لم يكن صدام حسين دكتاتوراً، فهذه الكلمة تجميلية، فهو أرعن وبشع من أخمص قدمه حتى نخاعه الشوكي، وهو الذي قاد العراق إلى الكوارث التي نحن فيها الآن، نعيش فيها في عراق مضطرب هائج مائج. والمفروض وبعد نضال مرير خاضه شعب طيب وقدم تضحيات جسام أن ينبلج الحال عن صبح مفرح، فإنبلج الصبح عن غبار أحمر كثيف غزا المدن العراقية من شمالها إلى جنوبها. هذا الغبار الكثيف الحار والمدمر للرئة والمزاج يتمثل في فئة ضالة ldquo;حقيقة ضالةrdquo; هيمنت على مقدرات العراق. وهي فئة لم تكن محسوبة بدقة وبشكل مرئي أبان حقبة النضال ضد بشاعة الحاكم الذي أحرق الأخضر واليابس.

أنا هنا لا أناقش الإقتصاد فلست خبيراً فيه ولا أكتب عن النفط لأنه يزكم الأنوف ولا أرسم سياسة البلد فلست من هذه الطغمة الفاسدة والحمد لله.

فجأة، وبعد سقوط النظام، وإذ نحن في سفينة ترفعها الأمواج وتنزل بها فتقتلع الأمعاء ويدلق ركابها ما في جوفهم من سائل مر يضغط على ذواتهم فيصيبهم بحالة من اليأس والخوف في خضم ذلك الموج الهائج المائج. رجال دين معممون لا يمكن وصفهم سوى بالغباء والرعونة والمكر. ممثلون فاشلون على المنابر أحالوا حلال الله حراما وحرام الله حلالا تاجروا بالحسين حتى أحالوه ركاماً وهم يرفعون رايات موته على سطوح شركاتهم ومؤسساتهم ومنازلهم وقبورهم وينثرون الملبس في المآتم الحسينية لتشفي مرضاهم بدون مستشفيات ولا علم ولا عمليات جراحية. يقابلهم زمرة من اللصوص أمتهنوا سياسة الإستيلاء على إقتصاد البلد ورموا العراق في أتون الحرائق والمذلات وبقي الناس مدهوشون وهم ينظرون إلى بلدان الجوار الصغيرة وهي تنعم بنسبة من رغد العيش وبحد أدنى من الكرامة.

لا أحد مقنع في الدولة العراقية الجديدة وعلى الإطلاق. بدءاً من رئيس الجمهورية وحاشيته من المنتفعين وهو أولهم مروراً برئيس الوزراء الذي لا توجد له صورة وهو يبتسم وأظنه لا يجيد فن الضحك ووزراؤه وحاشيته الذين تعيش زوجاتهم بين طهران ودبي. وأنا هنا ضمن هذه المهزلة من الوزراء والشخصيات البرلمانية أطلب منهم كأصحاب سلطة أن يجلبوا زوجاتهم إلى بغداد. لماذا يترفعون عن جلب زوجاتهم إلى عاصمة الرشيد الخالدة وإلى البصرة الفيحاء والرمادي الغناء والنجف المقدسة وكربلاء الحسين، المدن التي يتغنون اليوم بنعيمها الزائف ويتلون الآيات عن مقدساتها الكربلائية والنجفية والكاظمية والسامرائية. إذا كان العراق بهذا الجمال وهذا الرخاء وهذا الأمان فلماذ يودعون زوجاتهم في الغربة؟ اليس العراق كما يقولون يعيش حقبة من الرخاء والديمقراطية لا مثيل لها، فلماذا لا تنعم زوجاتهم بهذا الرخاء وأبناءهم بهذه المدارس النموذجية؟!

أتطلع إلى البرلمان. إلى رجاله المعممين والملتحين فاصاب بالأغماء وأتطلع إلى نسائه المشدودات بالأغطية والألحفة وأعرف أنها ليست أزياء تراثية عراقية. فالعراقية التي كانت تلبس العباءة والشيلة هي عراقية جميلة وغنت عنها المطربة اللبنانية سهام رفقي quot;العبا أجمل صورة للبنت المتهذبةquot; وغنت quot;ياأم العباية حلوة عباتجquot; وغنى صاحب شراد المطرب الريفي quot;ذبي العباية وسوي علي إحسانquot; اليوم لم تلبس البرلمانية العباءة العراقية رمز الحشمة والجمال بل لبست اللحاف الإيراني الذي لو دخلت مطار طهران والنسوة يختمن جوازات السفر لشممت عطر quot;شانيل!quot; منذ مغادرتك باب الطائرة من كثرة ما ينزف الجسد من مساماته من الروائح المقرفة.

