ورد في ديباجة دستور العراق نص من ارقى النصوص التشريعية في تاريخ البلاد وفي تاريخ الدساتير العربية والاسلامية، وقد تم صياغته ببلاغة بديعة وبروحية عراقية اصيلة متضمنة أجمل المشاعر والمضامين الانسانية والاحساس بالمسؤولية العالية والرؤية المشتركة لبناء دولة العراقيين، وهو الآتي quot;نَحنُ شَعْب العراقِ الناهضِ تَوَّاً من كبْوَتهِ، والمتَطلعِّ بثقةٍ الى مستقبلهِ من خِلالِ نِظاَمٍ جُمهورِيٍ إتحاديٍ ديمقْراطيٍ تَعْددُّيٍ، عَقَدَنا العزمَ برجالنا ونِسائنا، وشُيوخنا وشبابنا، على احْتِرامِ قَوَاعدِ القَانُون، وَتحقيقِ العَدْلِ وَالمساواة، وَنبْذِ سِياسَةِ العُدوان، والاهْتِمَام بِالمَرْأةِ وحُقُوقِهَا، والشَيْخِ وهُمُومهِ، والطِفْلِ وشُؤُونه، وإشَاعَةِ ثَقَافةِ التَنَوعِ، ونَزْعِ فَتِيلِ الإرهابquot;. ونصت المادة الأولى من الدستور على أن quot;جمهورية العراق دولةٌ اتحاديةٌ واحدةٌ مستقلةٌ ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوريٌ نيابيٌ (برلماني) ديمقراطيٌ، وهذا الدستور ضامنٌ لوحدة العراقquot;.

أمام هذا النص البديع ترتب من الاطار القانوني لادارة الدولة العراقية ومن دستورها الدائم في العهد الجديد اقرارا شرعيا بفيدرالية اقليم كردستان التي اعلنها البرلمان الكردي عام 1992 وحرية دستورية للمحافظات بتشكيل الاقاليم وفق خياراتها السياسية والادارية لادارة شؤونها وامورها، ونصت المادة 119من الدستور المصادق عليه عام 2005 على انه quot;يحق لكل محافظةٍ او اكثر، تكوين اقليمٍ بناء على طلبٍ بالاستفتاء عليه، يقدم بإحدى طريقتين: اولاً: طلبٍ من ثلث الاعضاء في كل مجلسٍ من مجالس المحافظات التي تروم تكوين الاقليم، ثانياً: طلبٍ من عُشر الناخبين في كل محافظةٍ من المحافظات التي تروم تكوين الاقليم. ونصت المادة 120على ان quot;يقوم الاقليم بوضع دستورٍ له، يحدد هيكل سلطات الاقليم، وصلاحياته، وآليات ممارسة تلك الصلاحياتquot; على ان لا يتعارض مع الدستور الدائم.

ونصت المادة 121 من الدستور على حق الاقاليم في ممارسة سلطاتها كما يلي: اولاً: لسلطات الاقاليم، الحق في ممارسة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وفقاً لاحكام هذا الدستور، باستثناء ما ورد فيه من اختصاصاتٍ حصرية للسلطات الاتحادية. ثانياً: يحق لسلطة الاقليم، تعديل تطبيق القانون الاتحادي في الاقليم، في حالة وجود تناقض او تعارض بين القانون الاتحادي وقانون الاقليم، بخصوص مسألةٍ لا تدخل في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية. ثالثاً: تخصص للاقاليم والمحافظات حصةٌ عادلة من الايرادات المحصلة اتحادياً، تكفي للقيام بأعبائها ومسؤولياتها، مع الاخذ في الاعتبار مواردها وحاجاتها، ونسبة السكان فيها. رابعاً: تؤسس مكاتبٌ للاقاليم والمحافظات في السفارات والبعثات الدبلوماسية، لمتابعة الشؤون الثقافية والاجتماعية والانمائية. خامسا: تختص حكومة الاقليم بكل ما تتطلبه ادارة الاقليم، وبوجهٍ خاص انشاء وتنظيم قوى الأمن الداخلي للاقليم، كالشرطة والأمن وحرس الاقليم.

