من مفكرة سفير عربي باليابان

لقد تفاءل العالم بانتفاضات منطقة الشرق الأوسط في عام 2010، ليدفع بالبعض لوصف هذه الانتفاضات بالربيع العربي، وحينما أخذت تطول أحداث هذه الانتفاضات، وتأخذ منحا جديدا من العنف الدموي واللاعقلانية، بدأ يتحول الربيع إلى خريفه. ومن الغرابة أن يمتد هذا الخريف إلى جمهورية مصر العربية، فمن المعروف عن الشعب المصري بأنه شعب طيب مسالم، ولذلك أنصدم العالم بأحداث مدينة بورسعيد، التي أرتفع عدد ضحاياها بين مقتول ومجروح لعدة مئات، وبسبب عنف عاطفي لاعقلاني، على مباراة لكرة القدم، بين فريق الأهلي والفريق المصري، ويبقى السؤال المحير: ما الذي يدفع بالإنسان بهذا النوع من السلوك، حينما تتقلص قوى ألأمن في المجتمع؟ وكيف سيتعامل العرب مع الموجة الجديدة من الحرية في مجتمعاتهم؟ وهل تحتاج هذه الحرية لنوع محدد من الانضباط، والذكاء، والحكمة؟ وهل يمكن أن يستفيد العرب من التجربة اليابانية في خلق مجتمع متناغم، ومتآلف، بعد دمار الحرب العالمية الثانية؟ ألم يدهش العالم في العام الماضي، أيضا، من طريقة التعاطف، والتالف، والتناغم، التي تعامل بها الشعب الياباني مع الدمار الثلاثي للزلازل، والتسونامي، والتسرب الإشعاع النووي؟
يذكرني غضب إرهاصات العنف في مجتمعاتنا العربية بعد انتفاضات، ما سمي، بالربيع العربي، بمقولة فيلسوف الإغريق، أرسطو، حينما قال: quot;من السهل أن يغضب أي منا، ولكن بأن نغضب في الوقت المناسب، وبدرجة مناسبة، وبطريقة مناسبة، ولسبب مناسب، وبالشخص المناسب، فذلك ليس سهلا.quot; وأرتبط ذلك في ذهني بعقلانية اليابان بعد دمار الحرب العالمية الثانية في التعامل مع الهزيمة، وتناسي الدمار الرهيب، والابتعاد عن الحقد، والانتقام، وبدء العمل مع المنتصر، بنظمه ودستوره، واقتصادياته، وبسرعة متناهية. فقد انتهت الحرب في عام 1945، وصدر الدستور المفروض من الحلفاء في عام 1947، ولم يضيع الشعب الياباني الوقت في الخلاف والصراع حول الدستور المفروض، بل تفرغ لبناء الوطن من جديد، بعد أن أصر الشعب الياباني بالمحافظة على إمبراطوره ونظامه الإمبراطوري، كرمز مقدس لوحدة البلاد، وعمل بكل طاقاته لخلق معجزته الاقتصادية والتكنولوجية خلال ثلاث عقود. ويتحير الإنسان عن سبب اختفاء عواطف الحقد والانتقام بين الشعب الياباني، ويندهش لمدى الذكاء العاطفي والحكمة بين أفراده وقياداته، ليتساءل كيف طور هذا الشعب ذكاء هذه التجربة؟ وهل يحتاج العرب لهذا النوع من الذكاء مع تجربتهم الجديدة، المسماة بالربيع العربي؟
كتب جون دوور في كتابه،عناق الهزيمة، يقول: quot;بروز اليابان كأمة متقدمة أذهل العالم، بسرعة، وبجرأة، وبنجاح، بصورة مخبلة، قاتله، ومحطمة، لم يتصورها أحد. فقد كانت جزر نائية، كالنمر النائم، لا يسمع عنها أحدا، وفجأة برزت كجني يخرج من القارورة، فيتوسع، ويحارب، ويحطم حتى الدمار التام، ثم يبدءا من جديد وبنجاح باهر. لقد اندهش الأمريكيون حينما دخلوا اليابان بعد انتهاء الحرب. فوجدوها مدمرة تماما، واستغربوا من تأخر اليابان عن الاستسلام حتى يصل الوضع لهذه الدرجة من الانهيار، وتساءلوا كيف كانوا بهذه الرعونة؟quot; ولنتساءل: كيف تغير الشعب الياباني بعد الحرب، وحول، ما سميت بالرعونة، إلى حكمة السيطرة على العاطفة؟ أليس غريب هذا العقل البشري؟؟؟
