عرف التاريخ القريب للوجود الفلسطيني في الدول العريية أزمات وإشكالات وجودية كلفت اللاجئ الفلسطيني على مدى سنوات شتاته ولجوئه أثماناً باهظة، وصلت في بعض الأحيان إلى حد التضحية به على قربان تحقيق السلم الأهلي في بعض البلدان العربية.
هذا الوجود الفلسطيني quot;الإجباريquot; في بعض الدول العربية، وتكرر ارتكاب بعض الأخطاء في عدة أماكن وأزمات، دفعت القيادة الفلسطينية والفصائل (في معظمها)، على حد سواء، إلى لزوم حال الصمت والتزام الهدوء والحياد في كثير من التحركات والحراكات التي تجتاح المنطقة العربية.
تاريخياً، تدخلت منظمة التحرير الفلسطينية في الشؤون الداخلية للأردن، ثم كانت أحداث أيلول الأسود بين الجيش الأردني وقوات منظمة التحرير الفلسطينية، وكان من نتيجتها جلاء هذه القوات إلى لبنان، وإغلاق الجبهة الأردنية أمام المقاومة الفلسطينية، ومن ثم تسببت بمشاكل للوجود الفلسطيني في الأردن يتم استغلالها سياسياً من قبل بعض التيارات الأردنية اليمينية واليمين الإسرائيلي، على حد سواء، لتبرير الترانسفير المقبل إلى الأردن ورفضه، في الوقت نفسه.
ثم جاء الموقف الفلسطيني من غزو العراق للكويت ليزيد الطين بلة، ويعبر عن واحد من أكبر أخطاء الزعيم التاريخي للفلسطينيين (أبو عمار)، عندما بهرته أضواء القومية العربية التي أضحت أسمالها بالية، معتقداً أن فعل صدام حسين ذاك سوف يعزز من بناء دولة قومية عربية تحرر فلسطين، بعد اكتشاف بعض القوميين العرب (لا كلهم حتى لا نظلم الجميع) أن أقرب طريق إلى القدس يمر عبر مدينة الكويت؟!.
ودفع اللاجئون الفلسطينيون في الكويت مرة أخرى الثمن غالياً، فتم تهجير مئات آلاف الفلسطينيين من الكويت وخسران ممتلكاتهم، وظلت العلاقات الفلسطينية الكويتية مشوبة بآثار هذا الموقف لسنوات خلت.
في لبنان حيث تمددت منظمة التحرير الفلسطينية مرة أخرى على حساب الدولة اللبنانية الهشة آنذاك، كانت نكبة الفلسطينيين الكبرى الثانية، بعد نكبة الخروج من فلسطين، وما مجازر تل الزعتر عام 1976، ثم صبرا وشاتيلا عام 1982، وحرب المخيمات الفلسطينية بين عامي 1985 و1988، سوى انعكاس للتورط الفلسطيني في الشأن اللبناني، والتضحية برأس المنظمة الفلسطينية على قربان المصالحة بين الطوائف والمذاهب اللبنانية تالياً، وما وضع الفلسطينيين في لبنان حالياً وحرمانهم من حقوقهم المدنية سوى أثر لذلك.
في الشأن السوري، نجح اللاجئون الفلسطينيون وقياداتهم في تحييد أبناء شعبهم عن التورط والانخراط في الأزمة السورية، على الرغم من محاولات طرفي النزاع استغلال ورقة quot;فلسطينquot; في الصراع الداخلي الدائر هناك، ولم يمنع ذلك اتخاذ مواقف حيادية إيجابية من قبل بعض الأطراف التي كانت تحتفظ بعلاقات جيدة مع النظام السوري quot;حركة حماسquot; بل ومغادرة بعض قياداتها أو معظمهم لسوريا تحت ضغط العنف الدائر هناك، إلا أن المزاج الشعبي الفلسطيني ظل حريصاً على الدماء السورية المراقة على جنبات الشام وأطرافها، ولم ينس اللاجئ الفلسطيني، الذي يعامل معاملة المواطن السوري في كل شيء، عدا حقي الترشح والانتخاب السياسي (وهما حقان لا يكادان يذكران بطبيعة الحال)، أن الشعب السوري هو من منحه ذات حقوق المواطنة له، في أعقاب نكبة فلسطين عام 48 وبمرسوم جمهوري صدر في بداية الخمسينات من القرن المنصرم.
قد يكون الشعب الفلسطيني ثورياً بحكم قضيته وسعيه لتحقيق حرية وطنه، وهو يرى في تحرر الشعوب العربية وسعيها للانقضاض على أنظمة الاستبداد فيها تقوية لمساعي تحرير فلسطين وأهلها من براثن الاحتلال، وبالتالي لا يمكن المزايدة على ثوريته أو عشقه لمفهوم الحرية الذي ينادي به الجميع في ميادين التحرر العربية، إلا أن القرار السياسي بعدم التورط في الشأن الداخلي لأي دولة عربية، وإن أحاط اللاجئين الفلسطينيين بسياج quot;وقائيquot; من ردات الفعل المتشنجة من قبل بعض أطراف النزاع، إلا أن الشارع الفلسطيني في سوريا تحديداً، وعلى خلاف ما يشاع عنه من موالاته لطرف على حساب آخر، منحاز دوماً وأبداً إلى المصلحة السورية العليا في تجنيب البلاد والعباد مخاطر التدخل الخارجي العسكري من جهة، ومن جهة أخرى، الحفاظ على الأرواح والدماء السورية الزكية التي لم ينزف شعب عربي في سبيل القضية الفلسطينية، ما نزفه الشعب السوري خلال عشرات السنين، وهو ما وجد تعبيراً له في مشاركة سوق مخيم اليرموك التجاري الشهير، أكبر المخيمات الفلسطينية في سوريا، في إضراب التجار الذي عرفته أسواق دمشق على ضحايا مجزرة الحولة في حمص، وتضامن اللاجئين الفلسطينيين مع إخوانهم السوريين، وحرصهم على مساعدتهم لتحقيق ما يصبون إليه.

...كاتب وباحث
[email protected]