مسيرة التحول في الحياة السياسية،الاجتماعية، التطور الكبير لحقوق المواطنة و الحريات العامة لم تكن تسير على وتيرة واحدة ولا حتى باتجاه واحد على الأقل حتى الآن في عالم مليء بالمفارقات. أن تستقل الطائرة من أوسلو، كوبنهاغن، أو أية عاصمة في أوروبا الشمالية إلى أي بلد في الشرق الأوسط لا تستغرق الرحلة أكثر من أربع إلى خمسة ساعات من الزمن على أبعد تقدير. على الرغم من هذا القرب الجغرافي بقي النهج السياسي في العالم العربي والإسلامي بعيدا عن المؤثرات الخارجية العالمية وتطور النظم بمسافات تقاس بعقود طويلة من الزمن.

الأنظمة الشمولية كانت بارعة في إيصال ما يناسبها من التطورات العالمية إلى داخل بلدانها وحجب كل ما يشكل ولو جزءا يسيرا من الخطر على كياناتها من خلال مؤسسات أمنية، قمعية عديدة، تتمتع بسلطات لا حدود لها في الترويع، التنكيل بالمواطنين، حجز الحريات،كم الأفواه وصولا إلى التصفيات الجسدية.

تحول المواطن إلى إنسان مغلوب على أمره، مسلوب الإرادة في سجن كبير مسموح له بارتداء ألبسته المدنية والتنقل المحدود، أجبر ليس فقط على الصمت عن انتهاكات الأنظمة بل على التأييد والتصفيق. الذي حصل أن هؤلاء الحكام وضعوا سدا منيعا في وجه كل ما قد يؤدي إلى إصلاحات من شأنها الإسهام في تخفيف قبضتهم الأمنية وبالتالي يفضي إلى انفتاح سياسي حقيقي. لكن الاستمرار في سياسة التعتيم وصلت إلى بداية النهاية مع النهضة التي رافقت الربيع العربي. على الرغم من الوقوف المؤقت للسيل العارم في سورية مدعوما بالسند الروسي ترتعد فرائس الكثيرين من الطغاة الذين يعرفون درجة تشابه أنظمتهم مع تلك التي قوضت أركانها.

البعض من الزعماء الأبديين الذين كانوا فوق القانون أصبحوا يساقون إلى المحاكمة مثل أي مجرم حرب لكي يتم محاسبتهم على الجرائم التي اقترفوها. البقية الباقية سوف تنال ذات المصير المشئوم إن لم يستبقوا الأحداث وينفذوا إصلاحات حقيقية تتضمن تنازلهم عن أجزاء كبيرة من سلطاتهم لصالح شعوبهم و إفساحهم المجال أمام الجميع للمشاركة في شؤون إدارة بلدانهم.

محاكمة الرئيس المصري حسني مبارك التي أجريت على يد أبناء مصر الأحرار ووصول السيد محمد مرسي إلى سدة الرئاسة عبر انتخابات ديمقراطية حرة لأول مرة في تاريخ أكبر وأهم دولة عربية إسلامية، سوف يشكل حافزا جديدا للشعوب التي مازالت تناضل من اجل التخلص من حكامها المستبدين.

الوجهة التي تسير عليها دول الربيع العربي والتي تمر بمرحلة انتقالية لابد منها هي واحدة، حتى إن وجدت بعض الاختلافات الآنية فهي تسير بدرجات مختلفة باتجاه دولة القانون، الديمقراطية والمواطنة.

ليف لوفين بروفسور في العلوم السياسية بجامعة أوبسالا في السويد كتب مقالة نشرت في صحيفة داغنز نيهيتر السويدية بتاريخ 2012-06-24 حول كتاب له سوف يصدر في العام الدراسي المقبل بعنوان: 2119 هو العام الذي ستتحقق الديمقراطية العالمية. فيما يلي ملخصا لأهم ما ورد فيها:
الحكم الذي صدر بحق رئيس ليبيريا السابق تشارلز تايلور يمكن تفسيره بأننا على طريق المجتمع القانوني الدولي والديمقراطية العالمية. الوصول إلى هناك محفوف بالكثير من العقبات، لكن أن تعقد الجلسات في قاعات محكمة الجنايات الدولية في هاغ تحمل بحد ذاتها الكثير من الدلالات الرمزية و يصبح جليا بأن لا أحد فوق القانون حتى لو كانوا رؤساء الدول. بعد الحرب العالمية الثانية كان السؤال: ما هي الإجراءات التي ينبغي اتخاذها بحق القادة النازيين بعد النصر؟

الرد العفوي كان بأنه يجب إعدامهم ( كما لمح إليه تشرشل) لكن سرعان ما كانت الإجابة الصحيحة بأنه يجب محاكمتهم. الحرب نشب لأجل الدفاع عن دولة القانون والديمقراطية التي يجب أن تعامل حتى أسوأ مجرمي الحرب طبقا لتلك المبادئ، بذلك تكون أنموذجا يقتدي به العالم. أجريت المحاكمات كما هو معروف في نورنبرغ، أصدرت أحكاما بالإعدام على الكثيرين، أحكاما أخرى بالسجن لمدد طويلة و لكن كان هناك أيضا البعض ممن أطلق سراحهم وبرئت ذمتهم.
فيما بعد أجريت محاكمات مشابهة في طوكيو للقادة اليابانيين.