هذه الأزياء التي تحول دون شم المرأة وتقبيلها ودون المشي إلى جوارها في الجامعة والمسرح وصالة السينما ودون أن تحلم بها ليلا وتكتب عنها قصائد الشعر وترسم لها لوحات الزيت والألوان المائية تجريداً ولونا وحلما زاه ينعش القلب. أصبحت المرأة تقف إلى جانب ميكروفونات القنوات الفضائية المزدحمة مدلهمة الوجه متدلية اللحم من رقبتها ومن وجناتها من كثر ما تأكل من اللحم الحرام والرز المداف بمخاوف المستقبل. شوهو جمال المرأة الذي نحتت عن جسدها التماثيل الإغريقية والبابلية من فينوس إلى عشتار، وحولوها إلى كتلة مشوهة مترهلة غير قابلة للنوم بدفق إلى جانب الرجل. أصبحت المرأة العراقية كيان تهرب منه الرجولة يقابلها رجال بالعمائم يمارسون معها عمليات الإغتصاب على فراش الزوجية.

ضعوا إفتراضاً أن تجردوا مقتدى من عمامته وجبته وتضعونه في باب الشيخ أمام مطعم صيفي لبيع quot;الباجةquot; ألا تبدو الصورة أكثر إنسجاماً مما هي عليه الآن؟ هذه الصورة تنسحب على كل الذين يديرون العملية السياسية في سدة الحكم أم في ما يسمى قوى المعارضة.

نحن في بلاد منحها الله الثروات الثرية، ولكن للأسف منحها الله هذا العدد من الأشرار. أتساءل أحيانا لماذا يسرقون الوطن بالتقسيط. لماذا لا يسرقونه مرة واحدة يسرقون الوطن داخل الوطن كاملاً ويبنون فيه العمارات الشاهقة والمدارس الحديثة والمقاهي الأنيقة والمطاعم الفاخرة وينشئون الجامعات المتطورة ويعيدون شتل فسائل النخيل لتثمر رطبا جنيا ويزدهر الوطن ويعيشون فيه سعداء مع أبنائهم. لماذا يسرقونه بالتقسيط ويرمون بأجزائه في شوارع بريطانيا ودبي وعمان ونيويورك ويتركون البلاد صحراء تفتك بها الأمراض والمياه الملوثة وتسير مياهه في الفراتين وفي شط العرب مثل الدهن من شدة الملوثات. لو كانوا عراقيين حقاً لفعلوا ذلك!؟ أقسم أنهم ليسوا عراقيين. شاهدوا هذا صاحب حزب الوسط فهو عينة من تيار. شاهدوه مليا عندما يتحدث في التلفاز وهو ويروي حكايات لا وجود لها مثله مثل غيره مستغفلين الناس معتقدين أن الناس لا تعي ولا تدرك ولا تسمع ولا صوت لها.

أي فئة من الناس أنتم أيها الحاكمون؟ أتظنون بأن الناس غافلة عما يجري؟ أو تظنون المنطقة الخضراء هي خضراء حقا أم حمراء مضرجة بدماء الأبرياء؟ الحاكم السابق البشع هو الآخر حرم المياه أن تمشي فيها زوارق غير زورقه وأن يفوج فيها جسد غير جسده وأن يجلس على شواطئها أهل غير أهله. واليوم أنتم تعيدون ذات المشهد السخيف بمنطقة خضراء حمراء تاركين الناس تغرق بدمائها في مناطق حمراء في طول البلاد وعرضها. الكورد ينهبون خزائن المصرف المركزي في جانب والشيعة ينهبون في جانب آخر بعد أن أخذ السنة حصتهم من النظام السابق.

عندما أقول الشيعة والسنة وعندما أقول الكورد فإنني لا أعني الناس بل أعني الفئات المتسلطة على رقاب الناس. اليس الشاب quot;سردشتquot; في جامعة صلاح الدين الذي رسم قصة موته بدقة ونفذت كما رسمها لأنه يعرف مسامات مستلبيه هو نموذج ينبغي أن تكتب عنه قصائد الشعر وترسم عنه اللوحات الخالدة وتكتب عنها الملاحم والسيناريوهات الجبارة؟ دعونا نقرأ ما كتب وكيف رسم موته (في الايام القليلة الماضية قيل لي إنه لم يبق لي في الحياة إلا القليل، وكما قالوا إن فرصة تنفسي الهواء اصبحت معدومة، ولكنني لا أبالي بالموت أو التعذيب. سأنتظر حتفي وموعد اللقاء الأخير مع قتلتي. وادعو أن يعطونني موتاً تراجيدياً يليق بحياتي التراجيدية. أقول هذا حتى تعلموا كم يعاني شباب هذه البلاد، وأن الموت هو أبسط اختياراتهم. حتى تعلموا أن الذي يخيفنا هو الاستمرار في الحياة وليس الموت. وهمِّي الأكبر هو اخوتي الصغار وليس نفسي. ما يُقلقني في هذه التهديدات هو أن هناك الكثير الذي لابد وأن يقال قبل أن نرحل. مأساة هذه السُلطة هي أنها لا تبالي بموت أبنائها - سردشت).

أليس سردشت كورديا؟ هل يمكن جمع الأكراد في سلة واحدة تجمع هذا الإله مع الشيطان القابع في بغداد ويدير مؤسسة تمتهن الثقافة العراقية وتلم كل من هب ودب وهو مجرد مثال سوف تعرف أجندته ويعرف ماضيه في المدى القريب!
والناس؟! أين الناس؟! أين العراقيون النبلاء؟! في أي مزار يبكون وعند أي ولي يشكون؟! وعند أي إله يبتهلون؟!

