بدأ الرئيس محمد مرسي عصره في حكم مصر بمشاركة (رأسين) آخرين.. الأول علني؛ والثاني شبه سري. (العلني) هو المجلس العسكري الاعلي؛ ورئيسه المشير محمد حسين طنطاوي. (شبه السري) أو (رئيس الظل) هو الموقع الذي يشغله إما مرشد جماعة الاخوان التي ينتمي لها الرئيس؛أو نائبه خيرت الشاطر.. أوبالإجمال (مجلس شوري الجماعه) كله.غير أن مرسي لم يكد ينهي الاسبوع الثاني من حكمه حتي نشأ له شريك رابع في السلطه؛ تجسد في مؤسسه القضاء وفي صدارتها (المحكمه الدستوريه).لقد عرفت مصر من قبل، ومنذ ثورة يوليو ١٩٥٢، حكم (الرؤوس المتعدده) لفترة من الوقت لم تكن تستقيم معها الامور، الي ان تنتهي ويعود الحكم منفردا لرئيس وحده. لكن الحال مختلف هذه المرة لأن الوضع لايمثل صراعا علي الحكم فحسب؛ بقدر مايمثل محاوله لفرض معادلات حكم جديده..سوف يتم التفاوض العملي والقانوني والسياسي عليها لوقت طويل.

فيما بعد ١٩٥٢، وبينما كان الرئيس المعلن هو اللواء محمد نجيب؛ عرفت مصر حكم الرأسين.. وتصدر البكباشي جمال عبدالناصر المشهد في مواجهة نجيب؛ ومن خلفه فصيل عريض من اعضاء مجلس قياده الثوره، الي أن إنتهي الموقف المعقد بأن أُقيل الرئيس نجيب واُخفي عن الأنظار بعد تحديد إقامته لبعض الوقت، الي إن تفاجأ الشعب بعد عقود بأنه قد مات وحيداً.

وعاني جمال عبدالناصر نفسه، بكل مكانته، من حالة (حكم الرأسين)، إذ واجه طموح صديقه وشريكه ونائبه المشير عبدالحكيم عامر.. الذي انفرد بالتصرف في الجيش.. ولم يتمكن عبدالناصر من انهاء تلك الحاله الا بعد وقوع هزيمه عسكريه مؤسفه في يونيو ١٩٦٧، تلاها الاعلان عن إنتحار المشير عامر في سبتمبرمن نفس العام.

الرئيس التالي - الراحل - انور السادات، وجد نفسه منفرداً في مواجهة مجموعة أركان حكم سلفه جمال عبدالناصر.لقد اعتقد رئيس الوزراء ووزير الداخليه وقيادات الاتحاد الاشتراكي وغيرهم أن الرئيس الجديد في موقف ضعيف ولايمكنه الا إن يطيع توجهاتهم دون ان ينفرد بقرار الحكم.. وتصاعدت المواجهه لكنها لم تستغرق إلا ثمانيه أشهر؛ حتي كان الرئيس قد أطاح بهم في السجون، ضمن ماأطلق عليه (ثورة التصحيح) واصفاً إياهم ب(مراكز القوي).
مَثَل المشير محمد عبدالحليم أبوغزاله تحديا حقيقيا للرئيس السابق حسني مبارك، مدعوماً بشعبية كبيرة استطاع ترسيخها في المؤسسه العسكريه، فضلا عن مسانده غير خافية من الولايات المتحده. مرة جديده إنتهت حاله (الرئيس والمشير) قبل أن تتحول الي (حكم مزدوج الرؤوس).وأزاح مبارك القائد العام للقوات المسلحه من منصب وزير الدفاع وحوله الي (مساعد شرفي) لرئيس الجمهوريه في ١٩٨٦.

لكن نهاية عصر الرئيس مبارك شهدت نوعاً اخر من التعدد عند قمه الحكم، لاسيما في العامين الاخيرين، اذ أصبحت مصر في مواجهه (صيغه فريده) من توزيع الصلاحيات وتقاطعها، جعلت الوضع أقرب الي ان يكون (ثلاثيا)، مابين الرئيس الذي عاني من الوهن في ايامه الاخيره، وأمين السياسات في الحزب الحاكم إبنه جمال مبارك، ورئيس المخابرات عمر سليمان. في تلك الأونه شهدت مصر نوعاً غير مسبوق من تنازل الرئيس صورياً عن بعض صلاحياته..داخليا لصالح امين السياسات؛ وخارجيا في حوذة رئيس المخابرات.

الواقع المصري الجديد مختلف تماما. فيما مضي كان يدور الحديث عن صراعات الحكم سرا ولاتجد له إنتقالا من (الهمهمه المكتومه) الي العلانيه الا في لحظات الختام. أما الان فقد بدأ الحديث بين مختلف فئات الرأي العام عن وجود صراع قبل ان يتلو الرئيس المنتخب قسمه الدستوري. المفارقه انه جري الإعتقاد بان هذا الصراع سيكون ثنائياً إلا انه تحول ثلاثيا؛ ثم رباعيا؛ بينما كان الرئيس - فيما يبدو- يحاول أن ينهي الموقف بسرعه وصولاً الي إن يكون له القرار الوحيد. استهدف الرئيس أن يقتنص من مساحة صلاحيات المجلس العسكري لكنه إصطدم بالقضاء.

إن التاريخ لايعيد نفسه بالضرورة علي الرغم من أن هذا هو الانطباع السائد. هناك تشابهات الشعور بها اقرب الي ان يكون (ديجافو سياسي) !

