هذا ما فهمته من مقال الكاتب المصري، الأستاذ السيد ياسين، في quot; الحياة [ تاريخ28 أكتوبر 2012 ].
الكاتب يرجع لشباط من عام 2011 عندما نشرت quot; الغارديانquot; البريطانية، [التي سبق ونشرت في الفترة نفسها معلومة كاذبة عن ثروة حسني مبارك مقدرة ب70 مليار دولارا]، مقالا مشتركا لمؤرخ أميركي هو مايكل هادت، ولمن يسميه الكاتب فيلسوفا، وهو الإيطالي أنطونيو نغري، الذي كان في المنظمة الإرهابية quot; الألوية الحمراءquot;، وحكم عليه بالإعدام، فهرب لفرنسا.
كان عنوان المقال quot; العرب هم الرواد الجدد للديمقراطيةquot;.
نشر المقال في بداية انتفاضتي تونس ومصر، اللتين فجرهما شباب متحمس وشكاوى جماهيرية من الحكم الفردي والفساد، ولكن لتنتهيا إلى هيمنة الإسلاميين المعادين للديمقراطية وحقوق الإنسان، والذين نزعوا أقنعتهم أخيرا بعد أن استتبت لهم الأمور، فراحوا يطاردون حرية الرأي والإبداع وحرية النشر والتعبير وحقوق المرأة، وصاروا ينادون علنا بالعزم على فرض أحكام الشريعة بعد أن كانوا في المراحل الأولى يتخفون وراء شعار الدولة المدنية.
أما ليبيا، فلم تصبح أحسن حالا، وهي اليوم مهددة بالفصائل المسلحة والنزاعات القبلية والقاعدة، ورئيس وزرائها إسلامي مدعوم إخوانيا. ولن تنتظر سورية مصيرا أفضل بعد أن أوصل الجزار بشار الأسد وفريقه الحاكم الأمور إلى حافة الكارثة.
الاستشراق، الذي أدانه الدكتور أدوارد سعيد، لم يعمل على مسخ الشخصية العربية والإسلام كما قال ويؤيده الكاتب. قلة فقط من المستشرقين اتهموا بالعنصرية والاستعلاء، وأما الأكثرية، فقد قدموا خدمات جليلة لتراث العرب والمسلمين، ولولا جهودهم لظلت روائع من الفكر الفلسفي والعلمي العربية مجهولة. أما أدوارد سعيد، فقد تعامل معهم جميعا بمنطق يساروي تبشيعي، واضعا الجميع في قفص الاتهام، وبحيث صار الاستشراق عنده مرادفا لما يعتبر كراهية الغرب للعرب والمسلمين. وقد أحسن حازم صاغية حين كتب قبل حوالي العامين أن المشكلة ليست في الاستشراق وإنما هي في الاستغراب- هي في هذه الكراهية العارمة المنتشرة عندنا للغرب وحضارته وديمقراطيته حتى بين كثيرين ممن تعلموا في الغرب، أو يعيشون بين أحضانه متنعمين بما تقدمه الديمقراطية الغربية لهم من عون سخي ومن حماية، وما تضمنه لهم من حريات دينية وغيرها.
الكاتب في مقاله ينتقد quot; بعض الباحثين العرب- تأثرا ربما بالخطاب الاستشراقي - الذين أنكروا قدرة ثورات الربيع العربي على أن تكون نموذجا ثوريا تحتذيه الجماهير الغربية، وكأنهم يقولون إن الشخصية العربية ستظل سلبية وخامدة إلى أبد الآبدينquot;.
هنا في رأيي خليط مربك ومشوش.
فكيف يمكن مقارنة شكاوى الموطنين الغربيين من أعباء الأزمة المالية، بشكاوى الانتفاضات العربية من الحكم الفردي وظاهرة الفساد؟ وكيف نقارن مستواهم الاجتماعي والثقافي والتعليمي، وتمرسهم بالحياة الديمقراطية على مدى زمن طويل، بجماهيرنا التي تغلب عليها الأمية والتي تضللها التيارات والخطب الأصولية، والتي لم تر من الحياة الديمقراطية إلا القليل وفي فترات معينة؟؟
شخصيا كنت منذ الأسابيع الأولى من عام 2011 أميل لعدم التفاؤل المفرط، لا عن عدم تقييم وتقدير لروح التضحية التي أبدتها الجموع المتظاهرة، ولا تقليلا من أهمية انزياح هذا الحاكم الفردي أو ذاك. كلا، وإنما كان عدم تفاؤلي نابعا من إدراك مستوى الثقافة والعقليات والممارسات السائدة في الشارع، وعدم نضوج النخب السياسية وانتهازية بعضها، وميول الاجتثاث، والاندفاعات العاطفية للشباب الثوروي quot;المياسرquot; في جمعة بعد جمعة، ومليونية بعد أخرى؛ فهذا مرفوض، وهذا مدان، والشارع هو من يحاكم وحبل المشنفة مرفوع فوق الرؤوس، وهكذا تركوا الساحة تدريجيا للإخوان المسلمين والنهضويين والسلفيين ولأموال قطر، وأحيانا لنشاط القاعدة حيثما استطاعت التسلل ودون أن يسألوا أنفسهم من الجهات التي كانت تهاجم السجون وتطلق المتهمين بالإرهاب وتعتدي على المراكز الأمنية وتحرقها، ومتشبثين بعباءة quot;فلتسقط الفلولquot;. وقد انتهوا في مصر لتأييد المرشح الإخواني للرئاسة لأن المرشح العلماني النزيه هو من quot;الفلولquot;!