في ظل هذه الحقوق الدستورية للمحافظات والاقاليم بحكم اختيار العراقيين لها ضمن مفهوم تحديث ادارة الدولة واقرار الحقوق القومية والوطنية للشعب الكردستاني ضمن السيادة العراقية، وفي ظل نجاح التجربة الفيدرالية الكردية والتي بدأت تتحول الى حلم حقيقي يراود العراقيين لتحقيقه في جنوب وغرب ووسط البلاد، يأتي موقف زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر بالضد من الفيدرالية المنصوص عليها في الدستور ليقطع أمل الخروج من الأزمات المستعصية التي يعيشها العراق من أنصاره وأتباعه، وكأن البلاد يمر في رفاهية ورخاء لا ينقصه سوى مشكلة الفيدرالية فلابد من رفضها ومحاربتها حسب ما ذهب اليه زعيم الصدريين، وقوله quot;هذا ماكنا نحذر منه بأن الفيدرالية ستجر أموراً لا يحسن عقباهاquot; يشكل خيبة أمل كبيرة بالتيار الصدري كحركة سياسية بشأن رؤية زعيمها تجاه ادارة الدولة العراقية التي عانت الويلات والمأساة والكوارث نتيجة سياسة الادارة المركزية التي اتبعتها أنظمة الحكم السابقة في العقود الماضية، وهذا الموقف يبين ان بعض الحركات السياسية في العراق مازال رهين الماضي ومازال أسير السياسات الكارثية التي فرضت على العراقيين طوال قرن كامل بالقوة والاستبداد والطغيان.

والمستغرب ان موقف زعيم الصدريين لم يقف عند هذا الحد بخصوص الفيدرالية، بل لمح إلى معارضته لمطالب القيادة السياسية الكردية في ضم مدن غالبية سكانها من الكرد من محافظات أخرى إلى إقليم كوردستان مثل كركوك ومخمور والتون كوبري وخانقين وسنجار وجلولاء والسعدية، والاستغراب من موقف الزعيم الصدري يأتي عندما نعلم ان وثائق رسمية للنظام البائد يعترف فيها بكردية تلك المدن وعائدية بعضها الى محافظات كردستان، ولا شك ان السيد الصدر يعلم جيدا ان مدنا أخرى تم اقتطاعها من محافظاتها الأم لتلحق بمحافظات أخرى دون وجه حق في جنوب ووسط العراق بقرارات جائرة من قبل النظام البائد لأهداف طائفية ومذهبية، وأكبر دليل على هذا ناحية النخيب التي اقتطعت من كربلاء لتلحق بالانبار في حينه لغايات سياسية مبطنة لتقليص المساحة الجغرافية للاولى وزيادتها للثانية.

والمؤسف ان موقف مقتدى الصدر يأتي جوابا على سؤال من احد العراقيين يحمل استفزازا كبيرا لا يليق برجل دين وزعيم مثل الصدر ان يرد عليه، ومن يقرأ نص السؤال يدرك ان سائله لا يعبر عن نوايا حسنة quot;لايخفى عليكم تصاعد وتيرة الاستفزازات لبعض القيادات والاحزاب الكردية المتنفذة (المعروفة لديكم) وبعض تلك الاستفزازات متمثلة في مدينة كركوك أو المطالبة بضم مدينتي خانقين والسعدية (في محافظة ديالى) لاقليم كردستان والملاحظ ان هذه الاستفزازات تزداد حين تسوء العلاقة بين قائمة دولة القانون (بزعامة رئيس الوزراء نوري المالكي) والقائمة العراقية (بزعامة أياد علاوي) هذا اولا وحين يقترب موعد انسحاب القوات المحتلة الاميركية- وعلى حسب فرضهم الانسحاب- وثانيا مما يثير الشك والريبة حدوث تلك الامور وفي مثل هذا التوقيت وخاصة نرى وجود مطالبات من حكومة الاقليم بأمور تفوق المعقول موجودة على طاولة الحكومة... لذا نرجو من سماحتكم إبداء الرأي والنصيحة لاخوتنا الاكرادquot;.

