أيهما أفضل للمثقف: أن يكون مؤمناً بعقيدة دينية، أم أن يفك ارتباطه من كافة المرجعيات والأيديولوجيات والقوالب؟؟
هل الفكر الديني يعطل العقل؟؟
نعم حين يتحول الفكر الديني إلى إيديولوجيا تسجن صاحبها في صندوق من الرؤى والمعتقدات الجامدة وتطالبه بالتسليم الأعمى وتحرم عليه السؤال والنقاش، حينها تصبح هذه الإيديولوجيا عبئاً ثقيلاً تحجب صاحبها عن فضاء التفكير الواسع وتشده بأغلال محكمة من التقليد والاتباع الأعمى وتلغي عقله..
لكن مفهوم quot;الأيديولوجياquot; لا يستقيم مع المعنى الصحيح للدين وهي ليست من شأن الدين الصحيح لأن الإيمان حالة حركية بينما الإيديولوجيا هي الجمود..
الدين يقوم على أساس الإيمان بقيم روحية، فعماد الدين هو أن تؤمن بالله واليوم الآخر، والإنسان لا يستطيع إلا أن يؤمن بقيمة مطلقة عليا، حتى الملحد الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر تجده يؤمن بقيم مطلقة مثل الحق والعدل والإنسانية، ولا يستطيع أحد أن يعتبر هذه القيم المطلقة قوالب تحد حرية التفكير، وكما أن الملحد لا يرى في الإيمان بمبادئ عليا تناقضاً مع حريته الفكرية بل دافعاً لهذه الحرية، فإن الإيمان برب أعلى مطلق القدرة والإحاطة لا يتناقض مع تحرر الإنسان من القوالب التي تحد من حرية تفكيره..
أتفق مع الرأي القائل بضرورة تمرد المثقف على كل القوالب والأيديولوجيات وأن تظل حاسته النقدية يقظةً دائماً فلا يهاب طرح الأسئلة الحرجة ولا يعترف بالمناطق المحرمة ولا يتردد في نسف المسلمات الخاطئة ولا يعترف إلا بمقياس وحيد لقبول الأفكار أو ردها وهو مقياس الحجة والبرهان quot;قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقينquot;..
الإيمان لا يعطل حرية التفكير لأنه قائم أصلاً على أساس هذه الحرية، والإيمان لا يصح إلا إذا كان نتاج تفكر حر، فالإكراه لا يصنع إيماناً quot;لا إكراه في الدينquot;، quot;أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنينquot;، والتدين المتوارث عن الآباء هو أقرب إلى العادات والتقاليد الاجتماعية منه إلى الإيمان.
في القرآن مئات الآيات التي تحث على التفكر والتدبر بل تجعله فريضةً، وإذا كان شرط استقلال المثقف أن ينسحب من ضجيج المجتمع وألا ينجرف مع التيار فإن القرآن يدعو مكذبيه إلى التحرر من ضغط المجتمع، والتفكر مثنى وفرادى حتى تكون لهم شخصيتهم المستقلة في اتخاذ القرار: quot;قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكرواquot;..
والقرآن يذم ثقافة القطيع فيحمل في أكثر من أربعين آية على أصحاب التفكير الآبائي الذين يؤجرون عقولهم للثقافة السائدة: quot;إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدونquot;.
القرآن يرسخ لمنهج المحاججة العقلية حتى في القضايا الكبرى، فحين تطرح شبهات تتعلق بوحدانية الله وربوبيته فإن القرآن يرد عليها بالحجة والبرهان ولا يقول للناس: إن مناقشة هذه الأمور كفر وما عليكم سوى السمع والطاعة، بل يطالبهم بأن يأتوا بما عندهم من أدلة عقلية quot;هل عندكم من علم فتخرجوه لناquot;، quot;قل هاتوا برهانكمquot;، وحين يتحدث عن حساب المشركين فإنه يربط بين هذا الحساب وبين عدم إتيانهم ببرهان مع أن موقفهم بالإشراك مع الله أسخف من أن يكون هناك برهان يعضده لكنه التأكيد على مبدأ المناقشة الفكرية: quot;ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرونquot;. فإذا كان القرآن يفتح الباب للمناقشة العقلية في القضايا الكبرى فمن باب أولى ألا يضيق بطرح الأسئلة وإثارة النقاش فيما دون ذلك من قضايا.ومن يؤسس إيمانه على الدليل والبرهان والوضوح العقلي فإن هذا الوضوح العقلي سيغدو منهجاً عاماً يلون حياته ولن يقبل بعد ذلك بالأفكار الشائعة دون تدقيق وتمحيص وسؤال عن البرهان.
لا أدافع عن واقع المسلمين فنحن لا نشجع حرية التفكير ولا نرحب بطرح الأسئلة، لكنه خلل في الثقافة وغياب لمعنى التجديد الديني، وليست المشكلة في الدين..
ليست القضية في أن الإيمان لا يعطل التساؤل وحرية التفكير وحسب، إذاً لاستوى أن يكون المرء مؤمناً أو ملحداً، وربما لكان خيار الإلحاد أفضل لأنه آكد على التحرر من القوالب والقيود..
