الدولة في كل الأعراف هي الضامن الأول لحقوق الأفراد والمسئولة عن حمايتهم ورعايتهم في داخل البلاد وخارجه، وهي التي تصبغ عليهم صفة المواطنة، وذلك من خلال منحهم جنسيتها بما تتيحه لهم من امتيازات وما تفرضه عليهم من واجبات، هذه هي الدولة. ولكنها في دول العالم الثالث بشكل عام، وفي دولنا العربية خاصة وأنظمتنا الحالية بالتحديد، ربما كانت الدولة هي العقبة الرئيسية التي تقف أمام الأفراد وتمنعهم من التمتع بحقوقهم وامتيازاتهم بصفتهم مواطنين، إلا أذا ساروا ضمن نهج الحزب الحاكم أو السلطة الحاكمة، وهذا يتم بسبب أوضاع معقدة ومتغيرات عديدة ودوافع شخصية ربما في بعض الأحيان، والملاحظ أذا كانت الديمقراطية طريقة لتوزيع السلطة وشرعنتها، فإن أنظمة الحكم الدكتاتورية قائمة على احتكار السلطة ومركزيتها، ومن ابرز هذه الأنظمة دكتاتورية في عالمنا العربي ما تم تأسيسه وفق الديمقراطية التوافقية، وبأسم الشراكة الوطنية، أو تحت مسميات الوحدة الوطنية، أو المحاصصة السياسية والطائفية، وفق مبدأ التوازنات الاجتماعية، فكلها أشكال لأسوء أنواع الديمقراطية والمتمثلة بقائمة طويلة من عمليات الإقصاء والتهميش والاستبعاد وعلى أسس غير منطقية بعضها طائفية وأخرى عشائرية، وربما تكون في أحيان كثيرة مناطقية وحزبية وعائلية وجهوية.

د. بشير ناظر الجحيشي

هذا ما يصح تسميته بالدولة التسلطية والتي تعد اليوم ظاهرة سياسية فيها من المفارقات الكثير، وهي تتجه بخطى هادئة لكي تصبح نموذج للنظم السياسية المعاصرة، متخذه من الأزمات السياسية نقطة انطلاق لإعادة تنظيم العلاقات داخل النظام السياسي من أجل مزيد من السلطة، ومزيد من الهيمنة، ومزيد من الثراء، ومزيد من الخضوع من قبل المعارضة، مع مزيد من الفقر، وأفواج من العاطلين عن العمل، ويظهر جلياً شكل هذه الدولة في الدول متعددة الطوائف والقوميات والإثنيات، ودائما ما يكون انحياز رجال السلطة الحاكمة للطوائف التي ينتمون إليها، وذلك من خلال بعض القواعد التي تمثل أعراف غير مكتوبة يتم التعامل على أساسها مع أبناء المجتمع، أو من خلال التمييز المعلن، وكما هو واضح في مظاهر الأزمة الطائفية. وتستخدم الدولة التسلطية وسائل القهر والقمع المرئي بواسطة أجهزة الجيش والشرطة المسيطرة عليها تماماً، أو من خلال أجهزتها الإيديولوجية الأخرى المتمثلة بالنقابات والمنظمات وبقية مؤسسات الدولة، وتفرض النظم السياسية في دولة التسلطية على مواطنيها حالة من الخطر والخوف، تشمل كل جوانب حياتهم، من أجل جعل المواطنين في حالة استسلام لنمط الدولة الاستثنائي في مقابل تقديم هذه الدولة للمواطن متطلبات الأمن المفقود في أكثر الأحيان. ولها في ذلك تكتيكات عديدة أهما تقوية ودعم هوية الجماعة الرئيسية في المجتمع، لكي تخلق حالة الخطر من خلال الثنائية التاريخية (نحن وهم)، ثم تنجح دولة الاستثناء في الاستمرار والبقاء على أساس أنها التي تضمن الأمن لمواطنيها وتحميها من خطر وتهديد الآخرين، كما أنها تخلق الأزمات لكي تجعل من مواطنيها في حالة انشغال دائم من دون التفكير بما يقوم به رجال الدولة التسلطية من تجاوزات ومخالفات بحق الوطن والمواطن، مع ثراء فاحش وسريع. ويذهب G. Agamben, في مؤلفة الذي صدر عام 2005 وهو:State of exception(دولة الاستثناء)، أو الدولة التسلطية بالقول إلى أن دولة الاستثناء كانت فيما مضي تظهر فقط في حالات الحروب والطوارئ، ولكنها اعتباراً من الحرب العالمية الأولى، وميلاد الدولة النازية، والدولة الشيوعية، والعديد من الحكومات التي اقتربت من النازية أو الشيوعية بشكل أو بآخر، بدأت تظهر بشكل متكرر، بهذا النمط الاستثنائي، مما أدى في النهاية إلى أن يصبح الاستثناء هو القاعدة، وصار هذا النموذج هو السائد في النظم السياسية المعاصرة. ودولة الاستثناء تدور بين القانون والسياسة، فهي دولة تخترق القانون بحساب السياسة وبناء على نجاحها في خلق حالة الخطر وتمييزها، ثم يعود النظام السياسي ليكتسب شرعيته من خلال القانون، ومن هنا يصبح التوظيف السيكولوجي والقانوني في خدمة المصلحة السياسية للنظم الحاكمة في العصر الراهن.

في هذه الدولة نحن نعيش زمن التناقضات، زمن تعلو فيه الأصوات بحقوق الإنسان والشفافية والاعتراف بالآخر مع وجود طائفية وتمييز غير مسبوق، زمن يوجد فيه الثراء الفاحش والسريع مع فقر مدقع لا مثيل له، زمن يجمع ما بين قمة الانجازات العلمية والتطورات التكنولوجية والمعلوماتية، مع تعصب وجهل وتخلف وبطالة لا مثيل له، زمن تتسارع فيه الأحداث وتتطور فيه الأمم وتتقدم وأصبح فيه الانجاز والكفاءة هو المقياس الحقيقي لوجود الإنسان، ونحن ما زلنا مستهلكون ووجود الإنسان مرتبط بقربه من رجال السلطة ومدى ولاءه لهم، في هذا الزمن أصبح الاستثناء هو القاعدة، والقاعدة هي الشواذ، أذاً نحن بحق نعيش في زمن الدولة التسلطية، دولة الاستثناء.

أكاديمي عراقي