في هذه المره لايبدو ان تعدد رؤوس الحكم له علاقه بتطلعات اشخاص بقدر ماله علاقه بمساعي مؤسسات وكيانات يمثلها اشخاص.. الوحيد الذي لاتعضده مؤسسه رسميه في هذا التقاطع المرير هو الرئيس المنتخب.. ذلك ان (الرئاسه) كمؤسسة لم تستعد بعد مكانتها وقدرتها علي إدارة الامور. واذا كان يجد تعضيداً - من وراء ستار- من الكيان غير الرسمي الذي ينتمي اليه (مؤسسة الاخوان) فذلك ليس لانها تخوض الصراع من أجله وإنما من أجل ذاتها؛ ولو اقتضي الامر أن تدفع به الي آتون قرارات ليست معروفه الابعاد كما جري في شأن قرار اعاده تفعيل مجلس الشعب الذي حكمت ببطلانه المحكمه الدستوريه ورأي الرئيس غير ذلك.

في المقابل كانت هناك المؤسسه العسكريه التي تعاملت مع الموقف بتؤده ملفته ومثيره لقلق من ينتظرون ان تتحرك بسرعه.. والمؤسسه القضائيه التي حاولت ان تواجه الاتهامات بانها مسيسه ولديها دوافع في مكنون مواقفها ليست هي القانون وحده.

الكثير من المصريين تسارعت أنفاسهم وهم يتابعون لهاِثا وقائع تلك الازمه التي تفجرت فجأه بعد قرار الرئيس. (الادرينالين السياسي) أراد أن يصل الي المشهد الاخير من الازمه فوراً.. وذهب الخيال الي حد تصور ان دبابات الانقلابات العسكريه سوف تتحرك في الشوارع وتحيط بقصر الرئيس، لكن الازمه خضعت لمعادلات ٢٠١٢ التي لن تقبل - لاسباب دوليه بالاساس - حدوث الانقلابات؛ وأخذت وقتا اكثر من المتوقع حتي ولو كان ايقاعها سريع.

إن فئات الرأي العام التي تابعت الامر تعاملت مع الموقف علي انه يجب ان يحسم وفقا لقواعد مباريات (الملاكمه) التي تنتهي بالنقاط أو الضربه القاضيه.. في حين أن حقيقه الامر وقواعد التفاعلات الجديده تقول أننا بصدد مباراه (شطرنج) سوف تستمر فتره من الوقت.. حتي لو قال لاعب لمن ينافسه من وقت لآخر (كش ملك). إن (كش ملك) لن تنهي ادوار اللعب في مصر بعد حركه او اثنتين او ثلاثاً.

ماهي محصله هذه الازمه، وهل خسرها الرئيس المصري، ومن خلفه جماعة الاخوان، بعد ان اصدرت المحكمه الدستوريه حكماً بايقاف قراره الذي اعاد به مجلس الشعب ؟.. هناك عده نقاط :

1.دخلت الي ساحه المعركه دون قصد من الرئيس سلطه القضاء واصبحت اللاعب الرابع في المعادله التي تدير الحكم.
2.ثبت بما لايدع مجالا للشك أن القوات المسلحه لن تذهب بعيداً في مختلف المواقف التاليه بدءاًمن اللحظه الاولي، وانها قد تترك مساحات شاغره لقوي أخري تقوم هي بادوار بديله، لاينبغي ان تقوم هي بها. إن المجلس العسكري لايحظي بدعم شعبي كاف؛ كما انه يواجه حسابات دوليه معقدة، في ذات الوقت الذي يريد الا يخسر دوره في معادله الحكم.
3.انقضي تماماً - حتي اللحظه - الحديث المتداول عن وجود صفقات أو اتفاقات في الكواليس بين العسكريين والاخوان، واثبت الاخوان انهم يمكن ان يأخذوا قراراً في لحظه يؤدي الي تعريض مواقع المجلس العسكري لخسائر كامله..ولهذا نتائجه.
4.ثبت يقيناً أن إنتهاء الإنتخابات الرئاسيه المصريه لايعني أن (المرحله الإنتقاليه المصريه) قد إنتهت بل أنها بدأت.عاصمتان رئيسيتان هما واشنطن وباريس أصرتا علي وصف الوقت الحالي في مصر بانه (انتقالي).. وأكدتا علي وجوب إحترام القانون..وكررت واشنطن انها حريصه علي أن تتفاعل مع كل الاطراف؛ مايعني انه لن يكون هناك احتكار لطرف مصري علي حساب اخر للعلاقات مع الولايات المتحده.. لا الرئيس ولا المشير، لا العسكريين ولا الاخوان !
5.من طبائع المراحل الانتقاليه انه يمكن ان تؤدي تصرفات الأطراف الي حدوث تعديل في مواقعها بالسلب أو بالايجاب.
6.يحتاج الرئيس الي وقت طويل ومواقف متراكمه متتاليه لكي يبني (مصداقيه سياسيه) تعيد اليه مافقده بعد صدور حكم الدستوريه بايقاف قراره، والاهم الي اعاده بناء جسوره مع مؤسسه القضاء..وهي جسور تهدمت بمجرد أن كون القضاء رأياً بانه يطيح بقرارات المحكمه الدستوريه متعمداً.
كاتب سياسي مصري
مستشار الرأي الكويتيه بالقاهرة
[email protected]