محاكمات نورنبرغ أرسخت مبدأين جديدين، قبل كل شيء أصبحت المسؤولية فردية حيث كانت الدول وحدها تتحمل مسؤوليات القتل العام والجرائم ضد الإنسانية سابقا. الآن يتحمل الأفراد المسؤولية ويتم الحكم بغض النظر عن المرتبة، أي قطع دابر التنصل من المسؤولية، كأن يقول المتهم بأني نفذت الأوامر.
مع بداية الحرب الباردة توقف تطور القانون الدولي. في تلك الأجواء المشحونة بالشك والارتياب لم يكن أحدا يرغب بالتوقيع على اتفاقية من شأنها وضع القانون فوق المصالح الوطنية.

القانون الدولي حظي بفرصة جديدة مع النظام العالمي الجديد عام 1989، البداية كانت غير سياسية، رئيس وزراء ترينيداد و توغو طالب بالتعاون الدولي لمنع تهريب المخدرات.
ثم جاءت الأهوال والدمار مع الحرب الأهلية في يوغوسلافية المهشمة والقتل الجماعي في رواندا اللتان أفضتا إلى ضرورة تأسيس محكمة دولية لمعالجة الجرائم التي ترتكب بحق الإنسانية من بين الذين لعبوا دورا مهما في التأسيس السويدي مدير القسم القانوني في الأمم المتحدة هانس كوريل. عام 2002 صادقت العديد من الدول على النظام الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية. بذلك تأسس المجتمع القانوني الدولي؟

المشكلة الأكبر هي أن الحكومات التي طلبت المساعدة من المحكمة كانت غالبا توجه الاتهامات إلى ممثلي المعارضة السياسية في أوطانهم. هذا بالضبط ما حذر منه الكثير من علماء السياسة لكن القانونيين الكبار الذين كان لهم النفوذ القوي وحق اتخاذ القرار لم تكن لديهم الرغبة في مناقشة الأمور حول إمكانية تحول القضاء أو المحكمة إلى ورقة في لعبة سياسية.

يجب أن لا نستخلص نتائج متسرعة، لكن كذلك من الصعب الإنكار بأن المجتمع الدولي قد اتخذ خطوة مبدئية هامة حيث بدأنا الآن نحاكم رؤساء الدول. لا يستطيع الآن حاكم ديكتاتور أن ينام ليلته قرير العين هانئ البال.

أليس أمام هذه المحكمة نريد أن نرى في أقرب وقت ممكن الرئيس السوري الأسد؟
لا أحد يستطيع القول بان الوصول إلى تحقيق الديمقراطية العالمية سوف يحدث سريعا وبدون مشاكل.
العولمة تؤيد نظريتي. لكن هناك أيضا قوى الشر في العالم الذين لا ينظرون إلى السلام والديمقراطية كقيم عليا.
إجراءات المجتمع الدولي القانونية ضد من يسفك الدماء من القادة السياسيين على أية حال فوق كل نقاش ومدعاة للسرور. دول العالم حسب مصطلح الأمم المتحدة أيضا ملزمة بحماية مواطنيها. المجتمع الدولي يسير ولو ببطء باتجاه نظام ديمقراطي دولي. انتهى الملخص.

تنويه لوفين لإجراءات المجتمع الدولي القانونية ضد من يسفك الدماء يخضع لامتحان حقيقي الآن على أرض الواقع عبر التحولات السياسية الديمقراطية التي ترنوا إليها القوى المنادية بالحرية في العالمين العربي والإسلامي ووحشية حكامها المستبدين في التعاطي معهم. اختبار يكشف الأقنعة عن وجوه قوى الشر التي تقف حجر عثرة في وجه مسيرة الديمقراطية.

ما يحدث اليوم في المنابر الدولية حول ما يجري في سورية، المضحك المبكي في مواقف روسيا والصين و ما حدث مؤخرا في اجتماع جنيف حول عدم الاتفاق بخصوص الأسد إذ تريد روسيّا أن يكون طرفا في حكومة انتقالية يراد إنشائها كبداية حل للأزمة السورية، امتحان من المفروض أن لا يغفل الرأي العام العالمي عن متابعته وتقرير درجاته.
من خلال السياسة التي تمارسها روسيا، الصين، إيران حيال الأزمة السورية إلى أية قوى يمكن تصنيفهم ؟
حسب مصطلح الأمم المتحدة في أي مصاف يمكن وضع النظام السوري فيما يتعلق بحماية مواطنيها؟
أسئلة سهلة لكن الإجابة عليها ليست كافية.

ما أريد أن أقول هو أن وتيرة التطور العلمي وخاصة في المجال التقني تمضي بسرعة خيالية تفوق التقديرات، وسائل الأعلام الاجتماعية التي أزالت الحدود وعبرت الحواجز رغم أنف الأنظمة المستبدة أكبر مثال على ذلك.
الإبداع الإنساني لم ولن يتوقف ونتمنى أن يختصر الوقت الذي توقعه بيتر لوفين في كتابه للوصول إلى ديمقراطية حقيقية تعم العالم.


مترجم وكاتب سوري مقيم في ستوكهولم
[email protected]