من مفكرة سفير عربي في اليابان

أدت تحديات العولمة السياسية، والاقتصادية، والتعليمية، لانتفاضة عالمية في عام 2010، بدأت بثورة الشاي من شوارع مدينة نيويورك، لتنتقل إلى الحرائق في مدينة لندن، ولتمتد للشرق الأوسط، لتؤدي لتغيرات في أنظمة الحكم الجمهورية، من تونس وحتى اليمن، وبإصلاحات اقتصادية وسياسية واجتماعية في الممالك العربية، من المملكة العربية السعودية وحتى المملكة المغربية. وقد ربط الكثير من المفكرين هذه الانتفاضات بالتحديات الجديدة لمجتمعات العولمة الجديدة، وبتمكين الشباب، من خلال تكنولوجية شبكات التواصل الاجتماعي على الانترنت، التي خلقت بيئة لتبادل الأفكار، وتخطيط وتنظيم الاعتصامات والمظاهرات، وليتفاءل البعض ليطلق عليها بانتفاضات الربيع العربي، ويبقي السؤال لعزيزي القارئ: هل ممكن أن تتطور المجتمعات العربية بدون توفر الأعمال ذي الإنتاجية المبدعة؟ وهل من الممكن الاستفادة من التجربة اليابانية لتطوير تجربة ما يسمى، بالربيع العربي، وبأقل ما يمكن من الأضرار على الشعوب، واقتصاد بلدانها، وخاصة بعد أن بينت دراسة التاريخ بأن الثورات والانتفاضات مع الوقت تأكل أطفالها؟
كتب الدكتور محمد جابر الأنصاري في كتابه، مساءلة ألهزيمة، يقول: quot;الخطاب الفكري العربي لم يتجاوز بعد، بشكل حاسم، المقولات العاطفية والوجدانية، المرتبطة باللغة، والتاريخ، والمصير ... quot;لتتحولquot; إلى المقولات العقلية الواقعية التي لها علاقة بالهياكل الاقتصادية، والصراع الاجتماعي، والتنمية، والسياسة الدولية.quot; فها هو أستاذنا الفاضل يدعونا لمراجعة تاريخنا العربي الإسلامي، ولغتنا العربية الجميلة، بدراسات بحثية عقلية واقعية، بعيدة عن الانفعالات العاطفية. وقد نستفيد من التجربة اليابانية في دراسة تاريخها، للاستفادة من إيجابيات هذه التجربة وتجنب أخطائها. كما طور اليابانيون لغتهم بالاستفادة، قديما، من تقدم اللغة الصينية، بالإضافة الاستفادة، حديثا، من اللغات الأوروبية لتطوير المصطلحات العلمية والتكنولوجية في اللغة اليابانية.
لقد بداء اليابانيون بدراسة تاريخهم بدقة بعد هزيمة الحرب العالمية الثانية، لتؤدي هذه الدراسة للتغيرات جذرية في الإنسان الياباني ومجتمعه، لتحقق الحداثة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والروحية، مع المحافظة على الثقافة اليابانية، و تجنب سلبيات الغربنة. ولم يركز الشعب الياباني على تغير نظامه الإمبراطوري، ولا على تحفظات دستوره الأمريكي النكهة، بل أعتبر الإمبراطور رمزا مقدسا لوحدة البلاد، وجزءا من ثقافته التاريخية، التي أصر المحافظة عليها، وأعتبر الدستور وثيقة تعاقد اجتماعي، يمكنه العمل من خلاله، وتطويره مع الوقت بالخبرة العملية المخلصة.