لقد رسم بريمر سيء الصيت ومن قبله غارني سياسة تدمير العراق تنفيذا لوصية بوش المنتقم من العراق إستكمالا لنهج الحاكم البشع أمين عام حزب البعث العربي الإشتراكي.
وضمن هذا النهج البشع ينبري شيوعيو العراق وديناصوراته بكل وقاحة ليباركوا الجريمة علنا وعلى رؤوس الأشهاد متنكرين لكل الفكر الذي حملوه وروجوا له quot;ودفعواquot; الملايين من الأبرياء والجميلين للموت في سبيله بدون رحمه!

وفق هذا الواقع المر وفي هذا العراق المضطرب الهائج المائج تنتشر وسائل الأعلام المقروءة والمسموعة والمرئية لتبث السموم في أجواء العراق المختنقة أصلاً بالسموم. قنوات تنشر الفكر المقيت المزيف وتنشر الجهالة ولا أحد يعرف مصادر تمويلها ولا أجندتها المعدة مسبقاً حتى باتت لكل معمم حسينية فضائية يعبث من خلالها بعواطف الناس الغريزة غير الواعية. قنوات يقف وراءها المجلس الأسلامي والحوزة الكربلائية والعتبة العلوية وحزب الدعوة والفضيلة والرذيلة وكوردستان الطالباني وكوردستان البارزاني والحزب الأسلامي وبلدان الجوار وأجهزة مخابراتها بعمائم وجبُات من حرير أصفهان وأقمشة خوجة الهند، وقمصان الضاحية الجنوبية! هؤلاء يختلفون الآن على الغنيمة ويتقاتلون على الغنيمة ويفخخون المتفجرات على الغنيمة. ولو سأل أحدنا ألا يكفيهم ما نهبوا حد التخمة؟ سيكون الجواب أن أجنداتهم ومن يقف وراءها لا تسمح لهم بالإنسحاب! أنهم يتعاركون ليتسابقوا من أجل تنفيذ الأجندات المكلفين بها. تراهم يتخاصمون ويكيلون الأتهامات إلى بعضهم حسب مصالحهم وليس حسب ما تقتضيه المصلحة العامة وإلا كيف يتهم نائب رئيس البلاد بالمفخخات والفساد ويترك نائب آخر أرسل حمايته لقتل موظفي المصرف في الكرادة ونهب أموال المصرف!؟ كثيرون متهمون بالسرقة والتفخيخ والنهب. هم يقومون بتصفية الحسابات مع بعضهم حتى تنفرد فئة واحدة بالبلاد ومن ثم أستكمال تدميرها للبلاد كما رسم لها!

كل الأسماء التي جاءت بدون إستثناء من مستشاري الأمن القومي واللاقومي من الناطقين بالألسنة ومن الوزراء والمحافظين وأصحاب المطارات وطائرات غسل الأموال التي تقلع من مطار النجف وتهبط في مطار طهران، من موظفي التقاعد ورؤوساء البلديات والمحافظين من السادنين والمراجع الدينية. كومة من المزابل والنفايات لا تستحق سوى أن تحرق خارج الوطن الغالي في صحراء الربع الخالي أو صحراء نيفادا حتى لا تتلوث سماء العراق بماضيهم النتن.

هنا يطرح السؤال الذي يبدو منطقيا لأول وهلة. إذا كان كل هؤلاء، كل هذه الفئات التي تحدثت عنها وكل هؤلاء الأشخاص بهذه الرداءة وبهذه اللصوصية فمن تبقى في العراق يستحق العيش والهناء؟ وبمن نبني العراق؟

هؤلاء لو جمعتهم وبالآلة الحاسبة هم وجماهيريهم من سكنة السجون السابقة، سجون الجرائم العادية، لا يتجاوزون المليوني فرد أو فردة من مجموع تعداد سكاني العراق الذين يبلغ تعدادهم الستة وعشرين مليوناً. أؤلئك هم أبناء العراق بإسمائهم العربية الأصيلة والكوردية الأصيلة حتى لو شاء الكورد الإنفصال وبالسلام وبالمعقول وبالحق. أؤلئك هم أبناء العراق لا ينقصهم سوى المثل والأمثال الرمز والرموز التي تجمعهم وتحييهم وتعيد إليهم النفس النقي والماء الزلال والثقفة بالنفس وبالمستقبل الذي يئسوا منه. يحتاج إلعراقيون إلى تيار جديد يقوده نفر شجاع وباسل وحميم وعاشق وتكون لهم وسيلة أعلام بسيطة متواضعة يطلون من خلالها على شعبهم ويقودونهم نحو شاطئ الأمان في هذا البحر العراقي الهائج المائج! حينها لو تأسس مثل هذا التيار ولو تمكن من أداة إعلامية يتواصل بها مع أهله فسيعرف الجميع حجم الغضب وحجم الحب في هذا العراق الهائج المائج!

كاتب وإعلامي مقيم في بريطانيا
[email protected]