لكن الإيمان لا يكتفي بالسماح بالتفكير، بل إنه أفضل الطرق لضمان التحرر والاستقلال وولادة المفكر الحقيقي..
كلمة quot;لا إله إلا اللهquot; التي هي أساس الدين في عمقها تعني التجديد الدائب، والحذر من الجمود على أي هيئة أو حالة لأن الجمود هو الصنمية..مهما بلغت من مكانة مرتفعة أو ثناء بين الناس أو تحقيق انتصار، أو درجة من العلم فإن ارتباطك بمعنى مطلق يحول بينك وبين الركون إلى هذه الحالة والرضا بها ويبقي قلبك متوجهاً نحو الغاية الكبرى التي لم تصلها بعد، وبذلك يظل الإنسان في حالة دائبة من السعي والكدح quot;ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيهquot;، quot;لتركبن طبقاً عن طبقquot;، quot;يا أيها الذين آمنوا آمنواquot;.. لا يعرف الاستقرار إليه سبيلاً في هذه الدنيا، مثله كمثل العائم فوق سطح الماء يقاوم التيار دون أن تستقر قدماه على الأرض، ومن عاش بهذه النفسية فإنه سيظل محافظاً على حالة اليقظة العقلية والحاسة النقدية، ولن تغريه مغريات الدنيا بخيانة رسالته الإنسانية في الصدع بكلمة الحق والتصدي للسلطة الجائرة..
إن الإيمان بquot;لا إله إلا اللهquot; في معناها الحي المتجدد وليس كإيديولوجيا جامدة هو الذي يصنع المفكر الحقيقي لأن قلبه سيظل معلقاً بالمطلق وسيمنحه هذا الإيمان القدرة على تجاوز أي مستوى يبلغه والتطلع لما بعده، وبذلك يواصل السير الحثيث نحو غاية وجوده محاذراً أن يقع في عبادة الأصنام، وكل توقف عند هيئة نفسية أو اجتماعية أو ثقافية هو مثال على الصنمية..
الإيمان بالله واليوم الآخر كما أنه يوجد لدى صاحبه اليقظة العقلية الدائمة فإنه يمده قبل ذلك بالطاقة الروحية اللازمة لتحمل التضحية في سبيل الأفكار التي يؤمن بها، إذ ما الذي يجبر إنساناً على تحمل المصاعب التي تسببها مخالفة تيار المجتمع والصدع بكلمة الحق في وجه السلطان الجائر، وترك حياة الدعة والراحة لو لم تكن هناك قيم عليا يؤمن بها تهون عليه هذه المصاعب..
ما الذي يجبر الإنسان على السباحة ضد التيار وعلى تحمل قدر هائل من الأذى والمعاناة وعلى حرمان نفسه من الراحة والاستقرار..ما الذي يجبر المثقف على حياة المنفى التي يتحدث عنها المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد والتي تعنى أن يظل المثقف طوال حياته كالعائم فوق الماء لا يعرف الاستقرار في بلد ما أو وظيفة ما أو جماعة ما..
إنها حالة رائعة ولكنها تبدو خياليةً إذا تناولنا الإنسان معزولاً عن أبعاد أخرى تتجاوز ماديته الملتصقة بالطين المجبولة على حب الدعة والراحة والشهوات..
إن بقاء حالة اليقظة العقلية النقدية لدى المثقف يحتاج لطاقة روحية تنشطها إذا فترت وتعين صاحبها على الصمود أمام تيار المغريات الجارف.
يفسر معارضو الفكر الديني استعداد الإنسان للتضحية والبذل على حساب راحته واستقراره بإيمانه بقيم العدالة والحق والإنسانية..
حسناً..إذاً هناك قيم مطلقة يناضل الإنسان في سبيلها وهذه القيم لا تنتمي إلى عالم المادة والأشياء، فلا بد من وجود بعد آخر نستطيع من خلاله تفسير استعداد الإنسان للتضحية بل والموت في سبيل هذه القيم وهذا هو البعد الروحي..
نحن نفسر هذا المطلق بشكل أكثر تحديداً من خلال الإيمان بالله واليوم الآخر، بينما يسميه آخرون إيماناًَ بالعدل والحق..واللافت أن من أسماء الله الحق والعدل، فالقيم المطلقة التي يتحدثون عنها لتفسير استعداد المثقف للبذل وحرمان نفسه من الملذات هي في جوهرها أبعاد روحية..