وقد قامت مجموعة من صحفي جريدة اليوميوري شامبون اليابانية بجهد كبير، في دراسة تاريخ الحرب العالمية الثانية، للبحث عن المسئولية التاريخية لليابان في دمار هذه الحرب، للاستفادة من هذه التجربة، في تطوير يابان الألفية الثالثة، بتجنب تكرر أخطائها في المستقبل. وقد جمعت هذه الدراسات في كتاب بعنوان: quot;من جسر ماركو بولو إلى بيرل هاربر.. من هو المسئول؟quot; تصور بعد أكثر من ستون عاما تشكل لجنة من الصحفيين من الصحيفة اليومية الأكثر توزيعا لبحث المسؤولية التاريخية. وتصور لمن كان إهداء هذا الكتاب؟ أهدي الكتاب لجيرانهم الصينيين، والكوريين، وباقي دول أسيا، التي عانت من ويلات الحرب والاحتلال. فقد بحث اليابانيون تاريخهم بصدق، ووعوه بضمير، وبدون انفعالات عاطفية سلبية، واستطاعوا من خلاله أن يستقرأوا المستقبل، ويخططوه بالتعامل مع تحدياته. وقد لاحظتم، كيف تعامل اليابانيون مع خطر السلاح النووي، بعدما أعلنت كوريا الشمالية نطوير تجربتها النووية، فلم ينفعلوا، مع إن تكنولوجيتهم النووية السلمية متطورة، ومن الممكن خلال شهور قليلة تطوير سلاحهم النووي، بل أصروا على الحوار الدبلوماسي، والضغط الاقتصادي، وحافظوا على سياستهم اللانووية، بل استمروا في محاربة هذا السلاح الرهيب، الذي عانوا من دماره، كما بدأ الشعب الياباني، مؤخرا، التفكير في حضر المفاعلات النووية لإنتاج الطاقة، وتطوير الطاقة المتجددة، بعد التجربة العام الماضي المريرة، من المأساة الثلاثية: الزلازل، والتسوناماي، والانفجار النووي، بالمفاعلات النووية لإنتاج الطاقة.
سنحاول عزيزي القارئ في هذه الحلقات الجديدة مراجعة التاريخ الياباني، بعد أن قربت أن أنهي سبع سنوات عمل جميلة، كسفير عربي في اليابان، ويعد أن أستمر انبهاري بالإنتاجية المبدعة لهذا الشعب، وما حققه من نمو اجتماعي، واقتصادي، وسياسي، وأخلاقي ، وروحي، بعد عقود قليلة من دمار الحرب العالمية الثانية. والملفت للنظر بأن المواطن الياباني لا يرغب في الاعتماد على الوظائف الحكومية، بل يهتم بتطوير خبرة العمل في الشركات الخاصة، لكي يستطيع يوما ما، تطوير شركنه الخاصة. فهناك أكثر من ستة ملايين شركة خاصة في اليابان، ولو تذكرنا بأن عدد سكان اليابان 128 مليون، وحوالي نصفهم أطفال ومراهقين ومسنين، سيبقي ما يقارب 65 مليون مواطن يملكون خمسة ملايين شركة، أي كل 13 شخص يملك شركة خاصة. وقد تساعد مراجعة دراسة التجربة اليابانية من جديد القارئ العربي أن يخرج من الحيرة التي يعيش فيها بعد انتفاضات ما سمي بالربيع العربي، حيث سيجد بأن التاريخ الياباني لم يختلف كثيرا عن تاريخنا العربي الإسلامي من معاناة الفرقة الدينية الطائفية، والحروب الدموية الطاحنة بين ولاياتها المختلفة، والإحباط المتكرر للمواطنيين. وقد نستفيد من هذه التجربة في مراجعة ودراسة حقيقة تاريخنا، لبناء مستقبل زاهر ومشرق لأطفالنا.
