من اللحظه الاولي لـ(الثوره المصريه) تفجر الحديث حول مستقبل وضع الجيش في تكوين الدوله، معبرا عن رغبه متصاعده في اعاده صياغة العلاقات المؤسسيه التي كان مركزها هو (الجيش المصري) منذ تأسست اشرعيه يوليو سنه ١٩٥٢. بدءاً من تلك اللحظه الاولي طُرحت علي الجيش - في مختلف السيناريوهات - تصورات بناء وضعيه جديده تحاكي (النموذج التركي) في العلاقه بين منظومة التفاعل الديموقراطي والمؤسسه العسكريه. وبينما يكابد الجيش لكي يتموضع سياسيا مجدداً بطريقه لاتضيع قدراً أكبر من مكاسبه خصوصا تمحور بناء الدوله حوله، كان ان ادت متغيرات عشر سنوات في المنطقه الي تغييرات مهوله في اوضاع ثلاث جيوش عربيه رئيسيه : المصري، السوري، العراقي.
الحقيقه الجوهريه هنا هي ان التغيير الذي تعرضت له تلك الجيوش كان ناتجا عن تفاعلات لها علاقه بما جري داخل الدوله لا نتيجه لخوضها صراعا خارجه او علي حدود الدوله : غزو العراق - ثورة مصر - ثورة سوريا. الحقيقه الجوهريه التاليه هي انه نتيجه لهذا التغيير في اوضاع تلك الجيوش العربيه الرئيسيه سيحدث تعديل عميق في المعادله العسكريه للصراع العربي - الاسرائيلي.
غالبيه الجيوش الرئيسيه في منطقه الشرق الاوسط، في مجاليها العربي وغير العربي، كانت ولم تزل لها دور محوري في بنيه الدول، ايا ماكان مستوي ديموقراطيتها، وايا ماكان قدر اندماجها في الحياه العامه. ويعود هذا الي سببين جوهريين. الاول هو ارتباط نشأه او تطور غالبيه تلك الجيوش مع عمليه التحرر الوطني او عمليه بناء الدوله في حد ذاتها، والثاني هو ان غالبيه نفس الجيوش كانت عنصرا جوهريا في الصراع الرئيسي والتاريخي في المنطقه ونعني به الصراع العربي - الاسرائيلي.
لقد تمحور بناء اسرائيل علي نشوء (جيش الدفاع) الذي تعود جذوره الي مجموعه من العصابات والميليشات الصهيونيه منذ عشرينات القرن الماضي و قبيل اعلان الدوله في مايو ١٩٤٨. واستقر كيان الدوله التركيه مستندا الي الجيش (حامي الكماليه العلمانيه) لفتره طويله قبل ان يتطور تدريجيا نحو صياغة علاقات جديده في منظومه الحكم من مرحله الي اخري بدءا من منتصف الثمانينات. كما ادت الثوره الايرانيه في ١٩٧٩ الي ارتكاز بناء الدوله حول مجموعه من المؤسسات العسكريه، في صدارتها الجيش المحترف وبالقرب منه الحرس الثوري الايراني. ليس بعيدا عن هذا، وفي اقصي نقطه من النطاق الجغرافي للشرق الاوسط الكبير اعتماد بنيه الدوله في باكستان علي الجيش المهيمن سرا وعلنا علي علاقات ومعادلات وتوازنات الحكم.
في الجانب العربي : ارتكزت مجموعه من الدول في بنائها علي محورية دور الجيش، كان لكل منها انغماسه في الحياه السياسيه بشكل مباشر او غير ذلك. في مقدمتها : الجيوش المصري، السوري، العراقي، الجزائري، الليبي.. وبدرجه اقل نوعا ما في السودان ثم الاردن. ان الملاحظه الجوهريه هنا هي ان انظمه الحكم التي اخذت الشكل الجمهوري استندت الي تلك البنيه العسكريه.. في حين كانت الانظمه الملكيه تتسم باختلاف في استنادتها الداخليه وفي تكوين بنيه الدوله.
تحكمت الجيوش في تحديد ابعاد ( الامن القومي ) لكل من تلك الجمهوريات، ووفقا للبعد الجغرافي من نطاق الصراع العربي - الاسرائيلي فان هذه الجيوش ربطت بين محوريه دورها الداخلي ومعضله الصراع. يمكن في هذا السايق فهم ان شرعيه انظمه الحكم بنيت علي اساس انها تقوم بدور ما لاغني عنه - وفق تصورها - في تحقيق انتصار لم يتم في الصراع العربي - الاسرائيلي. ومن ثم وضعت القضيه الفلسطينيه في صدارة اجندات الدول.. وفي هذا السياق نصل الي سبب آخر ادي الي ان تكون الجيوش هي المصدر الاول لحكام تلك الدول او قياداتها الاخري المختلفه.
