حالة الغضب العارم والفوران التى تغلي بسببها الأوضاع الشعبية الحزبية والثورية في ميادين مصر الشهيرة منذ يوم 2 يونية الجاري بسبب الحكم الذي اصدرته المحكمة التى كانت تتولي محاكمة الرئيس المصري السابق ونجلية ووزير داخليته حبيب العادلي وستة من مساعديه، أعادت إحياء بعض المطالب الواقعية بهدف تحريك المياه في مجري المطالب الثورية التى لم تتحقق منذ إندلاع ثورة 25 يناير 2011.

هذا الغليان لم يتوقف عند منحني الصدمة المجتمعية التى أصابت بالغم الغالبية العظمي من شرائح الشعب المصري علي إختلاف توجهاتها بسبب أحكام البراءة التى حصل عليها مساعدي وزير الداخلية الأكثر قوة والأوسع نفوذاً، ولكنه إمتد إلي المخاوف الشعبية من أن ذلك الحكم قد يكون مقدمة لإخفاء معالم جريمة قتل الشهداء وتدمير حياة المصابين..
إمتدادات هذه المخاوف لم تتوقف عند مستوي المتضررين من أسر الشهداء والمصابين، ولكنها أصبحت حديث كل بيت وكل تجمع مصري..

الغالبية من المصريين تتتفهم العذر القانوني الذي جعل quot; يقين المحكمة quot; يفضل تبرأة المتهمين الستة بدلاً من إدانتهم لأنها حكمت وفق ما توافر لديها من أدلة وشهادات شهود، لكن الأمر أكبر من ذلك بكثير لأنه يتعلق بحق المجتمع في القصاص من القتلة ومن المسئولين الذين أتلفوا المستندات والذين تقاعسوا عن تقديم ما يتوافر لديهم من أدلة وبراهين وكذا الذين تباطؤ في الإدلاء بشهاداتهم..
لذلك نقول..
إننا لا نلوم ردة الفعل العنيفة للمجتمع، التى لا زالت قائمة حتى اليوم..
ولا نلوم التيارات السياسية التى تري في هذا الحكم بداية للقضاء علي الثورة..
ولا نعارض المطالب التى تنادي بضرورة إيجاد صيغة قانونية لتقديم المتهمون جميعاً بما فيهم من حصل علي براءة للقضاء بتهم أخري تدور كلها حول الفساد السياسي الذي إستشري في جسد الدولة المصرية لأكثر من ثلاثة عقود..

وهذه المطالب تدعونا لكي نؤكد أن الظرف الحالي الذي تمر به الدولة المصرية يستدعي العمل علي إنتشال القانون والقضاء ومنظومة العدالة برمتها من مواصلة خدمة الأهداف السياسية علي حساب العدالة الحقة التى شُرعت لخدمة المجتمع..
الثورة عندما تنطلق، تدعو للتغير دائماً.. فهي تتفجر من أجل ان تحققه..
لكن مشكلة الثورة المصرية أنها عندما إنطلقت لم تكن تمتلك مقومات التغيير.. ولم تحصل علي هذه القوة حتى اليوم لأن رموزها ومن ظهر من قياداتها لم يستطع أن يحدد برنامج سياسي يجذب اليه الأعداد الغفيرة من المصريون الذين يدعمون فوزهم علي مستوي مجلسي الشعب والشوري أو يدفعون بواحد من ممثليهم في مقدمة الفائزين علي مستوي التنافس الرئاسي.. لذلك لم تتمكن من فرض شرعيتها حتى الآن..

من هنا يلاحظ المراقبون أن الحالة السياسية والثورية في مصر لا زالت تترواح بين الشرعية الثورية والشرعية القانونية.. وأنها تنتقل من هذه إلي تلك ثم تعود إلي هذه، وفق حاجة كل طرف من أطراف القوي المؤثرة في الشارع المصري.. ونقصد تحديدا المجلس الأعلي للقوات المسلحة وجماعة الاخوان المسلمون، اللذي يتحالفان كل وفق مصلحتة المرئية والخفية الآنية او المستقبلية..
ويمكن تتبع هذه الإنتقائية منذ الحادي عشر من فبراير 2001 وحتى اليوم..

كان هناك التحالف بين المجلس الأعلي وجماعة الاخوان المسلمون ضد الجماعة الثورية قبل إستفتاء شهر مارس 2011 الشهير.. وكان هذا التحالف قائماً قبل إنتخابات مجلسي الشعب والشوري.. وظل فعالاً ابان اعتداءات الشوارع التى وجهت لأبناء الثورة..
إنفصم التحالف بينهما في منتصف مارس 2012، عندما فشلت الأغلبية بمجلس الشعب في المطالبة بحق حزب الحرية والعدالة ndash; الذراع السياسي للجماعة ndash; في سحب الثقة من حكومة الدكتور كمال الجنزوري.. وبسببها عادت الجماعة بكوادرها وشعارتها إلي جانب الثورة في ميدان التحرير، ولكنها سرعان ما إنسحبت منه علي أثر قرار مجلس شورتها بالمنافسة في سباق كرسي الرئاسة..