يعتقد المؤرخون بأن شعب اليابان متعدد الأعراق ويرجع أصوله للمغولية، مع قرابته البارزة من الشعب الصيني والكوري. فقد بدأ الشعب الياباني، في حوالي القرن العاشر قبل الميلاد، وفي عهد quot;الجومونquot;، بممارسة الصيد والعمل في صناعة الفخار، وقد تطور مجتمعهم في عهد quot;اليايوquot;، في القرن الرابع قبل الميلاد، إلى مجتمع زراعي، وبنظام ري متميز لزراعة الرز، ثم برزوا في عهد quot;تولمولوسquot;، في القرن الرابع بعد الميلاد، كمجتمع سياسي وبقوة عسكرية. وقد عمل الديوان الإمبراطوري على تطوير الأسطورة اليابانية، لتوحيد البلاد، للمحافظة على الإمبراطور كرمز مقدس لوحدة البلاد، ليبدأ تاريخ اليابان بأسطورتي كوجيكي ونهون شوكي، التي تروي قصة هبوط أبن الآهة الشمس إلى كوكبة الأرض، ليقوم أزنامي مع زوجته أزناجي، بتحريك العصاة السماوية المباركة في المحيط، لتتكون الجزر اليابانية، ولتبدأ دولة اليابان تاريخها الجديد في القرن السابع قبل الميلاد. وفي القرن الرابع قبل الميلاد، برزت قبيلة quot;الياماتوquot;، والتي تعتبر بأنها أصل الشعب الياباني، كجماعات منظمة في وحدات متخصصة في مجالات مختلفة كالزراعة، وصناعة الفخار، والنسيج، وإنتاج البضائع، ومحكومة بإدارة مدنية وعسكرية، ويقودها زعماء العشائر، وبمباركة الآلة. كما تطورت في هذه الفترة ديانة الشنتو، والتي تعني الطريق الالاهي، والقائمة على تقديس أرواح الأبطال، والأباطرة، والقوى الطبيعية.
وفي حوالي القرن الأول بعد الميلاد، بداء اليابانيون التعرف على حضارة الصين وسلالاتها الحاكمة، وفي عام 552 أدخلت الديانة البوذية لليابان، انتقالا من كوريا. وخلال القرن الخامس والسادس كانت البوذية العربة التي انتقلت من خلالها الحضارة الصينية إلى اليابان. ففي عهد quot;نارا quot; (710-794) تعلمت اليابان الكثير من الحضارة والثقافة الصينية، وأما في عهد quot;هيينquot; (794-1185) فقد بزوغ، وتطور، وأفل، البلاط الحاكم، بينما تحولت اليابان في عهد quot;الكاماكوراquot; (1185-1333) إلى دولة المحاربين. وفي عام 1268، أرسل حفيد جنكيز خان خطابا لحاكم اليابان، طالبا منه الاعتراف بسيادته على البلاد، ودفع الجزية، ولكن تجاهل اليابانيون طلبه. فقام بعدة محاولات شرسة ،حتى موته عام 1294، لغزو اليابان، ولكن جميعها باءت بالفشل، لبسالة المحاربين اليابانيين، وشدة الرياح والطوفان، الذي أدت لتحطم سفن العدو. واشتهرت منذ ذلك الوقت تلك الرياح والطوفان quot;بالكاميكزquot;، أي الرياح الإلاهيه، التي حمت أرض لألهه.
وفي عام 1333 بدأت حرب أهلية طاحنة في عهد quot;مروماشيquot; (1333-1568) أدت إلى خراب البلاد، وتوقف عملية التقدم. وفي عام 1543، في فترة الاضطرابات الشديدة quot;سينكوجواquot;، وصل ثلاثة من الرحالة البرتغاليين لشواطئ اليابان ، بعد تحطم السفينة الصينية، التي كانت تنقلهم للصين. وكانوا أول مجموعة أوربية تصل اليابان، لتجدها ممزقة بحرب أهلية طاحنة، ولوردات حرب يسرقون أراضيها، وحكومة ضعيفة وعاجزة. وفي عهد quot;ازوشي مونوياماquot; (1568-1600)، توحدت البلاد، بعد حرب طويلة طائشة، بفضل ثلاثة من القيادات القوية المتتالية من السموراي، وهم: نوبوناجا، هايوشي، واياسو. ويفتخر التاريخ الياباني بهؤلاء الزعماء الثلاثة، ليكررا اليابانيون مقولتهم في وصف نوعية قيادة هؤلاء الزعماء بالقول: quot;إذا لم يغرد الطير فنوبوناجا سيقتله، وهيديوشي سيقنعه ليغرد، وأما اياسو سينتظره حتى يغرد.quot; فقد حارب نوبوناجا بشجاعة، وكسب جميع المعارك التي خاضها، وأشتهر بالعنف والشراسة، فقد قتل أخوه وكثيرا من أفراد عائلته، وكان يحرق الجنود الأعداء بالآلاف بعد هزيمتهم، كما أنه ذبح الكثير من الرهبان البوذيين خوفا من توجهاتهم السياسية. وخلفه بعد ذلك هيدياشي، الذي حارب ببسالة وشراسة أيضا، ليوحد البلاد، وحاول غزو كوريا والصين، ولكن هزم، وتوفى بعد مرضه. أما اياسو، فاشتهرت فترته بعهدquot;التـوكوجاوquot;ا أو quot;الايدوquot; (1600-1868)، بعد انتصاراته في معركة سيكييجارا. وقد فرض نظام اجتماعي يقسم المجتمع إلى طبقات تبدءا بطبقة السموراي المحاربين، ثم المزارعين، وبعدها الصناع، ولتنتهي بفئة التجار.