المواطنون الغربيون لا ينادون بسقوط الديمقراطية وما جاءت به من مكاسب في العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان. نعم، هناك التيارات اليسارية واليمينية الأكثر تطرفا التي تنادي بسقوط العولمة والاتحاد الأوروبي واقتصاد السوق، وهي شعارات منفصمة عن الواقع، فرأسمالية اليوم لم تعد هي الرأسمالية الوحشية للقرون الثامن عشر والتاسع عشر وقبلهما، وإنما تشذبت وراحت قادرة على تحقيق قدر كبير من العدالة الاجتماعية وعلى لجم انفلات وفوضوية عالم المال. قد ينادون في الغرب بإزاحة هذه الحكومة أو تلك أو هذا المسؤول أو ذاك، ولكن الغالبية العظمى حريصة على استقرار النظام الديمقراطي البرلماني الذي ولد وتطور على مدى القرون، وبعد ثورات وانتفاضات وتضحيات، وبدور استثنائي للفكر التقدمي التنويري الذي استرشدت به تلك الحركات، والذي تفتقد لشيء منه كافة التحركات العربية التي تسمى بالربيع.
لم يقل أحد إن الشخصية العربية ستظل سلبية وخامدة إلى أبد الآبدين، ولكنني ممن يقولون إن هذه الشخصية لا تزال أبعد ما يمكن عن الهم الديمقراطي، وذلك برغم الانتخابات المتتالية، وخاصة عندما تتم المتاجرة باسم القضية الفلسطينية، [ البرادعي دعا لدخول مصر في الحرب لو ردت إسرائيل على صواريخ حماس بحرب].
الديمقراطية تعني روح التسامح الذي نفتقده. وتعني حرية الضمير والمعتقد بينما لا تزال الغالبية من الشعوب والحكام تعتبر من يغير دينه مرتدا وعقابه الموت. والأكثرية لا تؤمن بكرامة المرأة ومساواتها بالرجل. و من أكثر من جامع ترتفع أصوات الأئمة بالموت لليهود والمسيحيين. وها هو رئيس منتخب لأكبر دولة عربية، السيد مرسي إياه، يردد مع المصلين وراء الخطيب quot; آمينquot; عندما نادي الخطيب بالموت لكل اليهود. ومع ذلك يثورون لفيلم مسيء أنتجه فرد لا دولة، ويطالبون بقرار يدين الإساءة للأديان والأديان من غير الإسلام يساء إليها وإلى معتنقيها يوميا في معظم الدول العربية والإسلامية. ومن الصدف أن تنشر quot; الحياةquot; نفسها، وفي العدد نفسه، مقالا للأستاذ محمد الحداد بعنوان quot; لماذا لا تصبح quot;ملالاquot; بطلة في العالم الإسلامي؟quot;. وملالا هي الفتاة ذات الأربعة عشر ربيعا، التي أقدم إرهابي طالباني مهووس في باكستان على محاولة قتلها بالرصاص وهي في سيارة نقل التلميذات مع زميلاتها، فأصيبت بجروح خطيرة، ونقلت للمعالجة لبلد quot;الكفارquot;- بريطانيا. وكيف تصبح ملالا عندنا بطلة والصغيرات في بلداننا يجري تزويجهن رغما عنهن، ويفرض عليهن الحجاب والنقاب، وتدمر مدارسهن في مناطق من أفغانستان وباكستان دون أن نجد أية حملة إدانة وغضب عربية وإسلامية وكأن ما يجري للمرأة، صغيرة أو كبيرة، من قمع وفرض نقاب ومنع تعليم، أمور عادية وغير مستهجنة ؟ وجريمة العدوان على ملالا لم تثر عندنا أي رد فعل منظور.
يقول محمد الحداد :
quot; إننا، بفقداننا المناعة العقلية والروحية من داء التعصب الديني، نفقد جزءا من إنسانيتنا، وتتراجع لدينا القدرة على التصدي لهذا الداء الذي ينخر مجتمعاتنا وسينتهي بتحويلها إلى ساحات تناحر وتقاتل. وقد نبلغ يوما يلقَن فيه أطفالنا أن الجريمة بطولة، والجهل علم، والغرائز البشرية الدنيئة مفاخر أخلاقية عالية.quot;
وقبل الحداد كتب الدكتور مأمون فندي في 1 مايو 2006 :
quot;ليس لدي شك ولا للحظة واحدة في أننا اليوم مجتمعات باتت تتعامل مع الإرهاب كأمر واقع، لا يحركنا موت عشرين أو ثلاثين بعربة مفخفخة في العراق، لا يحركنا مقتل سائحين في دهب وشرم الشيخ، ولا يحركنا اغتيال عرس في الأردن، وتفجير في الرياض. نحن قوم فقدنا الإحساس بقيمة الإنسان ، لدينا رغبة جامحة في رؤية الدماء وهي تسيل...quot;
إن ثقافة كهذه لا تنتج ديمقراطية، وخصوصا مع استفحال الجهل والأمية. وهذا الوضع ليس من افتراء واختراع الخطاب الاستشراقي، بل إنها الحقيقة المعاشة. غير أن الأمور لن تبقى محنطة أبدا وخالدة، والتغير آت مهما طال الطريق. فالتغير هو من قوانين التطور الإنساني.
في الأسابيع الأولى من الانتفاضات العربية عام 2011 كتبت، فيما كتبت:
quot; إن مصير هذه الانتفاضات المجيدة غير معلوم، والمستقبل مفتوح على عدة بدائلquot;...وquot;أما البديل الصحيح، أي الديمقراطية العلمانية، فهو ما استبعد تحققه كأفق قريب و على المدى المتوسط، ولكنه غير مستبعد على المدى البعيدquot;- البعيد جدا،مع الأسف...