ثم عادوا إلي الميدان مؤخراً عندما كشفت جولة الإنتخابات الرئاسية الأولي عن أن الصراع من أجل الكرسي سيكون بين مرشح الجماعة الدكتور محمد مرسي و الفريق أحمد شفيق مرشح الفول كما يُطلق عليه، عادوا بهدف كسب اصوات الشباب والإئتلافات الثورية التى صوتت في الجولة الأولي لغير مرشحهم..
كل هذا التجاذب بعداً وقرباً من جانب المجلس الأعلي للقوات المسلحة وجماعة الإخوان المسلمون لم يهدف إلي تحقيق مصلحة عامة، ولكنه سعي إلي تحقيق إنتصار محدود ومكسب ضيق علي حساب المطالب الشعبية والطموحات الجماهيرية التى سبق أن لخصتها الثورة في مطلب الحرية والكرامة والعدالة الإجتماعية..
لم يطمس هذا التجاذب أهداف الثورة فقط، بل هز فكرة العدالة والقانون بشكل أصبح يشكل خطراً زاحفاً علي الدولة المصرية.. فأصبح المجتمع يعاني من
1 ndash; محاولات لا تتوقف للإعتداء علي القضاة وتهديد حياتهم داخل قاعات المحاكم، من جانب عائلات المتهمين وخصومهم في نفس الوقت..
2 ndash; إستغلال الكثيرون لحالة الثورة المستمرة علي النظام السابق وأصرار الكثير من القوي السياسية علي تخليص الدولة المصرية من كبار العاملين في الدولة، لتقديم بلاغات كيدية وشكاوي غير موثقة تحمل إداعاءات لا أصل لها.. مما أربك الجهاز القضائي بشكل لافت للنظر..

3 ndash; إنتشار كم هائل من الشائعات التى تترصد حركة كبار موظفي الدولة وتهددهم بالإبلاغ عن تعاونهم المبطن مع قيادات النظام السابق، مما أصاب الجهاز الحكومي بالشلل..
4 ndash; الإنفلات الأمني الذي ينتشر ويتوسع في العديد من المحافظات، ولا تجد له الأجهزة الأمينة التي تتعامل معه علي إستحياء سنداً قانونياً يوفر لها الحماية من ناحية ويعيد لها هيبتها بين الجماهير التى هي في أمس الحاجة إليها من ناحية ثانية..

5 ndash; تواصل العمل بمجموعة قوانين وصفت منذ سنوات بأنها quot; سيئة السمعة quot; صيغت لخدمة أهداف سياسية لنظام تصدع بنيانه بعد سقوط رأسه، لأن الغالبية التى تهيمن علي مجلس الشعب لم تفكر منذ إعتلائها المنصة في تعديل مثل هذه القوانين أو إلغائها..
أصبح من الصعب بعد عام ونصف من قيام الثورة المطالبة بتفعيل الشرعية الثورية، لأن الواقع المجتمعي الذي تحقق لا يمكن القفز عليه أو إنكار وجوده الملموس..
-فالمبادئ الدستورية التى تم الإستفتاء عليها، هي التي تنظم العلاقة بين الأطراف الحاكمة للفترة الإنتقالية..

-الإنتخابات التشريعية، جرت بمصداقية عالية وأفرزت سلطة تشريعية لها وزنها..
-صدرت مجموعة من القوانين التى بدأت تؤتي ثمارها، رغم عدم كفايتها..
-إنتهت جولة الإنتخابات الرئاسية الأولي، والمجتمع يستعد هذه الأيام لخوض الجولة الثانية..
لذلك من الأفضل أن تتكاتف قوي الثورة مع القوي السياسية الفاعلة في المجتمع لكي يتجه الجميع نحو تقوية دعائم الشرعية القانونية عن طريق إعادة بناء المنظومة القانونية من كافة جوانبها، ونعني بذلك..
اولاً.. مراجعة كافة القوانين، خاصة تلك التي صيغت لهدف سياسي
ثانياً.. تحقيق الإستقلال الكامل للجهاز القضائي
ثالثا.. إصلاح البيئة القانونية برمتها
نقول ذلك لأن مستقبل مصر الدولة والوطن والشعب يرتكز فقط علي تعزيز دولة القانون والعدالة، التي علي أساسها تقام الديموقراطية..

bull;إستشاري إعلامي مقيم في بريطانيا
[email protected]