من مفارقات التاريخ وأحكامه ليس أنه لا يرحم فحسب، إنما ثمة تشابه بين بعض أحداثه وتطابق شبه كامل في تصرفات من طفا فوق سطحه من المتجبرين. فلو نظرنا إلى الديكتاتوريين للاحظنا أن المشتركات بينهم كثيرة إلى درجة استنساخ أحدهم ولصقه بالآخر. فإذا كانت شهوة السلطة والقسوة والتشبث بالكرسي حتى الرمق الأخير هو الشائع من صفاتهم، فإنهم يسعون إراديا ولا إراديا لمنح أنفسهم أوصاف وألقاب هي أقرب ما تكون إلى أسماء الآلهة وصفات القديسين والأنبياء. لقد ألصقت بستالين صفات من قبيل: العنيد والرجل الصلب والموحد والمراوغ البارع والماكر والمفكرquot;الكتابات المنسوبة إليه حول اللغة والمسألة القومية)quot;. نفس الأوصاف تنطبق تقريبا على هتلر وموسولليني وأشباههما.
على أن ما يلفت النظر حقا في مجال المتشابهات والمتطابقات هو شيئان: الأول هو ما ينسبه الطغاة العرب لأنفسهم من quot;مقارعة الاستعمار، وتوحيد الصفوف، والدفاع عن الحريات ومصالح الشعبquot;، والثاني، هو منح أنفسهم رتبا عسكرية وأنواطا ونياشين من جهة وإضفاء طابع التأمل والتفكير على تصرفاتهم من جهة ثانية. قد يكون هذا السلاح مؤثرا في أمة مبتلاة بالتخلف والأمية! فأبو (عدي) مثلا، أصبح مؤمنا ومؤلفا بين عشية وضحاها(صدرت باسمه بعض الأعمال الأدبية)، وأبو (سيف الإسلام) صار منظرا ومفكرا وقاصا(صدرت له مجموعتان قصصيتان وقبلهما الكتاب الأخضر). والكل يعرف أن هذه الكتب الهزيلة فنيا وفكريا قد كتبها أشخاص استلموا مقابلها أموالا طائلة لا تقل عن تلك التي استلمها مَنْ كتب عن هؤلاء quot;المفكرين البارعين من الساسة العربquot;. هذه الأوصاف التي روجت لها أجهزة خاصة وأغدقت عليها الكثير من أموال الشعوب العربية لا يمكن مقارنتها بما فعله تطوعا(أو ربما لقاء قنينة فودكا وعلبة كافيار) أحدُ الأدباء السوفيت الذي ألف كتابا نسبه لسكرتير الحزب الشيوعي (لئونيد بريجنيف) الذي أصبح بفضله فيما بعد عضوا فخريا في (اتحاد كتاب الاتحاد السوفيتي) سابقا.
