تنويه
توجَّه اكثر من نقد من القراء الكرام عندما كتبت في (إيلاف) عن معركة بدر الاخرة، باعتبار إننا في زمن آخر، والموضوع لا يمس ما نحن فيه من مشاكل وفوضى، تستوجب صرف الجهود لتسليط الضوء عليها وليس المطلوب اليوم نبش التاريخ، وفيما وقع بعض النقاد الاعزاء في خلط بين معركتي بدر الكبرى ومعركة بدر الآخرة، فإن بعضهم لم يفهم فكرة الموضوع، لم يكن الموضوع تاريخا سرديا، الفكرة تشير إلى ان بعض المؤرخبن المسلمين صنعوا لنا زمنا موهوما، فصرنا صرعى هذا الزم الموهوم، ولا اتفق مع الاخوة النقاد الذين يرون في هذه البحوث بطرا، بل هي محاولة إنقاذية وبالعمق من أوهام ما زالت مسؤولة عن تخلفنا ومشاكلنا، بل هي ام المشاكل طرا،ومن الاوهام أو شبه الاوهام صحيفة المدينة التي طالما يتكا عليها الاسلام السياسي وينتصر بها لمشروعه السياسي، هنا اسلط الضوء على هذه الصحيفة المزعومة لاعبر منها إلى نقد مصادر الاسلام السياسي اليوم والضمير من وراء القصد.

الصحيفة
تدعي بعض الاخبار إن النبي الكريم وبعد الهجرة نظَّم العلاقات بين سكان المدينة، وارسى قواعد مجتمع مدني متكامل، حيث كتب كتاباً في ذلك، حتى ادعى بعضهم إنّ هذا الكتاب بمضامينه يجسد قيم المجتمع الديمقراطي، وهناك الكثير من الكتب والدراسات التي إعتمدت هذا الكتاب (الوثيقة) لبيان أحكام الاسلام في تنظيم الحقوق والواجبات، وقد سمِّيت حسب المصادر القديمة بـ (الكتاب) و (الصحيفة)، ومشتغلون آخرون في السيرة النبوية يسمونها بـ (الميثاق)، وقد أنهى أحد المهتمين بالسيرة الصحيفة هذه إلى (47) فقرة، بين حق وواجب وعهد وتعهد في السلم والحرب، بين الأنصار والمهاجرين تارة، وبين المسملين واليهود تارة أخرى، وتارة بين الاوس والخزرج، وتارة بين قبائل مُسمَّاة 1، فهي وثيقة تشريعية بامتياز بصرف النظر عن ماهية بنودها وعناصرها المكونّة لها، هذه الوثيقة بقدر ما يعطي لها بعض المؤرخين والمشرعين والسياسيين قيمة مدنية وحضارية كبرى، يشكك بعض المؤرخين بها أصلا، أي ليست هناك وثيقة، بتعبير آخر ليس هناك صحيفة من هذا النوع في حياة الرسول الكريم، وقد أُختلِف فيها هل هي صحيفة واحدة أم صحيفتين 2، ودار حول ذلك نقاش طويل بين الكتَّاب والمحققين، ولكن اعتقد أن كلَّ ذلك مؤجّل بعد استجلاء النص سندا، لان النص إذا لم يثبت لم تكن هناك جدوى من مثل هذه الاختلافات أساسا، تصبح سالبة بانتفاء الموضوع كما يقول المناطقة، وقد جلتُ في كثير من كتب السيرة والتاريخ والتشريع فعثرتُ على تسع روايات بخصوصها، وكلُّ راوية من هذه الروايات مخدوشة بشكل واضح وصارخ بحيث يدعوك ذلك إلى الشك بها فعلا...