ليسمح لي عزيزي القارئ بمقدمة علمية. يتكون العقل البشري من وحدات مستقبلة، ومفكرة، ومصدرة، وهي الخلايا العصبية، بالإضافة لشبكة معقدة من ألياف الاتصالات البيولوجية. وتقوم هذه الشبكة المعقدة بنقل ما يدور في محيطنا خلال الحواس السبع، إلى خلايا التفكير والتحليل، لتقرر هذه الخلايا نوع الاستجابة اعتمادا على عددها، ودقة عملها، والخبرة المتراكمة من أخطاء الماضي، وايجابياته. ويختلف البشر في كيفية التعامل مع الخبرة الحياتية لتوجيه هذه الخلايا، لينتج منه ما يسمى بالذكاء، والمرتبط بحل المعضلات، وأخذ القرارات اللازمة. ولكي ننمي ذكاء الطفل، نحتاج لتطوير طريقة تفكيره، بالبحث بدقة عن المعلومة، وجمعها، لحل المعضلات الحياتية، ويحتاج ذلك للتناغم بين التربية المنزلية، والتربية المجتمعية، والتربية المدرسية.
ومنذ أن خلق الخالق، جل شأنه، الإنسان، رافقته غريزة مهمة، وهي غريزة الخوف من الخطر، لتحاول أن تحميه من كل شر، بمراقبة أعضاء حواسه أعراض الخطر، ونقلها لخلايا المخ، ليقيم ويحلل الذكاء الذهني الظرف، ويقرر كيفية الاستجابة للخطر، وقد يتقدم الانفعال العاطفي أحيانا على هذا التقييم والتحليل، ليسيطر على الوضع، فيتصرف الإنسان بسرعة خاطفة، بطريقة انفعالية خطرة ومدمرة، قبل تدخل الذكاء الذهني. وهنا بيت القصيد، كيف يتحكم الذكاء العاطفي على انفعالات الغضب العاطفية، خلال الأزمات الصعبة، ليوجه هذه الانفعالات لقوة تحمي الإنسان، وتحقق تنميته وسعادته وازدهاره، بدل أن يتحول لرد فعل يحطمه بالعنف، والقتل، والدمار؟
قال قائد الهند العظيم، مهاتما غاندي: quot;قانون العين بالعين، جعل العالم أعمى.quot; لقد حولت موجة رد فعل الغضب الانفعالي، الانتقام، عالمنا الصغير لعالم أعمى، بالصراعات، والعنف، والقتل، فكيف نطهر مجتمعاتنا من ظواهر العنف هذه؟ لقد درس علماء النفس، لحل معضلة العنف والانتقام، مسألتين، وهما حاجيات الإنسان، ونمو ذكاءه العاطفي. فقد قام البروفسور ألأمريكي، أبراهام ماسلو، إستاد العلوم النفسية بجامعة نيويورك، دراسة علاقة نمو العقل البشري بحاجياته المادية، والنفسية، والروحية. وقد بينت أبحاثه بأنه لكي يتربى الإنسان تربية سليمة، جسميا، وعقليا، وذهنيا، واجتماعيا، وعاطفيا، وروحيا، يلزمه حاجيات فيزيولوجية، كالأكل، والشرب، والجنس، والملبس، والمسكن، والأمان، بالإضافة لحاجيات نفسية وهي الود العاطفي والتعاطف مع العائلة، والأصدقاء، وزملاء العمل، والمعارف، وأبناء الوطن، وربما تناغمه مع الجنس البشري والطبيعة المحيطة به. كما يحتاج لعمل يرتزق منه، ويثبت من خلاله شخصيته، بالإنتاجية والإبداع، وبان يمتلك حكمة تفكير ليعالج بها معضلات الحياة، وبأن يتمتع بقيم أخلاقية، وروحية، ودينية، ليتعامل مع ما حوله بسكينة واتزان، وأخيرا، وليس آخرا، يحتاج للصحة، والعدالة، والسعادة، ليستمتع بالحياة، ويقدر قيمتها. والسؤال: كيف يتكون العقل الإنساني بذكائه وعاطفته لو انعدمت توفر بعض هذه الحاجيات؟ هل ممكن أن تنقلب سعادته إلى تعاسة؟ أو قد يختار طريق العنف ليتعامل مع معضلات الواقع؟ وهل سيبداء بالحقد، والانتقام، وينتهي، بالقتل، والدمار؟ وقد يقول البعض بأنه مع توفر الحاجيات فالعنف حقيقة اليوم، وقد يكون ذلك صحيحا حينما نتكلم عن الحاجيات المادية الفزيولوجية، وليس الحاجيات النفسية والروحية. ويبقى السؤال: هل نحتاج لدراسة هذه الظاهرة وارتباطاتها بالتطورات المجتمعية الحديثة؟ وهل نستطيع تغير عادات الغيرة والحقد، والغيرة، والانتقام، ليستطيع البشر حل مشاكلهم بالعقل، والحكمة، وعدم الأنانية، وبالسيطرة على العواطف؟
لو راجعنا التاريخ الأمريكي بمتقلباته، وعواصفه، لنتذكر مقولة الرئيس رتشارد نيكسون: quot;الذين يعتقدون بأنهم أعداءك، حينما تكرهم، فهم الفائزون، وأنت الخاسر.quot; فماذا تعني هذه المقولة؟ هل تعني بأنك حينما تشاطرا العداء مع من يتصورا بأنهم أعدائك، تحطم المستقبل، بتضييع وقتك في صراعات الماضي، لتملئ نفسيتك بالكراهية والألم، ولتفقد توازنك النفسي، وتفكيرك، وحكمتك، بل لتفقد راحتك النفسية، وسعادتك؟ وتصور إذا فقد الإنسان توازنه، وتفكيره، وحكمته، ما الذي سيبقى له من مميزات الجنس البشري؟
يكرر اليابانيون حكمة ورثوها من الثقافة الصين الكنفوشيوسية: quot; الحقيقة!!! من قال هناك حقيقة؟؟quot; هذه حكمة مهمة، تعني لا أحد منا يملك الحقيقة، وذلك يدفعنا دائما للبحث والاكتشاف، ولن نصر على بأننا قد وجدنا الحقيقة، لأن الحقيقة تتغير، لنستمر في الإبداع، والاختراع. وتخلق تلك الطريقة من التفكير ألفه احترام الاختلاف، لتحافظ على تناغم عمل الفريق، وتميز إنتاجيته. وتبدأ الخلافات والصراعات حينما نعتقد بأننا اكتشفنا الحقيقة وحدنا، فما أقوله هو الصحيح، وما أفكر به هي الحقيقة، وما أفعله هو الفاضل، وما أؤمن به هو المستقيم، ويجب ألا يفكر غيري بطريقة أخرى، ويجب ألا يختلف مع رأيي أي إنسان آخر. وليسمح لي القارئ العزيز عرض تجربتي الحياتية مع الطب، فقد بدأت دراسة الطب وجراحتها قبل سنين طويلة، ولن تصدق كم من حقيقة درستها وطبقتها تغيرت واضمحلت؟ كم من عملية جراحية أجريت في تاريخ العالم كانت تعتبر ضرورية، وأصبحت اليوم ممنوعة؟ كم من عملية جراحية أجريت بقطع الأوصال، وشق الصدور والبطون، وأصبحت اليوم تجرى بدون المبضع؟ فهل هناك فعلا حقيقة حياتية دائمة، غير حقيقة الخالق جل شأنه؟ وهل من حقنا أن نعتقد بإننا نملك الحقيقة، ولا يملكها غيرنا؟ ولنفرض بأننا قبلنا بأننا لسنا وحدنا من يملك الحقيقة، فهل سنحترم رأي الآخرين، لتصبح اختلافاتنا سهلة الحل، بالحكمة، والعقل، والحوار الغير انفعالي المنطقي؟ ألا نتصور بأن لذلك علاقة بديمقراطية التفكير؟ الم يقل فولتير بأنه مستعد أن يضحي بحياته ليعطي الفرصة لمن يخالفه الرأي ليعبر عن رأيه؟ ألا نحتاج لهذا النوع من احترام ديمقراطية التعبير في مجتمعاتنا العربية؟ أليس من الأفضل أن نبدأ بتطبيقها على أنفسنا، قبل أن نفرضها على الآخرين؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان