بعيد الثورة التونسية بقليل، قام الزعيم التاريخي لجنوب أفريقيا نيلسون مانديلا بتوجيه رسالة تاريخية للتونسيين نصحهم فيها بالاستفادة من الدرس الجنوب أفريقي في المصالحة الوطنية، باعتبار هذه المصالحة شرط نجاح الثورة الشعبية الديمقراطية الأول.
و دعا مانديلا في رسالته التي نشرت في عديد الصحف التونسية و العربية، وتناولتها وسائل الإعلام بالتعليق و التحليل، إلى عدم استفزاز ما سمي لاحقا بquot;الفلولquot; أو quot;أزلامquot; النظام السابق، و إلى العمل على توفير فرص الاندماج أمامهم في النظام الجديد، و الاستفادة من خبراتهم و قوتهم الاقتصادية و شبكة علاقاتهم المحلية و الدولية لتقوية مشروع الثورة و الإصلاح.
و تتفق سيرة الزعيم مانديلا في التعامل مع رموز نظام التمييز العنصري quot;الأبرتهايدquot;، حسب رأيي، مع سيرة الرسول (ص) في تعامله مع رموز نظام الشرك المكي، عندما سألهم يوم الفتح quot;ماذا تظنوني فاعل بكمquot;، قالوا quot;أخ كريم و إبن أخ كريمquot;، فقال quot;إذهبوا فأنتم الطلقاءquot;.
و لم يكتف الرسول الكريم بإطلاق سراح quot;الطلقاءquot; ممن حاربوه و قتلوا أتباعه و أهله و عذبوهم و شردوهم من ديارهم طيلة ثلاثة و عشرين عاما، بل فتح أمامهم مجال تبوء أرقى المناصب في دولته و جيشه، حتى أن واحدا من هؤلاء أضحى الخليفة و الملك بعد انقضاء دولة الخلافة الراشدة.
و كذا فعل مانديلا متأسيا بالرسول محمد (ص) و بكثير من عظماء البشرية، إذ رفض تأسيس الأمة الوليدة على الحقد، و دفع باتجاه نظام ديمقراطي يتساوى فيه جميع المواطنين في الحقوق و الواجبات، بيضا و سودا أخوة على سرر متقابلين، فقد وعى الرجل الذي قضى ثلث عمره المديد في سجن من أنصفهم، أن الكراهية لا تصنع مستقبلا و لا تبني وطنا و لا تنهض بإنسان.
بعد ما يزيد عن السنة من توجيه مانديلا لرسالته، لم يظهر في أفق حركة النهضة الإسلامية الحاكمة و حلفائها في quot;الترويكاquot; ما يفهم منه وعي النصحية أو العمل بها، على الرغم من أن quot;الأزلامquot; و quot;الفلولquot; من quot;تجمعيينquot; و quot;دساترةquot; لا يمكن مقارنتهم بأي شكل من الأشكال بquot;عنصريي الأبرتهايدquot; أو quot;طلقاء مكةquot;، فلا مانديلا أثر في الجماعة، و لا حتى الرسول (ص) شكل القدوة و المثل.
و لا أحد يمكنه أن يفهم في ظل هيمنة رسائل quot;الموتquot; و quot;السحلquot; و quot;الإقصاءquot; و quot;الحرمانquot; و quot;الإبعادquot; على خطاب أهل الحكم الإسلامي في تونس، أن يفهم ماذا يمكن أن تعني quot;المصالحة الوطنيةquot; باعتبارها شرط تحقق quot;العدالة الانتقاليةquot;، إذا لم يكن المقصود بها المصالحة بين القوى الديمقراطية و المدنية التي ساندت الثورة و قوى النظام السابق السياسية و الاقتصادية و غيرها.
لقد كان الرد على إقدام أحد البرامج الحوارية التلفزيونية في القناة الوطنية الرسمية استضافة قياديين سابقين في حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل، إقالة مدير القناة و إيقاف البرنامج و مقدمه عن العمل، و ذلك بعد أن عجز ممثل حركة النهضة في البرنامج على مجاراة نسق الحوار و مقابلة حجة خصومه بالحجة، و بدل الاعتراف بعجزه و تواضع قدراته الفكرية و السياسية، انسحب من الحلقة مفضلا خطاب التحريض و الإلغاء و الإقصاء.
و في سياق أوسع، يعمل أهل الحكم الحالي في تونس بشكل حثيث على التغطية على عجزهم و ارتباكهم و فشلهم في تحقيق أعمال مقنعة لمواطنيهم تضمن لهم الاستمرار في الحكم بطريقة ديمقراطية، بمهاجمة quot;التجمعيينquot; و quot;الدساترةquot; و quot;أنصار النظام السابقquot; بعنف و شراسة، و العمل بشكل حثيث على تشريع قوانين إقصائية تمنعهم من ممارسة حقوقهم السياسية و المدنية و المنافسة في الانتخابات القادمة.
لقد أراد مانديلا مثلما فعل هو بنفسه في بلده، من التونسيين الخروج من الحقل الثقافي و السياسي للأنظمة الاستبدادية التي يستمد الواحد منها شرعيته من خلال لعن سابقه و التنكيل بأنصاره، إلى حقل جديد لا يتحول فيه المواطنون إلى quot;ملائكةquot; و quot;شياطينquot; يتصارعون، بل إلى مواطنين متساوين يتنافسون بشكل سلمي على نفع بلادهم.
إننا نطرب فقط إلى الموسيقى التي نحبها، و هكذا لا نحب الاستماع لموسيقى غيرنا، بل إن الأفضع أن نلعن أهل الموسيقى التي لا نحبها و نخرجهم من دوائر الغفران و الرحمة و المواطنة، و هكذا لا يحب كثير من التونسيين اليوم سوى سماع دعاة الحقد و التفريق و التقسيم و التصفية، ويضيقون بخطاب مانديلا و غاندي، و قبلهم خطاب محمد (ص) الداعي إلى المحبة و الصفح و العفو عند المقدرة..
و تحب النخب العمل بشعار إخواننا المصريين quot;الجمهور عايز كدهquot;..
* كاتب و ناشط سياسي تونسي