الاستحواذ على السلطة
من الطبيعي أن تكون الأحداث في تونس هي المحرك والباعث الأساس لمنطلق هذه المادة التي تتوخى الوضع العربي برمته. من نافلة القول إن الديمقراطية، فكرة وممارسة، هي وليدة أنظمة لمجتمعات غير عربية ولا إسلامية. فالعرب لم يمارسوها سابقا. ارتبط الحكم العربي على مر التاريخ بالإسلام الذي لا يرى غير مفهوم الخلافة وإن الحاكم هو عبارة عن خليفة الله ورسوله على الأرض، وإذا ما تم التطرق إلى فكرة الشورى فإنها لذر الرماد في العيون لا غير، لأنها لم تطبق كما ينبغي إطلاقا! حتى أن هذا المبدأ تم التحايل عليه بعد موت الرسول محمد(ص) مباشرة. وما إن انقضى حكم الخلفاء الراشدين، حتى جاء الأمويون فالعباسيون الذين لم يختلفوا عن بعضهم في هذا المجال، إذ اتسم حكمهم بالتوريث بغض النظر عن توفر الصفات المطلوبة شرعيا بالوريث(كان الشرع الإسلامي يقضي توفر شروط للخلافة وصفات للخليفة منها: العلم/بشئون الدين والأحكام الشرعية/، الكفاية/قادرا على حماية الحدود ومقاومة العدو، وإقامة الأحكام/، وسلامة الحواس)، ولا أعتقد بتوفر هذه الشروط في أي حاكم، حتى لو خضعنا افتراضا لمثل هذا اللون من الحكم.
كانت السلطات العربية مدعومة على طول الخط بلوبي من فقهاء المسلمين التقليديين الذين ارتبطت مصالحهم بتلك الأنظمة، لأنه كيف للمقلد أن يقف مع المجتهد والمتنور فكرا وشرعا! ثم أين ذلك المقلد اليوم، على سبيل المثال، من نزاهة وشجاعة سلفه التابع المحدث الثقة والفقيه أبو عبد الرحمن طاووس بن كيسان(654-725م) الذي ينقل لنا عنه أبو حامد الغزالي في مؤلفه(كتاب العزلة) ما مفاده: دخل طاووس على الخليفة هشام بن عبد الملك فقال: كيف أنت يا هشام؟ فغضبَ عليه وقال: لِمَ لمْ تُخَاطِبْني بأمير المؤمنين، فقال: لأنّ جميعَ المسلمين ما اتفقوا على خلافتك فخشيتُ أن أكونَ كاذباquot;.
على أية حال، مثل هكذا شكل وممارسة سلطويتين وشرعيتين قد تواصلتا فاستلمهما القرنان التاسع عشر والعشرون في المنطقة العربية على وجه الخصوص. فمازال الحاكم العربي يعتبر البلاد: شعبا وأرضا وسماء ملكا له. حينما سيطر المستعمرون على البلدان العربية سلطوا عليها من يحفظ لهم مصالحهم بعد رحيلهم الشكلي، ورغم quot;تبعيتهمquot; التي ينتقدون عليها إلا أنهم كانوا أكثر رحمة وتحضرا ممن أتوا بعدهم. بعدهم، جاءت مرحلة استلام السلطة من قبل العسكر أو أفراد وقوى عن طريق الانقلابات والمؤامرات، وتم تدريجيا تحويل الأحزاب التي ينتمون إليها إلى مؤسسة سياسية متسلطة وحيدة، بحيث أصبحت خانعة وخاضعة لمشيئة الفرد الواحد، والعائلة أو العشيرة الواحدة. وبهدف تلطيف سمعة الحاكم الفرد وهيمنة الحزب الواحد، تم فسح المجال صوريا لممارسة برلمانية قرقوشية، يقودونها خفية، فيجرون انتخابات تكون نتائجها محسومة سلفا لصالح الحاكم وحزبه الوحيد؟! وإلا بماذا نفسر سرّ بقاء وجوه فاشلة ممجوجة ومكروهة من قبل مواطنيهم، وجوه مسئولة عن القمع والفساد والبطالة وتدهور الحياة المعيشية لغالبية الناس، مقرونة باحتقار المواطنين والقوانين المدنية والشرعية وحقوق الإنسان، إضافة إلى بقاء دور الرقيب البغيض بكل أشكاله؟! تقول لنا تجارب الشعوب: كل سلطة مهما كانت طبيعتها ولونها تمارس كبت الحريات تحت أية ذريعة كانت يكون مصيرها الزوال والاستهجان لا محالة.
