منذ أن تشكلت الحركة القومية الكردية في سوريا في منتصف القرن الماضي، كان السؤال الأساسي على مائدة المنخرطين، المتابعين و المهتمين بها : ما هو الحل الأمثل للقضية الكردية في سوريا ؟. و رغم الإتفاق على أن القضية الكردية نشأت بسبب سياسة الإنكار القومي التي إنتهجتها السلطات المتعاقبة على سدة الحكم في سوريا بحق الشعب الكردي كمكون قومي أساسي من مكونات الشعب السوري، المتنوع قوميا ً و دينيا ً و مذهبيا ً، إلا أن جوهر الخلاف حول ماهية الحل كان وما يزل هو الموضوع الأساسي الذي دارت حوله نقاشات و حوارات مطولة، ليس على مستوى النخب السياسية و الثقافية بين الكرد و العرب فحسب، و إنما بين الكرد أنفسهم أيضا ً، من دون أن يفضي الى نتيجة أو تصور متفق عليه، يضع حدا ً لمعاناة شعب تعرض لكافة أشكال القهر و الظلم.
و لأن إستكمال الحوار و النقاش حول القضية الكردية في سوريا و كيفية حلها يكتسب صفة إستثنائية في الوقت الراهن لأهمية الموقع الذي تشكله في سلم القضايا الوطنية الواجب معالجتها من جهة، و المنعطف التاريخي الذي يجتازها البلاد جراء إندلاع الثورة السورية منذ ما يقرب من أربعة عشر شهرا ً على طول سوريا و عرضا ً من جهة أخرى، فإن الوصول الى صيغة نهائية، واقعية و قابلة للتطبيق، بشأنها في المرحلة الراهنة، مهمة عاجلة غير قابلة للتأجيل، و هي مسؤولية النخب السياسية و الثقافية الكردية التي يقع على عاتقها مسؤولية إنجاز هذه المهمة في أسرع وقت، بدلا ًعن الإنشغال بالقضايا ( المعارك و المناوشات ) الهامشية.
القضية الكردية في سوريا، بخلاف القضية الكردية في كل من تركيا و إيران و العراق، أكثر تعقيدا ً، يستلزم صياغة حل عادل لها و مرضي لجميع الأطراف، عقل سياسي مبدع، يفهم حيثياتها و ملابساتها القانونية و الحقوقية و السياسية و التاريخية و الجغرافية بشكل صائب. و لعل أهم نقاط التعقيد في هذه القضية هي أن المنطقة المعنية بها و التي يطلق عليها الكرد إسم كردستان الغربية أو غربي كردستان أو كردستان سوريا أو المناطق الكردية كانت جزءا من الإمبراطورية العثمانية قبل تقسيمها بين بريطانيا و فرنسا في بدايات القرن العشرين، وتسكنها جماعات قومية و دينية متعددة، بصرف النظر عن الأعداد و النسب، و هو ما تسبب لاحقا ً في نشوء نزاع جدلي بين القوميات المتعايشة حول الأحقية التاريخية بها، فضلا ً عن تباعد مناطق سكن الكرد في سوريا عن بعضها البعض من جهة أخرى. و ما تسبب في تعقيد القضية الكردية أكثر هو أن السلطات المتعاقبة في سوريا، و لا سيما في عهد حزب البعث، شجعت على هجرة القبائل العربية الى منطقة الجزيرة، بعضها قسرا بفعل سياسات الدولة تجاه الكرد، و أخرى إضطرارا ً بقصد اللجوء الى ملاذات رعوية لأرزاقها من الماشية، ساهمت في تغيير التوازنات الديمغرافية في المنطقة بشكل كبير، خاصة في منطقة الجزيرة، بحيث بات الحديث عن أغلبية كردية في مدينة الحسكة على سبيل المثال محل تساؤل. ففي ظل الشروط و الظروف الجديدة المحيطة بالقضية الكردية في سوريا في الوقت الراهن، منها ما هو قديم و أخرى حديثة العهد، يتوجب البحث في كيفية و ماهية الحل، سيما و أن الحركة الوطنية الكردية، اعلنت مرارا ً و تكراراً، أنها تبحث عن حل لقضية شعبها في إطار الدولة السورية الحالية.
