تمرّ في شهر أغسطس (آب) الحالي ثلاثة وعشرون عاما على رحيل الشخصية الفلسطينية الجدلية المهمة في قطاع غزة وعموم فلسطين، المرحوم الحاج رشاد الشوا (1909-1988)، إذ رحل عن دنيانا الفانية في أغسطس من عام 1988 عن عمر قارب الثمانين عاما، حفلت بالعديد من الإنجازات والأعمال الخيرية التي سوف يسجلها التاريخ الموضوعي المحايد لذلك الفقيد. والسؤال الذي سوف يتبادر لذهن العديد من القراء الفلسطينيين والعرب في ظلّ انشغالهم بالثورات التي تجتاح العالم العربي هو: ما الذي جعلني أتذكر اليوم ذكرى رحيل الحاج رشاد الشوا؟. وهو سؤال مهم لمن سوف يتبادر على أذهانهم، وسوف أطرح بموضوعية الأسباب التي جعلتني أتذكر هذه الشخصية في هذه الظروف:
أولا: التعثر والفشل الذي تعيشه الساحة الفلسطينية في القطاع والضفة بسبب تعنت وغطرسة الاحتلال عقب اتفاقية أوسلو التي أعطت الاحتلال ما لم يكن يحلم به في سنوات سابقة، مما يعني ضرورة البحث عن أفكار بديلة خاصة بمسألة حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي في ضوء أنّ الفلسطينيين منذ عام 1988 في المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد برئاسة الرئيس ياسر عرفات، وافقوا على قيام دولة فلسطينية ضمن حدود عام 1967 مما يعني ضمنا وصراحة الاعتراف بدولة إسرائيل ضمن تلك الحدود، وذلك ستة سنوات قبل توقيع اتفاقية أوسلو التي لم ينفذ الاحتلال منها أي بند، وإلا لكانت الدولة الفلسطينية ضمن تلك الحدود قد أعلنت في نهاية عام 2005 بموافقة الطرفين. إزاء هذا الفشل هل هناك أفكار مهمة للمرحوم رشاد الشوا ينبغي تذكرها والتركيز عليها من باب التأريخ الموضوعي، رغم أنّ قيادات المزايدة والبحث عن الكرسي والمال حاولت في ذلك الوقت اغتياله أكثر من مرة، رغم أنّه قدم من التسهيلات والمساعدات لأبناء شعبه في القطاع ما لم تستطع قيادات اليوم رغم تنسيقها العلني مع الاحتلال من تقديمها. وبالإضافة لذلك يدخل انقسامهم بين القطاع و الضفة عامه الخامس دون أن يتمكن إبن القطاع من السفر للضفة والعكس أيضا، بينما في زمن المرحوم رشاد الشوا وبجهوده الجبارة كنّا نتنتقل بسهولة من القطاع إلى الضفة والأردن أيضا. فمن ينصف هذا الفقيد ويكتب الحقيقة موثقة؟.
ثانيا: التشوية والتزييف الذي لحق بتأريخ السنوات الأربعين الماضية من الحياة السياسية الفلسطينية حيث يتصدرها أفراد عاثوا بالقضية وشعبها فسادا، ولم يتصدروا المشهد السياسي إلا باستخدام السلاح ضد مناوئيهم والمال لكسب المرتزقة والأقلام التي تحسّن صورهم القبيحة. وأنا ممن عاش سنوات داخل المقاومة وعرفت العديد من قياداتها من مختلف الفصائل أو الفسائل لا فرق، وعشت حصار بيروت كاملا طوال 88 يوما، وأصدرت عن تجربتي في الحصار كتابي (بيروت وعي الذات) عام 1984، لو كتبت ما أعرفه موثقا عن سلوك وفساد وجرائم تلك القيادات، لن يصدّقه لا عاقل ولا مجنون، سوف يصدقه فقط من عاش معي تلك التجربة وعرفنا معا تلك القيادات. ولن أنسى ذلك الصديق الذي قابلته في الأردن عام 2004 وكنّا سابقا في نفس التنظيم الفلسطيني عندما بادرني قائلا: كم كنت موفقا وواعيا عندما تركت التنظيم عام 1974 وذهبت لإكمال دراستك في القاهرة حتى حصلت