بمضي الوقت اتسعت المسافه مابين العقيده الايديولوجيه المعلنه لتلك الجيوش والواقع العملي الذي هو منسوب اليها. ان انجازها الحقيقي في الصراع العربي - الاسرائيلي اقتصر علي ماقام به الجيش المصري في حرب ١٩٧٣.. في المقابل كان الجيش السوري يواجه طعنا مؤثرا في شرعيته باستمرار احتلال الجولان، وانغماسه في عمليات عسكريه داخل دوله عربيه هي لبنان. وكان جيش العراق متورطا في حروب بعيده عن نطاق الصراع الاصلي كما جري في حربه الممتده مع ايران ثم حربه ضد الكويت.. ولم تعرف عن الجيش الليبي او الجيش الجزائري علاقه وثيقه بالصراع العربي - الاسرائيلي لاسباب بنائيه وجغرافيه. وبينما تورط الجيش الجزائري في حرب اهليه داخليه استمرت مالايقل عن عشر سنوات ضد جماعات التطرف.. كان جيش السودان بدوره منجرفا حتي اذنيه ضد جماعات انفصاليه في جنوب السودان.. واستخدم العقيد معمر القذافي في ترسيخ حكمه الذي اطاحت به ثوره مارس ٢٠١١.
خرج جيش العراق من معادله دولته ومعادله الاقليم برمته حين صدر قرار حله من المحتل الامريكي بعد غزو العراق في ٢٠٠٣، فاتحا بذلك عقداً من الزمن، لم تكن ملامحه قد تحددت بعد. ثم مع خروج الجيش السوري من لبنان فانه واجه نكوصه عن اساس شرعيته المعلنه وهو انه غير قادر علي ان يحرر ارضه السليبه في الجولان ولايفكر في ذلك.. الي ان كشر عن انيابه ضد ابناء وطنه.. منهيا بذلك شرعيه وجوده بتحوله الي قوه حمايه نظام لايمانع اطلاقا في ذبح شعبه من اجل ان يبقي في الحكم.
جيش مصر، باعتباره الجيش العربي الرئيسي، عاش في الاربعين عاما الماضيه علي مجده العظيم المتحقق في انتصار اكتوبر ١٩٧٣، لكن هذا المجد كان يجد دوما حملات معنويه ونفسيه تريد الانتقاص من تلك المكانه.. لانه لايلبي النداءات التي تريده ان يذهب بعيدا في ابعاد الصراع العربي - الاسرائيلي. ومن المثير انه واجه حمله مقارنات مع ماقام به حزب الله في حرب يوليو - تموز ٢٠٠٦ في مواجهه الهجوم الاسرائيلي علي لبنان، علي الرغم من كونه جيشا نظاميا محترفا وحزب الله جماعه تصنف علي انها ( حركه مقاومه). ومن ثم فان الجيش المصري نودي عليه في حرب غزه (٢٠٠٨- ٢٠٠٩).. في حين انه ظل ملتزما بما توجبه عليه اتقاقيه السلام بين مصر واسرائيل.
بنشوب الثوره المصريه في يناير ٢٠١١،فان الجيش المصري الذي عرف بدايه بانه حامي الثوره والذي ادي الي انتصارها لانه لم يواجهها، انغمس الجيش في عمليه سياسيه داخليه معقده، جعلته طرفا في نزاعات التوجهات المتباينه بين تيارات سياسيه مختلفه، وقد تعرض لضغوط كبيره جدا.. لاسيما وانه كانت ولم تزل لديه وجهه نظر مؤثره واساسيه في المسائل التاليه :
١- طبيعه وجود الجيش نفسه في البنيان السياسي للدوله.
٢- دور الجيش - قبولا او رفضا - في عمليه تعديل هويه الدوله التي تريدها جماعات دينيه.
٣- عمليه اعاده رسم نظريه الامن القومي المصريه واستحقاقاتها السياسيه والعسكريه.
ان لكل واحده من تلك المعضلات المعقده ابعادها التي لاتعد ولاتحصي، وسوف تنكشف بعض ملامح الصوره الاوليه لها حين تكتمل صياغه الدستور المصري الذي يكتب الان. ستكون صوره اوليه لانه لايمكن القول انها سوف تكون نهايه تشكيل بنيه الدوله المصريه بعد ثوره ٢٥ يناير. ومن ثم يكون الجيش المصري رغم كل الملاحظات والانتقادات التي توجه اليه في الواقع الداخلي المصري هو الوحيد من بين الجيوش العربيه الرئيسيه، خصوصا الثلاث الكبري الذي افلت ببنيانه من عواصف المتغيرات التي بدأت في سنه ٢٠٠٣.
هذه المتغيرات اخفت الجيش العراقي من الوجود، وجعلت من الجيش السوري (قاتلا لشعبه).. بينما يناضل اجيش المصري لكي يحافظ علي رصيده وشرعيته واحترافه. وخلاصه ذلك ان معادله الصراع العربي - الاسرائيلي التي كانت فيها تلك الجيوش تمثل طرفا له قيمته لم تعد كما كانت ولذلك اثاره العديده في المستقبل. كما انه مع التغييرات التي طرأت علي الجيوش العربيه (كثيفه العدد) صارت القوي العسكريه الرئيسيه في الاقليم الان غير عربيه..وهي جيوش : ايران وتركيا واسرائيل ولذلك ابعاده ونتائجه كذلك.
كاتب سياسي مصري
مستشار الراي الكويتيه بالقاهره
[email protected]
التعليقات