هذا التحديد الذي يتسم به الفكر الديني ضروري لتقديم تصور متكامل يحقق التوافق والانسجام ويجنبنا الشعور بالتناقض والعبثية، فالحديث عن قيم الحق والعدالة والإنسانية حين ننزعها عن الإيمان بالله واليوم الآخر لا يكفي لتحقيق التوافق والتكامل، لأن الإنسان ربما يحب الحق والعدل والإنسانية ويناضل في سبيل هذه القيم، ولكن في ظل غياب تصور متكامل يربط هذه القيم بقدرة عليا تنصرها وتقدر العاقبة لها فإنه يصاب باليأس والإحباط وتتأثر دافعيته للتضحية لأنه ليس متأكداً وهو يناضل في سبيل الحق أن هذا الحق سينتصر حتماً في نهاية المطاف، ولن يكون متأكداً بأن مجريات التاريخ تجري وفق خطة حكيمة، فظاهرها يوحي بالعبثية إذ تجد ظالماً طغى وتجبر ومع ذلك يتمتع بالملذات ويبات آمناً من الحساب والعقاب، وفي المقابل تجد مظلوماً عاش ومات بقهره دون أن يسترد حقه..
إن هذا التناقض الظاهري يصيب الإنسان بالإحباط ما لم يكن هناك إيمان بالله واليوم الآخر ينقذه، وحين يرى المثقف كل هذا القدر من التناقض الذي تتصف به الحياة فإن دافعيته في النضال في سبيل الحق والعدل ستتأثر إذ ما الذي يجبره على التضحية في سبيل مبدأ ليس متأكداً أنه سينتصر وأن العاقبة ستكون له في نهاية المطاف..
التصور المتكامل يقتضي بأن تكون هناك قدرة عليا مطلقة وحكيمة وعليمة تدعم هذا الحق والعدل وتسير أحداث التاريخ في اتجاه محدد بما يخدم الحق وينصره..
لا شيء يمنح الإنسان قوةً لمواجهة قوالب المجتمع وأصنامه مثل أن يستمد العون من إله مطلق أعلى قوي قادر محيط عليم حق عدل، ولا شيء يعزي الإنسان عن فقدان راحته واستقراره في هذه الدنيا أكثر من إيمانه بدار آخرة فيها السعادة المطلقة والخلود الأبدي، أما من يؤمن بأن هذه الدنيا هي نهاية المطاف وأن كل شيء ينتهي بمجرد مواراة الإنسان في التراب فسيكون لإيمانه بالمبادئ حدوداً وقد يخذله هذا الإيمان حين يخضع الأمر لموازانات المصلحة فيرى أن تنعمه في هذه الحياة القصيرة خير له من حياة التعب والعناء في سبيل الآخرين الذين لن ينفعوه شيئاً بعد أن يموت..
إن إضافة البعد الروحي يبدو ضرورياً ليكون لنضالنا في سبيل العدالة معنى..
يلجأ معارضو التفكير الديني للخروج من التناقض بتعليل تحمل المثقف للأعباء التي يسببها له الإيمان بمبدئه وحرمان نفسه من المكافآت المادية بأن حياة المبادئ على صعوبتها تحمل مكافآت وامتيازات
، من هذه المكافآت ما أسماه إدوارد سعيد (فرح الاندهاش)، وعدم قبول أي شيء كبديهي، وتعلم البديل المؤقت في ظروف عدم الاستقرار المتزعزع التي تربك معظم الناس..
إذاً الهدية التي يجنيها المثقف المناضل هي تحقيقه لفرح الاندهاش وشعوره بالسعادة النابع من قدرته على الطمأنينة مع عالم مضطرب..
هذه السعادة هي في جوهرها سعادة روحية-أي أنها تنتمي لبعد آخر غير البعد المادي- هذه الفرحة الروحية تؤكد الإيمان بالله واليوم الآخر ولا تحل بديلاً عنه لأنها البرهان على وجود عالم آخر يتجاوز عالمنا المادي المحدود..
إن وجود المفكر الحر حريةً حقيقيةً كاملةً خارج دائرة الإيمان بالله واليوم الآخر هو ضرب من الوهم، فهو يخرج من قيود الدين، ولكنه يدخل في أسر قيود أكثر إحكاماً وهي قيود نفسه بارتكاساتها وإشراطاتها، وهذه الارتكاسات النفسية تشكل عائقاً خطيراً أمام أداء رسالته الأخلاقية، فهو كثيراً ما يتعرض لجاذبية هذه النفس وأهوائها وانفعالاتها وعقدها، بينما الإيمان هو الذي يطلق النفس من عقالها ويحررها من إصرها وأغلالها فيشعر صاحبها بخفة روحه وهي تحلق في السماء فيمنحه ذلك قدرةً مضاعفةً على العطاء والبذل في سبيل مبدئه الذي يؤمن به..
خلاصة القول أن الفكر الديني معطل للعقل ومدمر إذا تحول إلى إيديولوجيا تضع أتباعها في قوالب محكمة الإغلاق وتقدم لهم حلولاً جاهزةً لا تقبل المراجعة والنقد، لكن حين يقوم الدين بدوره الصحيح في منح صاحبه قوةً روحيةً واتصالاً بالمطلق ويشجعه على التفكر والتدبر فإن الإيمان يكون هنا ضرورياً ولا غنى عنه لتحمل القدر الهائل من الابتلاءات والمحن التي تعترض طريق المفكر في أداء رسالته..
والحمد لله رب العالمين..
التعليقات