على درجة الدكتوراة عام 1979 مما أهّلك لأن تعتني بأولادك الأربعة ليكملوا جميعا دراستهم الجامعية العليا في أكثر من عاصمة عربية وعالمية، بينما أنا أولادي الثلاثة لم يكملوا المرحلة الإعدادية بسبب بقائي في التنظيم متنقلا من عاصمة إلى أخرى حسب أهواء ومصالح المسؤول الشخصية.. هذا التاريخ الفلسطيني يتصدره المزايدون والتجار بإسم القضية بينما قليلون من يتذكرون المرحوم الحاج رشاد الشوا. ما يكاد يصيبني بالجنون أنّ بعض هذه القيادات التي تتصدر المشهد الفلسطيني اليوم بالمزايدة والصراخ والانقسام المشين بين الضفة والقطاع، كانوا من جيراننا في مخيم رفح أو مخيم خان يونس للاجئين الفلسطينيين، وعندما حصلت على درجة الدكتوراة في الآداب من جامعة الإسكندرية عام 1979، كانت أعمارهم لا تزيد عن خمسة سنوات، ولم يحصلوا على أكثر من شهادة الثانوية العامة بصعوبة وبعد رسوب عدة مرات، وفجأة بعد عام 1994 وإذا بهم من القيادات التي تصول وتجول، وتملأ أخبارهم القنوات الأرضية والفضائية، واستثماراتهم في عدة عواصم من القاهرة إلى عمّان إلى دبي، وبيوتهم أيضا وفيلاتهم في أكثر من عاصمة..والسؤال الذي يوصل للجنون: كيف وصلت لهم هذه الملايين وعرفت طريقها لهم وتاهت عن الوصول لي ولعشرات الأكاديميين الفلسطينيين الذين لو وضعت مؤلفاتهم في صف عمودي لكانت أطول من قامة أولئك الأقزام أصحاب الملايين، على حساب الشعب والقضية التي بسبب فسادهم تتراجع يوما وراء يوم، وسط امتداد الاستيطان الاحتلالي الذي يكاد أن يقضم غالبية القدس والضفة الغربية.
ثالثا: الصديق الذي يعرف الحاج رشاد الشوا أكثر مني، وبالصدفة المحضة أثناء حديث بيننا قبل أيام قليلة، تذكرنا أيامنا في قطاع غزة خاصة السنوات التي عشتها في مخيم رفح للاجئين الفلسطينيين في القطاع، وعرّج الحديث على الخدمات التي قدّمها والمسؤوليات التي قام بها المرحوم رشاد الشوا خاصة في فترة الاحتلال المباشر للقطاع من عام 1967 حتى اندلاع الانتفاضة الأولى في بداية ديسمبر عام 1987 وتوفي الحاج رشاد الشوا بعدها بحوالي ثمانية شهور، حيث كانت تلك التسهيلات تضاهي تسهيلات السلطة الفلسطينية التي تتعاون وتنسق وتتفاوض مع الاحتلال مباشرة، وهذا عند الجميع أمر ثوري ووطني وضروري، أما إذا قام بذلك الحاج رشاد الشوا أو غيره فهو مرفوض. أثناء حديثي مع ذلك الصديق ذكّرني بمحطات مهمة في حياة ذلك المرحوم التي سوف تسجّل له بأحرف مضيئة في التاريخ الفلسطيني ومنها:
كان المرحوم من جيل أوائل الفلسطينيين الذين توجهوا للدراسة في الجامعة الأمريكية في القاهرة عام 1934 حيث تخصص في السياسة والاقتصاد.
شغل منصب قائمقام في مدينة حيفا عام 1935، وكان على علاقة نضالية مع المجاهد عزالدين القسام وفوزي القاوقجي، وبسبب عمله النضالي هذا أعاده المندوب السامي البريطاني لمدينة غزة كي يكون بعيدا عن دعم أولئك المناضلين الثوار.
ركّز في العديد من نشاطاته عقب نكبة 1948 على المشاريع الخيرية لدعم ومساعدة المحتاجين من أبناء شعبه، ولا أنسى وأنا طفل في مخيم رفح للاجئين الفلسطينيين أنّ الذي كان يعاني من مشكلة اجتماعية مستعصية، لا يقولون له في المخيم إلا جملة (ما إلك غير الحاج رشاد الشوا).
كان في منتهى الصراحة والجرأة مع اللواء محمد نجيب أحد قادة ثورة 23 يوليو في مصر، فعندما زار اللواء نجيب قطاع غزة، لم يتجرأ إلا الحاج رشاد الشوا أن يصارحه بضرورة تطهير الإدارة المصرية التي تسلمت السلطة والإشراف في القطاع من الفاسدين. ولم أطّلع على تفاصيل هذه المعلومة المهمة إلا في عدد صحيفة السبيل التي تصدر عن حزب جبهة العمل الإسلامي في الأردن، عددها الصادر في السابع عشر من نيسان لعام 2010، إذ تروي الصحيفة ما جرى أثناء زيارة اللواء محمد نجيب للقطاع في سبتمبر من العام 1953، فيما يتعلق بوجود ضباط مصريين كانوا قد خانوا الأمانة أثناء حرب 1948 ومنهم الضابطان المواوي والصواف، اللذين بفضل تواطئهم مع الاحتلال، تقلصت مساحة القطاع من 500 كيلومتر إلى 350 كيلومتر، وقد تمت محاكمتهم فعلا في مصر بعد نجاح الثورة. تروي جريدة السبيل هذه الموقف الشجاع للمرحوم رشاد الشوا كالتالي:
(وفي التاسعة من صباح اليوم التالي تقرر أن يلتقي الرئيس (محمد نجيب) بجماهير القطاع في ساحة اليرموك، وأقفلت بوابات المكان في الثامنة والنصف، لكن رشاد سعيد الشوا أحد كبار وجهاء القطاع حضر بسيارته إلى المكان قبل التاسعة بدقائق معدودات، وعندما رفض الحراس فتح البوابة بأمر من الأميرالاي الصواف اندفع رشاد الشوا بسيارته ليصاب الحراس بالذعر، وتمكنت السيارة من الدخول وسط احتجاج الصواف، ثم جلس الحاج رشاد في مقعده ليصل اللواء محمد نجيب، وبدأ حفل الاستقبال بتلاوة آي من الذكر لحكيم، ثم تحدث الصواف مرحباً، فاندفع رشاد الشوا إلى المنصة وبصوت غاضب صاح من خلال مكبر الصوت رغم احتجاج الحاكم العسكري:
مرحبا بك يا نجيب في أرض فلسطين التي ارتوت بدمائك ودماء أبناء مصر الأحباء، وإننا يا سيادة الرئيس نناشدك الله أن تطهروا قطاع غزّة كما طهرتم أرض الكنانة!! وضج الجمهور مصفقين، ووقف اللواء محمد نجيب، وقال:
- ما ذا تعنون بهذا القول؟ أوضحوا ما تريدون!!
- ورد الحاج رشاد الشوا: نرجو منكم كما قطعتم رأس الأفعى في مصر أن تسحقوا ذيلها في غزّة بدءاً من هذا المدعو بالصواف والضباط المحيطين به الذين باعوا نصف أرض القطاع للصهاينة!!....وعاد الرئيس إلى مصر، وأمر بترحيل الصواف وزمرته فوراً إلى القاهرة حيث حوكموا، وفصلوا من مناصبهم، وتعرض البعض للسجن). وقد عاصرت شخصيا في مخيم رفح بعد ذلك وصول ضباط مصريين شرفاء لإدارة القطاع مثل الفريق يوسف العجرودي، واللواء مصطفى حافظ الذي نظّم حركة الفدائيين الفلسطينيين عام 1954، وقامت بالعديد من العمليات الفدائية ضد الاحتلال، مما جعل الاحتلال الإسرائيلي يخطط ويقوم باغتياله في مدينة غزة عبر طرد مفخخ عام 1956 .
أمّا أعمال رشاد الشوا الخيرية في القطاع،
منذ توليه رئاسة بلدية غزة عام 1972 وقبل ذلك، فهي تحتاج لتوثيق طويل لا تكفيه العديد من المقالات، ويكفي أنّه يوميا يتمّ ذكر اسمه عند إقامة أي نشاط ثقافي أو فني، إذ من الطبيعي أن تكون أغلب تلك النشاطات في (مركز رشاد الشوا الثقافي)، وهو أول مركز ثقافي بهذه الضخامة والهندسة المعمارية يقام في القطاع، كلّف المهندس السوري بريطاني الجنسية سعيد محفل لوضع التصاميم المعمارية له، واستمر العمل فيه قرابة عشرة سنوات بسبب العراقيل التي كانت تضعها سلطات الاحتلال، ورغم ذلك انتهى العمل فيه عام وفاة الحاج رشاد 1988 . ومنذ ذلك اليوم لا يمرّ اسبوع دون أن تكون هناك فعالية فنية أو ثقافية أو مسرحية أو جماهيرية في ذلك المركز الذي اشتهر خارج العالم العربي، كهندسة معمارية ومكان يعجّ بالنشاطات، بالإضافة لمكتبته الغزيرة بالكتب والمراجع.
هذه المقالة مجرد لمحة وفاء وتذكير،
بهذه الشخصية الفلسطينية التي لا يمكن أن ينساها الشعب الفلسطيني، فهل هناك من يتبنى مشروع تأريخ وكتابة السيرة الذاتية المفصلة الموثقة لهذا الراحل الكبير، في زمن سيطّر على المشهد السياسي الفلسطيني من لا إنجاز وطني أو إنساني لهم، بدليل الملفات المخجلة التي بدأ فتحها للعديد من هذه الشخصيات.
[email protected]
التعليقات