تعقدت الأزمة السياسية في العراق ووصلت الى طريق مسدود. فمع إصرار رئيس الوزراء نوري المالكي على التفرد بالسلطة والسعي نحو الدكتاتورية وعسكرة المجتمع وصرف أموال الدولة على شراء الذمم، إنعدمت فرص الحلول الوسطية للأزمة، وبات الوضع يحتاج الى حلول حاسمة لإنهاء هذه الأزمة المستعصية التي تهدد الوضع الإقتصادي والعملية السياسية برمتها، في وقت تتزايد فيه معاناة العراقيين مع الأزمات المعيشية وما ينتظرهم من أزمات الكهرباء مع قدوم فصل الصيف اللاهب اللهاب،في عراق ما زالت حكومته عاجزة عن توفير أدنى مستلزمات الحياة الكريمة للمواطن،من الخدمات والكهرباء والماء بسبب استمرار الأزمة السياسية التي تعيق جميع فرص الإرتقاء بحياة المواطن.

لقد فشلت جهود الأطراف السياسية وفي مقدمتهم نوري المالكي بعقد المؤتمر الوطني، فإجتماعي أربيل والنجف والمشاورات الثنائية والثلاثية والرباعية والخماسية دقت المسمار الأخير بنعش هذا المؤتمر..والدعوات المتكررة للرئيس طالباني لقادة العراق بالجلوس الى طاولة الحوار لم تلق آذانا صاغية لحد الآن، لأن الأزمة أكبر مما كان يتوقعه الرئيس، وأصلها فقدان الثقة، ولذلك فإن أي حوار يخوضه قادة الكتل السياسية لا يعدو سوى حوار الطرشان، ولعل طالباني أدرى بهذه الحقيقية لقربه من أولئك القادة..

كل الخيارات أمام حل تفاوضي لتجاوز الأزمة قد إستنفدت، بإستثناء خيار واحد جرى الحديث حوله أخيرا كمحصلة نهائية لتداعيات الأزمة،وهو خيار اللجوء الى البرلمان لطرح مسألة سحب الثقة من حكومة المالكي. ويبدو أن هذا الخيار هو الوحيد والمقبول حاليا للخروج من الأزمة، لأنه من دون ذلك ستستمر الأزمة وستفتح أبواب الجهنم على العملية السياسية في العراق، بما فيها تجسيد نوايا المالكي بتجميد الدستور وإعلان الأحكام العرفية، وحكم البلاد بالعسكر والأجهزة الأمنية الموالية له، وهذا يعني فشل عملية تحرير العراق من الدكتاتورية وبناء تجربة ديمقراطية جديدة في البلاد.

أنا أستغرب من شخص مثل المالكي الذي يعارضه معظم القادة والكتل السياسية، كيف يرضى لنفسه أن يبقى ولو يوما واحدا في الحكم،ومعظم قادة البلاد وأحزابها ومكوناتها يرفضون حكمه؟؟!!. فهناك أولا أبرز القادة العراقيين المعارضين لإستمراره بالحكم وهم الزعيم الكردي مسعود بارزاني وزعيم العراقية أياد علاوي،والزعيم الشيعي مقتدى الصدر،ورئيس البرلمان أسامة النجيفي، فهؤلاء هم أعمدة وأركان العملية السياسية في العراق، ويمثلون مجتمعين المكونات الكردية والسنية والشيعية، وهي المكونات الأساسية في العراق،وكل كتلة يتزعمه هؤلاء القادة تتمثل فيه مجموعة كبيرة من الأحزاب والقوى العراقية، وهذا يعني ببساطة أن معظم العراقيين يعارضون حكم المالكي،ولو إعتبرنا أن هذه الكتل النيابية تمثل كل منها مجموعة من الناخبين العراقيين،فإن الحصيلة ستكون رفض الأغلبية المطلقة من العراقيين لحكم المالكي،فكيف يقبل رئيس وزراء أن يحكم بلدا يرفضه شعبه بأغلبيته المطلقة؟!. إذا كان المالكي يرضى بذلك،إذن فهو لا يختلف عن دكتاتور العراق السابق صدام حسين الذي أذاق شعبه المر والهوان، ولا عن دكتاتور سوريا الحالي بشار الأسد الذي يوغل بدماء شعبه يوميا للحفاظ على كرسي الحكم؟!.