وقد كانت تحدد طبقة المواطن منذ ولادته، وكان أهم تقسيم للمواطنين، هي بين العسكر السمواري، وباقي الشعب. وكان الأمراء العسكر، الشوجن، يمتلكون ثلاثة أرباع الأراضي، وجميع المدن، والموانئ، والمناجم. كما قيدت حركة التنقل، للمحافظة على الاستقرار، وأحتاج السفر لوثائق مرور، ومنع التنقل بأية وسيلة تستعمل فيها العجلة، ودمرت الجسور لمنع حرية الحركة، وفرض حضر التجول في المساء. وكان التعذيب والإعدام شائعا كعقاب للسرقة، وفرضت المسؤولية الجماعية وبقسوة، كما نفذت قوانين قطع الرأس لمعاقبة الجريمة، وزادت معاداة الأجانب، لتبدأ مرحلة quot;البلاد المغلقةquot;. وأشتد العنف ضد المسيحيين لاعتبارهم متآمرين مع الغرب، وكانوا يصلبون، ويتم إلقائهم في الأحواض المغلية.
وقد أدى هذا العنف والصرامة في الحكم للخوف والاستقرار في البلاد. وبعدها بداء الناس يتساءلون عن دور العسكر السموراي في الواقع الجديد، وحس الشعب بأن عساكر السموراي أصبحوا طفيليين على المجتمع. وتفهم السموراي الوضع الجديد وبدءوا بنشر أخلاقيات quot;البوشيدوquot; بينهم، وقد تزامن هذا الاستقرار السياسي مع التطور الاجتماعي والاقتصادي، فبرزت طبقة قوية من التجار، كما طورت الفلسفة الكنفوشسية التعليم، والتفكير الذهني الإبداعي. وبدأ الشعب الياباني يتساءل عن أهمية دور الأمراء العسكر في المجتمع، وخاصة حينما برز عجزهم وفسادهم على السطح. وفي شهر جولاي من عام 1853، وصل القبطان ماثيو بيري لشواطئ اليابان، برفقة أربع سفن حربية، وبأوامر من حكومته الأمريكية للحكومة اليابانية، بفتح الشواطئ اليابانية للسفن الأجنبية، للتزود بالوقود، والتجارة الدولية. ورحل بعد أن أهمل أوامر حكومته، ليعود في شهر فبراير من عام 1854 برفقة أسطول حربي مكون من تسع سفن، واضطرت اليابان للفتح الباب للخصم الأجنبي.
نلاحظ عزيزي القارئ بأن اليابانيون، بعد تجربة خلافات وصراعات مدمرة، بدءوا تقبل الديانة البوذية بحكمة، مع إن ديانتهم الأصلية كانت الشنتو، بل استفادوا منها كناقلة لحضارة الصين العريقة، إلى اليابان. كما استفادوا من التعاليم الصينية الكنفوشسية، لتطوير التفكير التحليل الذهني، وتقدم تعليمهم، ولم يسلم الشعب الياباني من حكم الطغاة ولكن عرف كيف يتعامل معهم، ويكمل تطور مجتمعه. ولنا لقاء.


سفير مملكة البحرين باليابان