يأتي هذا الرأي للسيد الصدر بينما الأغلبية من العراقيين تعرف جيدا ان الفيدرالية حق دستوري يحق لكل ثلاث محافظات الانخراط في فيدرالية بعد موافقة السكان في استفتاء شعبي، وقد تقدمت لحد الان مطالبات كثيرة في البصرة والأنبار والكوت والديوانية وصلاح الدين لاقامة الفيدرالية في تلك المحافظات اقتداءا بنجاح تجرية الفيدرالية الكردستانية للخلاص من الأزمات الخدماتية والمعيشية والحياتية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها تلك المحافظات وبقية المناطق من العراق.

لا شك ان أهمية الفيدرالية وضرورتها للعراقيين بيناها في مقالات عديدة سابقة، وأكدنا فيها مرات عديدة أنها الضامن الرئيسي للحفاظ على وحدة العراق ومعالجة المشكلات المستعصية والأزمات المعقدة التي يعاني منها البلاد، وأوضحنا انها الطريقة المثلى لادارة الدولة بمفهومها الحديث لتحقيق التنمية والتطور لمجتمعات المحافظات التي تسعى الى تحقيق العدالة الاجتماعية لجميع مكوناتها السكانية بعيدا عن المحاصصة والطائفية والمعادلات السياسية الفاشلة التي خلقتها الأحزاب والكتل البرلمانية لمنافعها ومصالحها بعيدا عن رعاية المصالح العليا للعراقيين.

وضمن هذا المفهوم فإن الميزات التي يتميز بها النظام الفيدرالي للدولة العراقية الجديدة تساعد على انشاء التركيبة الإدارية والسياسية الناجحة في كل المحافظات لضمان حقوق المجموعات السكانية حسب خصوصياتها وحاجاتها وضروراتها، ومن أهم ميزاتها ضمان مشاركة الجميع في وضع السياسات العامة واتخاذ القرارات وإبداء الرأي والمشاركة في الأنشطة الخاصة بتحديد أهداف التنمية الحقيقية للاقليم المعني، وتأمين التوافق والانسجام والمساهمة في تحديد الاستراتيجيات والغايات العامة، وضمان تحقيق جميع مطالب الاقليم في المعيشة والحاجات الحياتية الأسياسية.

لهذا نأمل ولضرورات عراقية ان يراجع السيد مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري موقفه بشأن الفيدرالية وبخصوص مطالب الكرد لاعادة مدن كردية الى كردستان وهي حق دستوري وشرعي، ولكن مع هذا رغب الكرد حلها وفق المادة 140 من الدستور سعيا منهم لحل المسائل في اطار قانوني ورغبة منهم لاحترام رغبة المواطنين في المناطق المتنازع عليها.

ولا بد للسيد الصدر ان يدرك تمام الادراك إن إرساء النظام الفيدرالي في إدارة الحكومات المحلية تتسم بمرونة كاملة لخدمة مواطنيها وفي الوقت نفسها تدعم الدولة الاتحادية في الحفاظ على وحدتها وسيادتها بطريقة حكيمة بعيدا عن نظام مركزية الدولة الذي لم يجلب غير الكوارث ولم يولد غير القمع والاضطهاد والطغيان، ومعروف عن الزعيم الشاب وعن عائلته الكريمة كم عانوا وكم قدموا من تضحيات جسام نتيجة استبداد النظام البائد الذي كان يحكم بدكتاتورية ومركزية طاغية.

وانطلاقا من هذا المنظور نؤكد من جديد ان إرساء النظام الفيدرالي على مستوى المحافظات العراقية سيشكل الفرصة الذهبية أمام العراقيين لتجاوز الواقع المرير المتسم بالأزمات والمشكلات الخانقة التي يعاني منها الجميع، ولابد ان يدرك العراقييون ان تطبيق هذا النهج هو السبيل الوحيد لضمان عراق جديد حاضرا ومستقبلا.

كاتب وصحفي ndash; اقليم كردستان العراق
[email protected]