بيد أن صفات من قبيل quot;القائدquot; أوquot;قائد الثورةquot; أوquot;المفكر والمنظر والمخطط الاستراتيجيquot; تبدو مثلا للعقيد معمر القذافي غير كافية، متجاهلا وقبله (أبو عدي) حقيقة أنه لا يستطيع أن يقول أو يكتب جملتين مترابطتين وسليمتين باللغة العربية. لقد عكست تصرفاته وأفعاله ومواقفه( الغريبة المتناقضة والبهلوانية، والأزياء المفصلة على مقاس أفعاله ومخيلته وعنجهيته ونرجسيته الفريدة، على مدى حكمه المديد- 42 سنة) شخصيته وطبيعة حكمه مقابل تقزز وتهكم واستهزاء الناس من ذلك. لقد ائتمنه الناس على حاضرهم ومستقبل أطفالهم فخانها مع سبق الإصرار والترصد. قال إنه quot;حرر الليبيين من الظلم والتخلفquot; لكنه جعلهم نهبا لعائلته وعبيدا له ولظلم نظامه ومسخرة للآخرين بسبب تصرفاته الغريبة. ذكر أنه quot;قائد الثورة ومفجرها ومحرر البلادquot; لكنه قام بتصفية معظم منافسيه ورفاقه في السلاح، بحيث أخذت نسبة كبيرة من الليبيين تحنّ إلى النظام القديم وتترحم على السنوسي. ثم استشهد مؤخرا بمواد من quot;الدستور الملكي السابقquot; تقول بإعدام كل منتهك له وكل من يفرط بترابه وأرضه وخيرات شعبه، وهو أول من خرقه ورماه إلى المزبلة. تحدث عن quot;كرامة وأنفة الليبيينquot; وهو الذي داسهما بالأحذية، وتحدث عن الحفاظ على ثروات الشعب وهو الذي فرّط بها ووزعها يمينا وشمالا محليا وإقليميا وعالميا بلا حساب أو رادع ولا ذمة أو ضمير، وتحدث عن quot; العدالة والاشتراكية وتوزيع الثروة العادل بين المواطنينquot; وهو الذي نهبها فأصبح وعائلته والمقربون إليهم من أكبر أثرياء العالم ورأسمالييها، بحيث أصبحت ثروته تقدر quot;بأضعاف ميزانية بلادهquot;!
تشدق بنظامquot;الجماهيرية الشعبية الليبية الاشتراكية العظمىquot; وقزّمها وجعلها quot;حكما وراثياquot; والدليل على ذلك محاولة تأهيل أحد أبنائه لخلافته. يكرر حتى الملل أنه ليس رئيسا ولا ملكا ولا حاكما لأن الحكم quot;للشعبquot; و quot;اللجان الشعبيةquot;، وهو الحاكم الفرد المطلق في البلاد. يتحدث عن الشعب ووحدته وهو الذي وصفه بأبشع الصور من قبيلquot; هؤلاء الجرذانquot; وquot;الحشراتquot; وquot;المخدّرينquot; وهو يعرف حق اليقين أن كبار المسئولين في حكمه يتاجرون بالمخدرات.
على أن الأنكى من كل هذا وذاك هو حديثه عن مصلحة البلاد العليا وأنه هو الذي وحّدها ولمّ شملِ أبنائها، لكنه ربط مصير وحدة شعبه وبلاده ببقائه في السلطة. لقد كرّسَ العقيد معادلة قديمة-جديدة هي: أنا فوق الجميع. يعني أنه طبق بشكل مقلوب تماما الشعار الذي رفعه سابقا quot;سلطة الشعبquot; بحيث تحول إلى شعار quot;سلطة الفردquot; وquot;عبادة الفردquot;، يعني، أنا الذي أمتلك الحل والربط والناس والأرض والسماء.
لكن السؤال المطروح هو: لماذا يريد أن يظل حاكما مطلقا على مواطنين وصفهمquot;بالجرذانquot; وquot;الحشراتquot;؟ وإذا أراد مواصلة دوره quot;كمرجع وراعٍquot; لليبيا، فكيف يمكنه أن يقنع أحدا بعد الآن، بعد أن قام بقصف الأبرياء بالصواريخ والطائرات والقنابل الحارقة الخارقة، وبعد حملات الترويع والتجويع والإذلال؟
كيف يمكنه أن يقنع المواطنين بأنه ليس المسئول عن سيادة المحسوبية والمنسوبية والرشوة وتجهيل وتخلف الجامعات والثقافة والمجتمع؟ تحدث عن خطر الإرهاب وهو الذي دعمه طوال فترة حكمه.
لقد اهتزت، في الفترة الأخيرة، المعادلة في نظره ونظر عائلته وزبانيته حينما أخذت المدنُ الليبية تسقط الواحدة تلو الأخرى، بعد أن أثبت معظم عقلاء وأحرار ليبيا، على كافة أطيافهم وأصولهم العشائرية والفكرية، أنه لم يعدْ في وسعهم إطلاقا تحمل هذه المهزلة وهذا الظلم المستشري وهذه العنجهية الفارغة وهذا السلب والنهب والتسلط الفردي، لأن مستقبل وطنهم وأبنائهم أهمُّ من طموحات وأهواء وجنون وتهور هذا الفرد أو ذاك. لقد كشف العقيد عن وجهه الحقيقي بمقته الشديد لكرامة وحياة مواطنيه بسفك دمائهم وتنظيم حملة تدميرية منظمة لمعارضيه تنفذها أجهزته الأمنية وأعداد ضخمة من المرتزقة الأجانب. ما الذي يضمن بعد الآن حياة الشعب الليبي؟ من ذا الذي يضمن لهم عودة المرتزقة إلى بلدانهم؟ من ذا الذي يضمن عدم سيطرتهم على مقدرات وشئون العباد والبلاد؟ ما الذي خوّل القذافي بقتل الأبرياء وتدمير وتشريد العوائل وانتهاك الحرمات ووضع مصير البلاد قاطبة على كف عفريت؟ ما الذي سمح له بفعل كل ذلك غير شهوة السلطة وحب البقاء فيها وشعوره بأنه هو المنقذ والمخلص الوحيد للشعب الليبي، وأن منْ ينتفض منهم ضده فهو quot;متآمرquot; وquot;تافهquot; وquot;مرتزقquot; يريد تدمير الدولة ووحدة البلاد؟ علينا أن نسأل: من الذي جند ألوف المرتزقة واستقدم الطيارين الأجانب من دول أوروبا الشرقية ممن تدربوا على طائرات من طرز قديمة وخرجوا من الخدمة كذلك، أقول: من وظف هؤلاء لضرب المتظاهرين والمدنيين العزل والتنكيل بعوائلهم وتدمير ممتلكاتهم ومدنهم غير رأس النظام المتغطرس؟ لقد استغفل العقيد طويلا عديدا من المثقفين والإعلاميين العرب والأجانب بشعارات برّاقة مغدقا عليهم مما ينهبه من أموال الشعب الليبي، فأمات ضمائرهم وقضى على آخر ما بقى فيهم من علاقة بجوهر الإبداع وشرف المهنة.
على أن ما يدعو للقلق والإشفاق حقا هو: لماذا فقدَ المستبدون العربُ الإحساسَ بالأشياء، والشعور بالكرامة واحترام النفس، ولماذا، كلما ازدادت درجة الرفض الشعبي العارم لهم ولسياساتهم التدميرية ولنهبهم المنظم لثروات شعوبهم وتدميرهم لهيبة دولهم، ولأساليبهم المتخلفة في النظر للحياة والعالم وللعلاقة بين الحاكم والمحكوم، لماذا تراهم يتعنتون ويتجبرون ويسعون لإحراق الأخضر واليابس بغرض البقاء ولو ليوم واحد أطول في دست الحكم؟ ما قيمة حاكم لا يريده شعبه؟ كيف يمكن لإنسان سوي أن يحكم أناسا يسخرون منه ويرمونه بالأحذية على مرأى العالم؟ لماذا فقد هؤلاء كل ما يمت لشرف البدوي، والمدني والقروي، والآدميّ المتوارث أبا عن جد؟ ثم لماذا فقدوا أدنى ما لدى اللصوص وقطاع الطرق من عادة عدم التعرض لجيرانهم ومعارفهم؟
نحن أمام مثال فريد غريب وعجيب وسريالي،على صعيد السياسة والحكم والسلوك، يتمثل في الفهم المقلوب لحاكم خرج لتطهير بلاده من محتليها الأصليين المتمثلين بالمواطنين.
لذا فليس غريبا أن نكون إزاء معادلة جديدة ذات صولات وجولات دموية ملخصها: أن الشعبَ ndash; معمر القذافي يزحف على ليبيا لتطهيرها من المحتلين الليبيين.