الغريب في الأمر، أن التقدم الهائل الحاصل في العالم، علميا وثقافيا وتكنولوجيا وانفتاحا على كل ما يدعم ويعزز دور المجتمع المدني في حياة المجتمع، لم يترك أثرا في المجتمعات العربية وحكامها، بحيث ظلت العلاقات التقليدية هي المتحكمة طالما أنها تخدم الحاكم الفرد وبطانته ومشرّعه التقليدي. إذن quot;هناك علاقة وثيقة بين النظام الاجتماعي الأبوي والنظام السياسي الاستبدادي. يتصرف الحاكم كأب وينظر إلى المواطنين كأبناء قاصرين، فيتوجه الملوك والأمراء والرؤساء إلى الشعب بمناداتهم: يا أبناءنا المواطنين ويا أهلنا في الضفةquot;(حليم بركات: الاغتراب في الثقافة العربية). نضيف أيضا: يا أبناء شعبنا العظيم، وقواتنا المسلحة الباسلة، وأحفاد صلاح الدين، ويا من وقفتم ضد العسف والطغيان، سنكون ساهرين على العدل وتطبيق القانون، وهلم جرا.

الفرد الواحد- الحزب الواحد إلى الأبد!
بادرت الأنظمة العربية لتطبيق شعار: مكافحة الإرهاب الذي رفعته الإدارة الأميركية السابقة، بصورة ملفتة للنظر. فهذه الجماعات الإرهابية ولدت أساسا جراء عسف السلطات العربية وقمعها للحريات بكافة أشكالها، وتبعيتها السافرة إلى الآخر الأجنبي. الغريب في الأمر هو أن هذه الجماعات الإرهابية، رغم تخلفها وهمجية أساليبها وعدائها لأنظمتها، ما تزال تحظى بدعم لوجستي ومالي من قبل بعض أجهزة الأمن وفقهاء الظلام يضاهي الدعم الذي تقدمه مخابرات الأجنبي. هذه الحالة تجعل الأنظمة العربية تبدو ذات نفع مزدوج فهي ضرورية للآخر في مكافحته قوى الإرهاب، والحفاظ على مصالحه. كل حاكم عربي متسلط مدعوم بأجهزة أمنية وقمعية خلقها بنفسه، وبما أن هذا الحاكم لا يخضع للمعايير الديمقراطية المتبعة في العالم المتحضر، فإن بقاءه لفترة طويلة في الحكم- والأمثلة كثيرة على ذلك- يجعل من تلك الأجهزة أدوات سلطوية تسلطية خاضعة له ولحاشيته، وبدلا من أن تكون مؤسسات مستقلة تابعة للدولة تستفيد منها كل تشكيلة حكومية لاحقة منبثقة عن طريق انتخابات تشريعية حرة.
إن آلية الحاكم العربي تستند على تحويل نفسه quot;الحاكم بأمر اللهquot; وجعل الحزب الذي ينتمي إليه بمثابة مؤسسة تابعة لإرادته فتنخلق بذلك معادلة أخطبوطية أساسها الفرد المتسلط وحزبه الوحيد الحاكم وأجهزته القمعية المنتفعة. ولأنه لا يوجد ضمانات لبقاء هذا الحاكم الفرد في دست الحكم، تراه يحيط نفسه عادة بثلة من أفراد عائلته وحلقة من المنتفعين - من حزبه والمؤسسات الأمنية والحكومية، وبعض أجهزة الإعلام التابعة له، كما يسعى هذا الحاكم quot;الجمهوريquot; إلى خلق تقليد جديد يستند على توريث الأبناء!!
على أنّ المفارقة المثيرة للسخرية هي أن يتحول هذا الحاكم الفرد بمرور الوقت إلى أداة ورمز لجماعته الذين يقومون علنا وفي السر بقيادة عملية سلب ونهب منظمة ومنتظمة، لأموال العباد والبلاد، حتى بدون استشارته أو إعلامه بذلك، محصنين أنفسهم بتجاوز القوانين والحرمات، واتباع أساليب الابتزاز والترويع بحق المطالبين بحقوقهم من أبناء الشعب، كما حصل أخيرا لتونس ولشعبها الباسل.