فإذا ما أخذنا إشكاليتي الديمغرافية المتنوعة و الجغرافيا المتجزئة بالحسبان، من دون إغفال أن الكرد يشكلون في الواقع حالة قومية متميزة، كشعب يعيش فوق أرضه التاريخية في مناطقه الحالية ( الجزيرة/ كوباني / عفرين )، نجد أن التعددية القومية و الثقافية المصونة قانونيا ً و حقوقيا ً في الدستور يشكل ضمانا ً أو أساسا ً صالحا ً لحل القضية الكردية في سوريا، وهذا الحل، برأي، ينسجم مع نزوع المجتمعات الحديثة، و خاصة في أوروبا، الى التعددية الثقافية و الإجتماعية، بإعتبار أن العالم تعرض في الخمسة عقود الماضية الى تحولات إجتماعية عميقة نتجت عن الهجرة المتزايدة، كهجرة المسلمين الى أوروبا المسيحية على سبيل المثال. فالإقرار بالتنوع القومي و الديني و المذهبي من قبل النخب السياسية و الثقافية في سوريا يشكل الأرضية المناسبة لبناء حس وطني مشترك لدى كافة مكونات سوريا تجاه بلدهم. فبدون هذا الحس لا يمكن بناء هوية وطنية جامعة لكل السوريين، التي ما يزل يعترض طريق تشكيلها دعوات قوموية صرفة، عربية و كردية و غيرها، من قبيل أن سوريا عربية أو كردية أو اشورية.. إلخ، و قلنا في وقت سابق أن إقرار السوريين، بمختلف إنتمائاتهم القومية و الإجتماعية، بأن سوريا بحدودها الحالية هي بلدهم أو وطنهم النهائي هو الشرط الأساسي لبلوغ الدولة الديمقراطية القائمة على التعددية القومية و الثقافية الضامنة لحقوق أفرادها و جماعاتها على حد سواء. من هنا ما زلت أجد من الصعوبة بمكان تطبيق الشعارات المطالبة بالفيدرالية و الحكم الذاتي من قبل بعض الفعاليات السياسية الكردية في الواقع السوري على أسس قومية، و ليست جغرافية، و لا أحفي أنني لم أستقر على فهم واضح الى حد الآن لكيفية ترجمة حق تقرير المصير الذي طالب به المجلس الوطني الكردي في ميثاقه السياسي في ضوء التنوع القومي و التزاحم الديمغرافي الذي يشهده منطقة الجزيرة، و التباعد الجغرافي بين المناطق الكردية في سوريا. كما أني لا أعتقد أنه من الصائب المطالبة فقط بالإعتراف الدستوري بوجود الشعب الكردي في سوريا و منحه حقوقه وفق هذا الإعتراف، فالأمر يبدو و كأنك تستجدي حقوقُ، بينما هي طبيعية، لذلك فإن إقٌرار الدستور السوري بالتنوع القومي و الديني و المذهبي، وإعتبار سوريا ملكا ً لجميع أبناءها، من العرب و الكرد و الأشوريين و غيرهم، يشكل البداية الصحيحة لحل مشاكل عدة، منها المشكلة القومية، مشكلة المراكز و الأطراف و توزيع الثروة و غيرها.
من هنا ما زلت أستشعر قصوراً سياسياً من قبل النخب السياسية و الثقافية لدى جميع الأطراف في معالجة مشاكل الوطن السوري، أقله هو الشعور السائد أنه بمجرد سقوط النظام القائم سترحل معه كل المشاكل و الاشكالات التي عانينا منها على إمتداد عقود، و هو ما اشك فيه، إذا ما بقيت معالجتنا في حدود التفكير و المنطق و المقاربة الحالية للأمور.
كاتب كردي سوري
التعليقات