الروايات
إنّ اقدم رواية تصادفنا في أمر هذه الصحيفة هي رواية ابن اسحق، وهي العمدة، فقد جاء في سيرته على لسان بن هشام : (... وكتب َرسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المهاجرين والانصار،وداع اليهود، وعاهدهم، وأقرَّهم على دينهم وأموالهم،وشرط لهم الشروط، واشترط عليهم : بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم...)، هذا اقدم نص يخصُّ هذه الصحيفة، وقد أورده ابن اسحق بلا سند تماما، وكان الشيخ العزالي قد استشهد بهذه الصحيفة للتدليل على مدنية الإسلام، في كتابه المشهور (فقه السيرة)، ولكن الشيخ الالباني وهو عمدة علم الحديث عند أهل السنة يعلق على ذلك بقوله : [... روى هذه الوثيقة ابن اسحق (2/ 16 ـ 18) بدون إسناد ] 3.
الالباني إذن يضعِّف خبر الصحيفة، ولكن ينقلها ابن كثير، كذلك ابن سيد الناس، والجواب إنهما نقلا الرواية عن ابن اسحق كما هي، أي بلا إسناد 4.
الإمام احمد بن حنبل يرويها بثلاثة طرق، نحاول هنا استعراضها باسانيدها ـ :
الطريق الأول : (حدَّثنا سُريج، حدَّثنا عبَّاد، عن حجاج،عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً بين المهاجرين والانصار، أن يعقلوا معاقلهم، وأن يفدوا عانيهم بالمعروف والإصلاح بين المسلمين) 5.
الرواية ضعيفة بـ (حجاج)، وهو الحجاج بن أرطاة، وقد ضعَّفوه، جاء في تهذيب التهذيب الجزء الثاني رقم 365 : (... وقال العجلي : كان فيه تيه، وكان يقول : أهلكني حب الشرف، وولى قضاء الكوفة...وكان يُرسل عن يحي بن أبي كثيرومكحول ولم يسمع منهما، وإنما يعيب عليه الناس منه التدليس... قال النَّسائي : ليس بالقوي...)، وهناك تضعيفات أخرى.
الطريق الثاني : (حدَّثني سُريج حديثا، عن عبَّاد، عن حجاج،عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس مثله)6.
الطريق ضعيف بـ (حجاج بن أرطأة)، ولا ننسى أنَّ بن عباس كان عمره يوم توفي النبي الكريم 13 سنة، ولم يبين لنا مصدره في الرواية، فهي مرسلة تقريبا.
الطريق الثالث : (حدَّثنا نصر بن باب، عن حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، أن رسول الله...)7.
الطريق ضعيف بـ (حجاج).
المفارقة التي تصادفنا في رواية احمد بن حنبل كون المتن لم يات على ذكر اليهود في المعاهدة، مع أنهم عنصر إساسي فيها، بل هم المصودون اصلا!
يرويها البيهقي بطريقين: ـ
الأول : (أخبرنا أبو عبد الله الحافظ... حدُّثني عثمان بن محمد بن عثمان بن الاخنس بن شريق قال : أخذت من آل عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا الكتاب،كان مقرونا بكتاب الصدقة الذي كتب عمر للعمال : بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المسلمين والمؤمنين من قريش ويثرب...) 8، ونقطة الضعف في هذا الطريق هي :(الوجادة)، فهو لم يرو النسخة أو الوثيقة بل وجدها، كما إنَّ في سنده : عثمان بن محمد بن المغيرة بن الاخنس، فهو وإنْ وثّق من بعضهم لكنّ آخرين ضعَّفوه، منهم النَّسائي الذي قال فيه : (ليس بذاك القوي) 9، ومنهم يونس بن بكير الشيباني، فقد وُصِف أنه فيه لين، ويخطيء احيانا، ولم يرتضه النسائي حتى وصفه ليس بالقوي والضعيف مرَّة اخرى 10، امّا أحمد بن عبد الجبارالعطاردي فهو ضعيف، بل أكثرالناس الكلام فيه مما اضطر بعض المحدثين يتجنبونه 11، حتى روي أن العراقيين مجمعون على ضعفه.
الثاني : (... أبو عبد الله الحافظ القاضي قال : حدثنا محمد بن اسحق الصغاني قال : أنبأنا معاوية بن عمرو،عن إسحق هو الفزاري،عن كثير بن عبد الله...) وساق الرواية 12..
في السند : كثير بن عبد الله، ضعَّفه كثير من الرجاليين، مثل ابن معين، والنسائي وابن عدي وغيرهم 13.
يروي ذلك أبو عبيد القاسم بن سلام المتوفي سنة (224) في كتابه : (الأموال) بطريقين، في الاول الحجاج بن ارطأة وهو ضعيف، والثاني عن الزهري، فهو مرسل، ويروي ذلك في كتابه : (غريب الحديث)، وله فيه ثلاث طرق كلها ضعيفة 14.
يرويها ابن حزم في المحلى، وفي سنده الحجاج بن أرطأة، ومضى إنه ضعيف 15.
يرويها ابن أبي حاتم في مقدمة كتابه الجرح والتعديل، مرسلا، كذلك بن أبي خيثمة 16، وفي سنده كثير بن عبد الله وهو ضعيف كما اسلفنا.

الانتصار للصحيفة
وجد من ينتصر للصحيفة، أي من يقول بصحتها وصحة نقلها، فإن كتب الحديث أوردت مقتطفات كثيرة منها، كما إنَّ مسند أحمد بن حنبل أورد بعض بنودها، وإن هذه (النصوص جاءت من طرق مستقلة من الطرق التي وردت منها الوثيقة) 17، وهو ليس بالدفاع القوي، لان هذه النصوص لم ترد بعنوان الصحيفة، وإنما هي نصوص قائمة براسها،ومالذي يمنع أن يجمع الوضّاع بينها في صحيفة مدَّعاة ؟
يدافع أكرم العمري عن الصحيفة بقوله : (إن اسلوب الوثيقة ينم عن اصالتها، فنصوصها مكونة من جمل قصيرة، بسيطة، وغير معقدة التركيب، ويكثر فيها التكرار، وتستعمل كلمات وتعابير كانت مالوفة في عصر الرسول عليه السلام...) 18، وهذا دفاع غريب، لان مؤداه أن كل نص يتمتع بمثل هذه المواصفات فهو نص نبوي! والاصل في اثبات مثل هذه النصوص عن النبي الكريم هو الاسناد بالدرجة الاولى،إن ورو د بعض النصوص النبوية المستقلة مطابقا لما في الصحيفة لا يعني بالضرورة صحة الصحيفة بطبيعة الحال.
توجد ثغرة واضحة في بعض الروايات هنا، حيث تغيب مادة اليهود، عنوانا وموضوعا، فيما المفترض إنها وثيقة تنظم العلاقات بي اليهود والمسلمين بالدرجة الاولى

،الامر الذي اضطر بعضهم للقول بأنها في الاصل صحيفتان ثم جمعتا، وإذا صحت مسانيد وثيقة العهد بين الانصار والمهاجرين فأنّ ذلك لا يدل بالضرورة ايضا على صحة الوثيقة.
يشكك سليمان العودة بالصحيفة، بعد تشكيك الالباني، وعلى منوالهما الاستاذ يوسف العش.

المصادر
(
1) العلي،إبراهيم، صحيح السيرة النبوية، دار النفائس، ط2، 1996،ص 147.
(2) العمري، أكرم، السيرة النبوية الصحيحة، طبع مكتبة العلوم والحكمة، المدينة المنورة، 1412، الجزءالاول ص 226.
(3) الغزالي، محمد، فقه السيرة، دمشق، ط 3، 1407، ص 185.
(4) عيون الاثر، تحقيق محمد الخطراوي، دار التراث، المدينة المنورة، ط1، 1413، الجزء الأول، ص 318.
(5) مسند الامام احمد، تحقيق أحمد شاكر، دارالمعارف للطباعة والنشر، مصر، 1386، ص 146، ح 2443 تحقيق أحمد شاكر.
(6) نفسه ح 2444.
(7) نفسه ح6904.
(8) سنن البيهقي الكبرى، كتاب الديات، طبع دار المعرفة، بيروت، 1413، الجزء 8 ص 106.
(9) تهذيب التهذيب، 6 رقم 300.
(10) نفسه، 11 رقم 844.
(11) نفسه رقم 88.
(12) نفسه.
(13) تهذيب التهذيب، 8 رقم 747.
(14) العوشن، محمد بن عبد الله، ما شاع ولم يثبت من السيرة النبوية، دار طيبة، الرياض، ط1،2008،ص 26.
(15) نفسه ص 97.
(16) عيون الاثر ص 320.
(17) صحيح السيرة النبوية 143.
(18) نفسه.