إذا كان هذا الموقف من المالكي مرفوضا وغريبا، ومتناقضا مع أبسط قواعد اللعبة الديمقراطية التي تستند الى رأي الأغلبية، فإن الأغرب منه عندي هو موقف رئيس الجمهورية طالباني. فالرئيس الذي كرس جل حياته في مقارعة الأنظمة الدكتاتورية المتعاقبة الواحدة تلو الأخرى على حكم العراق، وناضل في الجبال، وتشرد في المنافي لسنين طوال، وحمل البندقية على أكتافه وقاتل ضد دكتاتورية صدام لأكثر من ثلاثين عاما، وجال الدنيا كلها لفضح السياسات الدكتاتورية للأنظمة الحاكمة في العراق،فكيف يقبل لنفسه أن يدعم دكتاتورا مثل المالكي الذي يسير بالبلاد بتفرده وتسلطه على مقدرات الدولة بتوجيهها نحو تكريس دكتاتورية أخرى قد لا تختلف عن دكتاتورية صدام أو الأسد؟

لقد كان للرئيس طالباني مواقف تاريخية مشرفة بوجه الدكتاتوريات العراقية،وأن الحجج التي يسوقها اليوم بأنه كرئيس للبلاد يسمو فوق الخلافات السياسية التي تعصف بالعراق، وأنه يريد أن يكون الخيمة التي تجمع الفئات المتصارعة، هذه الحجج لا تبرر له مطلقا أن يقف بصف دكتاتورية المالكي ضد معظم القوى والأحزاب والكتل والمكونات العراقية التي يعتبرونه رمزا لهم في أعلى سلطة بالبلاد، فهو بحكم كونه رئيسا للجمهورية يعطيه الدستور حق التقدم بطلب الى البرلمان العراقي لسحب الثقة من المالكي، فلماذا يتردد الرئيس من مثل هذه الخطوة وهو العارف ببواطن الأمور وبما يجري من خلف الكواليس، ويقدر حجم التدخلات الخارجية، ويعرف يقينا محاولات الدوائر المتربصة بالعراق؟. فلماذا يضحي الرئيس بكل هذه الكتل السياسية وما تمثلها من أحزاب ومكونات قومية وسياسية ومذهبية، ويجري وراء أهواء شخص مريض بالسلطة؟. لماذا لا ينقذ العراق من كل المخاطر التي سبق أن حذر هو ذاته منها والتي تتعرض لها البلاد في ظل الأزمة السياسية الحالية؟.

إن إستناد الرئيس الى الدستور وهو الحكم الفصل في المنازعات السياسية ليس كفرا، فكثير من الدول المتحضرة والديمقراطية تلجأ الى برلماناتها لحسم الصراعات على الحكم بدل الإنقلابات العسكرية التي إنتهى زمنها إلا بمخيلة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي.

الرئيس طالباني يدرك قبل غيره بحكم علاقاته بجميع القوى والأطراف العراقية أنه لا مخرج من الأزمة إلا بذهاب المالكي، فلماذا لا يحسم أمره وليزعل من يزعل، المهم أنه سيكون قد قام بواجبه الدستوري في إنقاذ البلاد من خطر داهم قد ينسف العملية السياسية برمتها،ويطيح بالتجربة الديمقراطية التي قدم العراقيون ومنها الشعب الكردي وفيهم الرئيس طالباني نفسه تضحيات غالية لبنائه في العراق على أنقاض دكتاتورية شرسة أعادت العراق قرونا الى الوراء.

[email protected]