرةَ الغفلةِquot;(نهج البلاغة).