تجتاح المجتمع العراقي هذه الايام وفي ظل تجاذبات طائفية وقومية مخيفة تتسيَّد ُالمشهد السياسي في المنطقة عموما مظاهر الاهتمام بالعقيدة المهدوية كما يراها الشيعة الإمامية الاثنى عشرية، أي وفق إمضاءات هذا المذهب الذي يستند بالاساس على ماورد عن النبي الكريم واهل بيته الاطياب من روايات واحاديث تُعتبر صحيحة حسب مقاييس خاصة لدى علماءه وفلاسفته وفقهائه. والحديث عن المهدي والمهدوية اليوم في المجتمع العراقي يتخذ اشكال متنوعة، ومن اخطرها الحديث عن قرب ظهور الامام سلام الله عليه، ويستدل أصحاب هذا الراي بما يحدث في سوريا من حرب يدمى لها قلب كل مسلم، خاصة وان الحكم الاقلوي مصرٌ على البقاء مهما كان الثمن، والمعارضة لم تتساهل دون سقوط النظام براسه بشار الاسد، وهناك محاضرات وندوات ممتدة في كثير من المناطق الشيعية العراقية تتحدث بشكل منتظم ومركز عن هذه القضية، وكما سمعت أن بعض المهتمين بالشان المهدوي اخذ يغذي بعض القادة السياسيين بهذه الافكار، وبالفعل، فقبل ايام قرات لاحد العاملين في الساحة السياسية العراقية ومِمَّن له دور في هذه الساحة عن قرب الظهور، وان احد علماء المهدوية نصحه ان يبيع بيته في سوريا لان السفياني على وشك الخروج!
ليست هذه هي المرَّة الاولى نصادف مثل هذا الاهتمام، ولقد شهدت مثيله في العراق في سنوات السبيعينات حيث طرح مسالة قرب الظهور أو التبشير بقرب الظهور أحد ( العلماء بالتاريخ!) وكان يملك بعض المعلومات البسيطة والمضللة في هذه العقيدة النيرة الصافية، كذلك كان الايرانيون يهتفون بقدوم الامام المهدي لدفن قتلى الحرب، فما هي النتيجة التي تمخضت عنها هذا السلوك؟ خراب الناس، وانحراف الكثير من الشباب، وها هي قضية المهدي للاسف الشديد تحولت إلى ندرة في المجتمع الايراني وهو المجتمع الذي كان يؤمن بالمهدي ايمانا قويا لا شائبة فيه.
هؤلاء المروجون لهذه القضية في هذه الايام منهم المندفع حقا بصدق وامانة، ومنهم من يجد فيها مجالا لكسب الجاه والابهة، ومنهم من يريد ان يستعملها لاغراض دعائية له في مرحلة انتخابية آتية، ومنهم المحتال الذي يريد ان يخلق فوضى واضطراب بين الناس، ولذلك ليس غريبا أن يخرج علينا هذه الايام هذا وذاك يدعي الاتصال بالامام المهدي، وربما يدعي تكليفه بتشكيل أحزاب او منظمات، واليوم مثل هذه الدعاوي تنتشر في مناطق مختلفة في العراق الجريح، وليس من يقف ضدها ويكشف زيفها للاسف الشديد، بما في ذلك صناع القرار السياسي ( الشيعي! ).
الغريب أن مثل هذه المظاهر إنَّها محل اهتمام انصاف العلماء ومدعِّي الدراية يالتاريخ والرواية، فيما لم نجد يوما مرجعا دينيا أو عالما اسلاميا ذا شان كبير في الفكر والعطاء متورط بمثل هذه القضية، اي قضية قرب الظهور وما شابه ذلك.
الحقيقة ليس من وراء هذه الثقافة غير الخراب والدمار، وإذا ما صادف ولم يخرج الامام المهدي طبق تبشيرات هؤلاء فسوف تنعكس النتائج على الاعتقاد بالمهدي بالذات، وهو ما حصل بالفعل بعد كل عملية تبشير لم تتمخض عن الظهور! فهل يرعوي هؤلاء ويخافون الله في مصير العقائد والناس والامة؟
إن الثقافة المهدوية في تصوري تندرج في ثلاث اطر لا اكثر، الاطار الاول الايمان به حسب ما تطرحه الرواية الشيعية ـ لاني اتكلم هنا في المجال الشيعي وليس الاسلامي العام ـ والاطار الثاني انه يخرج يوما ما، والاطار الثالث هو ا لعمل وفق مباديء المهدوية العادلة، اي نفع الناس، ونشر الفكر النير، وبناء المجتمع، وتعمير الارض، فهذه هي المهدوية بالجوهر، وهذا هو منطق التمهيد الحقيقي للظهور، وليس باشغال الناس بامل ربما لم يتحقق بعد آلاف السنين وربما يتحقق اليوم وليس غدا، ونقطة اخيرة أقولها لمروجي هذه الثقافة، لو كنتم حقا صادقين بذلك لتخليتم عن كل ما تملكون من اموال وعقار للفقراء والمساكين، فالمهدي آت فمالكم وهذه الاموال؟ هل تعلمون أن التجار الكبار في امريكا تبرعوا بنصف أموالهم للمؤسسات الخيرية ومنهم منْ لا يؤمن برب ولا نبي ولا ولي، وانتم تؤمنون بان المهدي سلام الله عليه آت فمالكم وهذه الاموال المكدسة، ومالكم وهذا الصراع على الكراسي والوظائف الكبيرة؟
والله من وراء القصد.