من الطبيعي أن تحشد القوات التركية والسعودية قواتها تبعاً لتطور وضع الحالة السورية، ووجود احتمال قوي لحرب قريبة في المنطقة. لذا من المستغرب استغراب الناس من الحشد والاستعداد كوضع طبيعي، حيث يتحدث العالم عن احتمال ضربات عسكرية قريبة في المنطقة. كما يستوقف الإنسان في هذه الحالة كم الإشاعات والآراء التي ترافق مثل هذا الوضع المتأزم. وكمثال، أقف هنا مع مادة اخبارية لاحظت كثرة تناقلها في المواقع العربية على اعتبار أنها تقدم معلومات مهمة وحسّاسة بينما هي لا تقول شيئا، بل الخطر أنها للأسف تروج لكل تلك الرزايا والأمراض التي يريد العدو أن يشاهدها متجسدة فينا.
هذه المادة الإخبارية نشرت يوم الجمعة الماضي في موقع quot;ديبكاquot; الاسرائيلي، الذي يوصف بأنه مرتبط بجهاز المخابرات الاسرائيلي، وتقول المادة أن سوريا ستتعرض لضربة عربية-تركية-غربية خلال الـ 48 ساعة القادمة. وهذا الخبر المتلاعب أسّس نفسه على وقائع معروفة، مثل الحشد والاستعداد السعودي والتركي، ثم أرفق معها حقائقه المصطنعة. مثل الاعتساف في ذكر قبيلة شمر في سوريا وأنها مرتبطة بنجد، بعد ذكره لتفاصيل خطة تحركات سعودية قرب سوريا. وهو ذكر واهم للتحركات، فضلا عن الخطأ في ذكر أماكن تواجد قبيلة شمر في سوريا.. لكن ملحوظ هذا التكلف في استدعاء الجانب القبلي، للإيحاء أن التموضع والاصطفاف حال هذه الأزمة يتم على أساس قبلي. وكذبة أخرى يروجها التقرير، وهي أن الحشد السعودي قرب العراق هو لصد هجمات محتملة سيقوم بها شيعة من العراق!.
وهذا الموقع المعروف بترويجه للشائعات، مثل قوله مرة أن نيويورك على وشك التعرض لهجوم نووي، وإشاعة قرب وقوع حرب في سيناء، وغيرها من شائعات تتعلق بمصر والمنطقة، قد قام بعد مرور 48 ساعة بحذف عنوان موضوعه الذي كتبه يوم الجمعة عن نشوب صراع في المنطقة، وقام بتحديث المادة وأضاف لها عنواناً آخر، لكن هناك مواقع عربية -حتى كتابة هذا المقال- تنقل الموضوع على اعتبار انه نشر اليوم!. فعلى ما يبدو، كثير من العرب يحبون أن يسمعوا لهم.. ولذلك ومع هذا الظرف الحسّاس، وهو احتمال نشوء حرب في المنطقة، تبرز أهمية حماية المنطقة من انتقال هذه الحرب لتصبح حرباً إقليمية تتأسس على بعد طائفي. كثير من اللاعبين والقوى حول العالم يتوقعون حدوث ذلك، وبعض منهم يأملون حدوثه!. وهنا يأتي دور أهل المنطقة في حماية أنفسهم بأنفسهم، والوقوف أمام ترويج مثل هذه الحكايات، وتفكيكها وتبيان الكذب فيها.. فهي أقوال ومواقف لو تسربت على مستوى ثقافي داخل المجتمعات، فإن الحشد والصراع والمواجهة على أرض الواقع ستتبعها لا محالة.
لقد أدى تلاعب الاحتلالين الفرنسي والبريطاني بالهويات الطائفية في المنطقة إلى حصول مذابح كراهية، وأسس لاشتعال مواجهات طائفية فيها في القرنين التاسع عشر والعشرون. ولاتزال السياسة الغربية والمنظمات الممولة غربيا تمارس ذات الدور في المنطقة، بعزل الطوائف وتأطير وجودها بالصراع. كما أن الظاهرة الدينية التي تنامت في المنطقة قد لعبت أيضاً دوراً في ذلك.
واليوم، لابد أن تكون مهمتنا تجريم وتسفيه أي استدعاء واعتساف طائفي للأحداث. فلا يوجد ما يحرض على حرب إقليمية طائفية، فساسة العراق والقوى فيه مرتبكة ولا يعقل ادخالهم في المعادلة كما يروج هذا الخبر المذكور، وإيران أيضاً لن تلقي بثقلها في هذه الأزمة، فهي لم تفعل حتى الآن، ولن تفعل، فحال بشار ومصيره واضح أمامها.
الثورات العربية ألهمت العالم، بصمودها وتصميمها وذكائها، ويبقى إكمال المشوار لئلا نصبح عبرها أغبى الشعوب، حين الرضا والمساهمة بنشر وترويج الحرب الطائفية والانقسامات. وهذا لا يعني فقط وقوفاً ضد الآلة السياسية والإعلامية الصهيونية والغربية، بل أيضاً الوقوف ضد الخطابات المحلية والعربية التي تمارس إنتاج وإعادة انتاج ثقافة الكراهية والانقسام.
في العام الماضي، وبعد اندلاع الثورات العربية، كتب المفكر جورج قرم مقالاً بعنوان quot;دور الإعلام والمثقفين العرب في تحويل الثورات إلى فِتَن دينية ومذهبيةquot;. ولاحظ كيف أنه بعد أشهر قلائل من انطلاق الثورات أصبحنا نرى quot;تعميم التحليلات المغرضةquot; حول الظواهر القبلية والدينية والطائفية. كما ينبه إلى أن كثيرا من التحليلات الفكرية والثقافية اليوم تقدم قراءات خطرة تهدد بتحويل ما يجري في العالم العربي إلى فتن دينية ومذهبية، وهي رؤى تأتي نتاجا لثقافتنا الحديثة التي تأُثرت بمفاهيم استشراق غربي، أو بثقافة تشدد وغلو ديني. فعلى سبيل المثال، يذكر قرم أن كلمة quot;أٌقليةquot; هي كلمة مستوردة من القاموس الأوروبي في القرن التاسع عشر بعد إقامة الدولة الحديثة هناك، وهي كلمة تساهم في تصنيف quot;عنصريquot; لجماعة من المواطنين على اعتبار مخالفتهم للهوية السائدة. وفي المقابل، لم يكن هناك في تراثنا استخدام لهذه الكلمة، ولا وجود لهذه الثنائية العنصرية الطابع بين أغلبية وأقلية مختلفة في الدين أو اللغة أو المذهب. بل كان يوجد لدينا مفهوم quot;الملةquot; الذي يؤكد قبول التعدد في ثقافتنا وتاريخنا.