وعليه، فكلما طال عمر مثل هكذا سلطة في الحكم ازداد كره وبغض الناس لها، وأصبحت إمكانية الاقتصاص من الحاكم والمقربين منه وأعوانه حينما تحين الفرصة المواتية أمرا مفروغا منه. لذلك، فعقب أي تغيير للسلطة ترى مثل هؤلاء الحكام يهرعون بسرعة إلى الهرب خارج البلاد، حتى لو تعرضت بلدانهم إلى المخاطر الجسام. وإلاّ، فهل سمعتم بحاكم عربي قد ترك السلطة بالطرق الأصولية؟ وهل سمعتم بحاكم عربي استطاع بعد تغيير سلطته أن يبقى في بلاده ويموت في بلاده، شأنه شأن أي حاكم في العالم المتحضر؟ هل هرب هذا الحاكم بدون إراقة الدماء وبدون أن تقوم أجهزته السرية بالتخريب والتدمير بغية تشويه الخصوم، دون الاكتراث بمصير البلاد؟
لقد وصلت الأمور في السنوات الأخيرة إلى حد تنصل قسم من أسيادهم في الغرب منهم ومعاملتهم بازدراء واضح حتى في اللحظات المصيرية لهؤلاء الحكام. لقد خسر الغرب كثيرا بمواقفه المساندة لأنظمة القمع والحزب الواحد والفرد الواحد الذي يلصق بكرسيه كما لو أن هناك آلة قد لحمته بإسته إلى الأبد! إذن لم يعد الغرب بمستطاعه أن يتجاهل وإلى النهاية إرادة الشعوب العربية والشارع العربي كالسابق. كما وأنه لا يستطيع تقديم الدعم المباشر والمفضوح للأنظمة العربية التقليدية المقترنة بالفساد والتشبث بالسلطة بكل الوسائل، لأن دعمه المعهود أدى إلى خلق حالة عداء مبرر للآخر الأجنبي في الأوساط الشعبية العربية التي لم تعدْ تكترث أو تخاف من مثل هذا الدعم. وإلا فكيف نفسر التفهم العلني الأميركي - الفرنسي الحليفين التقليديين للنظام التونسي ورئيسه المخلوع، وتأكيدهم على: تفهم تطلعات الشعب التونسي وكفاحه من أجل الحرية وضد القمع والفساد؟!
هل كان نظام (بن علي) فعلا أكثر قسوة وفسادا من بقية الحكام العرب التقليديين الفاسدين الخانعين القمعيين الذين يتربعون على الكراسي منذ سنوات وسنوات وبقوة الحديد والنار والسجون والرقابة وقمع الحريات الفردية والعامة، الرافعين شعارات ديماغوجية فارغة مستهلكة(من قبيل: مواجهة التحديات ومقارعة الصهيونية، ومن أجل تطلعات الجماهير في الوحدة، ومحاربة الفساد والفقر والبطالة وأعداء الإسلام) وحجج أخرى واهية ومفضوحة؟ ثم، ألمْ يشترك الإرهابيون المسلمون ومغتصبو السلطة العرب في خلق حالة التداعي في المنطقة، وجعل الأجانب يهاجمون ويسخرون في السر والعلن من تخلف وهمجية العرب والمسلمين؟
بعد ذلك كله، ألمْ نصلْ حقا إلى حالة من الغثيان واليأس واحتقار الذات، من تكرار مشاهدة نفس الوجوه المقرفة- يوميا -لحكامنا الفاسدين؟ هل ثمة هناك حق إلهي لا نعرفه من حقوق الحاكم العربي الفرد، يوجب علينا تبجيله ومباركة ولادته وموته وهو على كرسي الحكم؟
إن مؤشرات واقع الحال ومجريات الأمور في الشارع العربي تدل على حالة جديدة من التداعي والترنح وفقدان الثقة بالنفس التي بلغها واستنفد كل مبرراتها (بما في ذلك غير الأخلاقية) نظام الحاكم الفرد وحزبه الأوحد وعائلته أو عشيرته الذين قادوا المنطقة إلى الاستبداد والخنوع والتخلف والفساد وسلب الحريات والتفريط بأموال الشعب والدولة، وجعل العرب مسخرة يتندر بها الآخرون. أقول: هذه المؤشرات تدل على ولادة جيل جديد رافض يتصفح الانترنت ويتداول الأخبار والصور الكترونيا وخلويا، ويشاهد ويسمع ما يدور حوله، مدفوعا بضغط متزايد من أوضاعه المزرية ومستقبله المجهول.
لقد وصل المواطن العربي إلى حالة الطلاق التام مع حكامه الفاسدين المتشبثين بالكراسي، حالة اغتراب حقيقية عن الواقع والحاكم، وراح يثق أكثر بنتائج التغيير عن طريق الخروج إلى الشارع للتعبير عن غضبه بعدما تأكد له أن هذا الحاكم الفرد وزبانيته قد ضمنوا لأنفسهم مسبقا نتائج صناديق الاقتراع، فهل ما يجري في تونس يعتبر حالة وبائية في المنطقة العربية، أم أنها فورة لا غير؟

حرر النص في 15 يناير/ك 2، 2011م المصادف 11/02/1432 ه